تأملات فى سورة المرسلاتأ.د. ســلامه عبد الهادي
أستاذ في علوم إدارة الطاقة وعميد سابق للمعهد العالي للطاقة بأسوان
هيأ لنـا الحق نعمة علم و تعلم القرآن رحمة منه و فضلا... و كل آية من آيات القرآن تعبر عن أدق الأسرار بقدر ما تتيحه لنا علوم كل عصر.. فتتدرج من أعم العموم إلى أخص الخصوص فى سهولة
و يسر ودقة وإتقان بقدر ما يستوعبه أيضا كل منا من معاني وبقدر ما هيأه له الرحمن من علم.. ونحن لا نعرض فى هذه الحلقات إعجاز القرآن فى سبقه و علمه و إشاراته... فالقرآن معجز لأنه من عند الرحمن، ولكنا ننفذ أمر الله بالتدبر فى آيات كتابه وتأملهـا بحسب ما مكنا به الخالق من يسير علوم الدنيا، وما أدناهـا عن علم القرآن... إننا نحاول أن نطيع أمر الله و نأخذ ما فى كتابنا بكل ما أويتينا من قوة العلم و الهدى و الاجتهاد و نذكر ما فى آياته لعلنـا نكون حقا من الشاكرين، إنهـا محاولة لقراءة أو استقراء آيات الكون الذي خلقه الله بما تهدينا إليه آيات القرآن التي بعثهـا الله.. و نقف فى هذه الحلقة أمام آيات من سورة المرسلات... ويتكرر فى هذه السورة فى عشر آيات توعد الحق لهؤلاء المكذبين بكتاب الله و المصروفين عن آياته بهذا الوعيد الذي جاء بقوله سبحانه و تعالى
"ويل يومئذ للمكذبين"... و تبدأ أول السورة بإشارات وعلامات يوم القيامة التي نرى منهـا اليوم الكثير... ثم تتوعد المكذبين بما سيلقونه فى هذا اليوم من العذاب فى وادي "الويل" من جهنم وبئس المصير بهذا القول الفصل
"ويل يومئذ للمكذبين"... ثم يذكرهم الخالق فى الآيات التالية بأصل نشأتهم الذي جاء من مـاء مهين يمنيه الرجل فى أنثاه من مخرج بوله، وهذا رداً على استكبارهم وصلفهم، ثم يذكرهم بأنه يتغمد هذا الماء المهين برحمته إذا خصب بويضة الأنثى فى قناة المبيض، فيحفظه فى قرار مكين حريز فى
ظلمات ثلاث وهو رحم الأنثى، أعده الرحمن حيث تستقر فيه هذه النطفة إلى وقت معلوم قدره لهـا رب العالمين، وفى هذا الرحم تتجلى رحمة الله و قدرته وحكمته... حيث يمد هذه النطفة بما ييسر لهـا النمو والحركة والتنفس داخل هذه الظلمات، مكونة الجنين ثم يخرجه إلى الحياة طفلاً كاملاً له السمع و البصر والقدرة على الحركة والحياة... يذكرنا الحق بهذه النعم والأسرار فى كلمات موجزة و معجزة فى هذه الآيات، حيث يقول الحق "ألم نخلقكم من ماء مهين.. فجعلناه فى قرار مكين.. إلى قدر معلوم.. فقدرنا فنعم القادرون "... و لن أتعرض فى هذا اللقاء لهذه الآيات الكريمة التي تذكر هذا الاستفسار من رب العالمين و الذي تتجلى فيه ما يدحض قول كل مكذب بيوم الدين وبهذا الكتاب الكريم، إنهـا آيات استوعبت فى كلمات
صورة لطفل صغير في رحم أمه فسبحان الله الذي أتقن كل شيء
محددة ومعدودة أسرار هذا الماء المهين و أسرار الرحم الذي أودعه الله أسرارا تجعل من هذا الماء المهين نشأتنا ونشأة خلق هؤلاء المكذبين... إنهـا تذكرة بأسرار رحمة الخالق بنـا في أثناء أطوار الجنين المعجزة والمختلفة إلى قدر معلوم فى هذا القرار المكين والتي ما زال العالم يحبو ليكشف أسراره و ما زال أمامه الكثير... ولكنى سأتوقف فى هذه الحلقة أمام الاستفسار التالي والذي يكشف عن أسرار رحم أخر وقرار آخر جاء ذكره فى الآيات التي تلت مباشرة تذكرتنا بالرحم الأول أو القرار الأول... إنه رحم كبير أعده الله لنا.. إنه قرارا آخر تستقر عليه حياتنا أيضا إلى وقت معلوم... إنه الكوكب الذي يسره الله لنا كي ننعم برحمة الله علينا فى كل لحظة نعيشهـا و نحياهـا عليه... إنه كوكب الأرض الذي جعلهـا الله لنـا مهدا للحياة و محتضنا لأجسامنا بعد الممات... إنه القرار المكين التالي الذي يستقبل الطفل بعد أن يخرج من القرار المكين الأول... و لهذا جاء ذكره فى السورة الكريمة فى تسلسل منطقي بعد هذه الآيات.. فيأتي قول الحق فى استفسار آخر يلي مباشرة الاستفسار الأول عن نشأتنا من ماء مهين أودعه الحق فى قرار مكين..
" ألم نجعل الأرض كفـاتاً...أحياءً و أمواتـا "... يضع الخالق أمامنا أيضا فى هذا الاستفسار سراً آخر من أسرار الخلق ومن أسرار هذا الكون الذي تحتار فيه الألباب... وهذا السر جعله البشر قضية يحارون فى الحفاظ عليه وينسون من أعده وأعد الحفاظ عليه... يسمونه بالبيئة فيقيمون لهـا الوزارات و المؤتمرات.. وطبقا لتسلسل الآيات فهو حقاً رحم آخر ينتظر الإنسان بعد خروجه من الرحم الأول أو أول قرار مكين، و لكن هل يحتاج الإنسان حقاً لرحم آخر بعد ولادته... وللإجابة عن هذا السؤال تعالوا ننظر إلى رواد الفضـاء عندما يذهبون إلى القمر... إنهم يدخلون بالفعل داخل رحم آخر يحيط بجسدهم تحت الضغط ودرجة الحرارة ونسبة الرطوبة التي تناسب أجسامهم كما فى رحم الأم، ويكون لديهم حبل سرى آخر يمدهم بالغذاء والماء والهواء كما فى رحم الأم، وحبل لخروج الهواء الفاسد بعد استهلاكهم الهواء النقي وحبلاً كذلك لإخراج فضلاتهم وإعدامهـا حتى لا تلوث الرحم الذي يعيشون فيه كما فى رحم الأم... وإذا انتهى ما يكفيهم من العناصر المطلوبة لبقائهم أحياءً انتهت حياتهم، فلا يوجد على سطح القمر معظم العناصر إلى تحتاجهـا أجسامهم، وإذا وجدت فلا وجود للنبات الذي يعد لهم طعاماً من هذه العناصر بحيث تستطيع أمعاءهم أن تمتصه أو تهضمه... و إذا وجد النبات فليس أمامه الظروف الجوية التي تتيح بقائه أو العناصر التي يمكن امتصاصهـا وإعداد الطعام المناسب منها.. وإذا مات أحد منهم فلن يستطيعوا البقاء أحياء عندما يتعفن جسد زميلهم مفسداً لهم هذا الرحم الصناعي الذي يحيون فيه... كلا.
هل يشكل لهم القمر القرار المكين.. كلا .. فالآن . يرون فوق القمر فى قفزات ولا تستقر حركاتهم.. و الآن .. ألا ننظر من أعد للبشر جميعاً هذا الرحم الكبير الذي يضمهم ويوفر كل أسباب هذه الحياة لهم و الاستقرار.. لقد وجه الخالق هذا الاستفسار فى كلمات معدودة تذكر المكذبين أن يقرأوا آيات الكون الذي يتمتعون بالحياة فيه و هذا إذا تعلموا قراءة آيات القرآن ... أن ينظروا كيف تستمر حياتهم بعد خروجهم من أرحام أمهـاتهم... أنهم يعيشون فى رحم آخر يكفلهم و يكفيى مؤنهم فى كل لحظة يعيشونهـا على الأرض .. إنه حقا قرار مكين آخر... يسألنا الحق بهذا الاستفسار و هذا البيان و هذه التذكرة.. من أعد لكم هذا القرار الآخر بميزان دقيق و فى منظومة هائلة كي يضمكم و يكفلكم و يكفيكم أحياء و أمواتـا ... ما رد المكذبين الذين يجدون فى صعود القمر تقدما علميا على هذا السؤال أو الاستفسار.. ألم نجعل الأرض كفـاتا.. أحياءا و أمواتا... لقد خص الله هذا الكوكب الذي نحيا عليه و هو الأرض بما يؤهله ليكفل و يكفى حياة الأحياء عليه و يكفلهم و يكفيهم أيضا بعد موتهم... و قد ذكر المفسرون أن الكفت يعنى الجمع و الضم كالأم تضم أبنائهـا أو الرحم يضم جنينه و يكفله، وكلمة كفاتا تعنى جمع الكفت فهي حقا ليس رحما واحدا و لكنهـا أرحام و أرحام و أرحام، ثم نجد أن حروف الكلمة تعنى أيضا الكفاية.. أي أن الأرض توفر ما يكفى من تضمهم و تكفلهم فى رحمهـا أو أرحامهـا... أن من ينظر إلى هذه الأرض التي تضمنا بالرغم من مواردهـا المحدودة.. ويسأل نفسه ويتدبر.. من أدارهـا و من يديرهـا طوال هذه الملايين من السنين بحيث يكون لديها ما تقدمه إلى هذه الملايين أو المليارات من البشر ومليارات المليارات من الأشجار والنباتات والحيوانات والحشرات و الطيور من غذاء و هواء وماء طوال ملايين السنين التي عاشتهـا وستعيشهـا الأرض... تكفلهم أيضا بفضلاتهم وأجسام موتاهم وفضلات الحيوانات وأجسادهـا حين موتهـا دون أن تصبح الحياة مستحيلة عليهـا... من ينظر إلى عدد سكان الأرض منذ خمسة قرون فقط و الذي لم يكن يتعدى 500 مليون نسمة، و الآن يزيد هذا العدد عن 6.5 مليار نسمة... من ينظر كم طنا من الغذاء يستهلكه كل منا و كم برميلا من الماء يشربه كل منا و كم مترا مكعبا من الهواء يحتاجه كل منـا خلال حياته.. إن متوسط ما يستهلكه الإنسان فى عمره إذا بلغ 60 عاما هو 60 طن من الحبوب و المحاصيل الزراعية، يمكن أن يكون جزءً منهـا من المصادر الحيوانية مثل الألبان و لحوم الطيور و الأنعـام، و يحتاج هذا الكم من الحبوب و المحاصيل إلى 100.000 (مائة ألف ) متراً مكعباً من المـاء العذب لزراعتهـا، و تقدر الطاقة التي يحتاجهـا جسم هذا الإنسان خلال سنوات عمره للحركة والحياة والتي يختزنهـا ويعدها له النبات من الشمس بحوالى 60.000 كيلو وات. ساعة، وهي طاقة تدفع عربة جيب قوتهـا 100 حصان زمنا قدره 1000 سـاعة... من أعد الموارد والمصادر لتقديم كم هذا الطعام والشراب وهذه الطاقة لهذه المليارات من البشر، ثم لأنعامهم و زروعهم، علاوة على ما يسكن الأرض من أحياء أخرى معهم.. هذا علاوة أيضا على استيعاب كم الفضلات التي تخرج منهم بعد غذائهم ثم عند موتهم... من دبر أمر كفالة كل هؤلاء البشر بهذه الرحمة و البركة... من أعد هذا الرحم الكبير بكل ما فيه وما عليه ... سؤال تثيره الآية الكريمة فى القرآن الكريم والتي توجهنا إلى استقراء آيات الله فى هذا الكون الكبير... توجيه جاء هيئة على استفسار رباني كي نفيق من غفوتنا ونحن نتحدث عن البيئة دون أن نفطن من أوجد و خلق و أعد هذه البيئة بكل هذه المقومات كي نحيا عليهـا و فيهـا ومنهـا.. من دبر أمر إدارتهـا و هدايتهـا بهذا الميزان بحيث تعوض ذاتياً استهلاك مواردهـا و تجددها بحيث لا تنضب... من ثم من ثم من ؟؟؟ ... تأتى الآية الكريمة فتخبرنا أن خالقهـا هو الذي جعلهـا هكذا... فلا حيرة و لا تخبط... ولا تنسى أن كلمة الأحياء والأموات فى الآية الكريمة لا تعنى البشر وحدهم، بل هناك أعضاء المملكة النباتية والحيوانية والميكروبية.. أحياءهم وأمواتهم.... و كلهم قد سخرهم الله لخدمة البشر، الذي جعله الله خليفته فى هذه الأرض... كيف هذا؟ .. علينا أن نقرأ هذا الكون ونحن نتدبر آيات خالقه وكتابه الذي ختم به رسالاته إلى الأرض...