بين بعض القراءات القرآنية وبعض القواعد النحوية
المثال الثالث
قال - تعالى -: (وكذلك نُجِّي المؤمنين)[18]
وهذه قراءة ابن عامر ببناء الفعل "نجي" للمجهول مع تضعيف الجيم وكسرها وتسكين الياء ثم نصب "المؤمنين"[19]
وقد خطأ هذه القراءة أبو حاتم والزجاج وقالا: فيها لحن ظاهر حيث نصب اسم ما لم يسم فاعله، وإنما يقال: نُجِّـــى المؤمنون وكُرم الصالحون. [20]
ودافع عن القراءة من النحاة الفراء وأبو عبيد وثعلب وقالوا: نائب الفاعل هو المصدر المحذوف والتقدير: وكذلك نجي النجاء المؤمنين، كما تقول ضُرب زيدا بمعنى ضُرب الضربُ زيداً. ومنه قول القائل:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب*** لسب بذلك الجرو الكلابا
أي لسب السب بذلك الجرو الكلابا.
وفي الإتحاف: أن الأصل ننجى حذفت إحدى النونين استثقالاً لتوالى المثلين. [21]
وقد اعترض على هذه القراءة أيضاً بأن الفعل "نجي" وهو ماض جاء ساكن الآخر، والأصل أن يأتي مفتوحاً.
وأجيب عن ذلك بأن تسكين ياء الماضي جاء على لغة من يقول: بقي ورضي دون تحريك الياء استثقالاً لتحريك ياء قبلها كسرة، ومنه قول القائل:
خمر الشيب لمتى تخميرا*** وحدا بي إلى القبور البعيرا
ليت شعري إذا القيامة قامت*** ودُعِي بالحساب أين المصيرا
حيث سكنت ياء دُعي استثقالاً لتحريكها وقبلها كسرة.
المثال الرابع:
قال - تعالى -: (لِيُجزى قوماً بما كانوا يكسبون) [22]
ببناء الفعل (يُجزى) للمفعول، ونصب (قوماً)، وهذه قراءة أبى جعفر وهو من الثلاثة تتمة العشرة، وقد مضى بنا قول الزرقاني في التحقيق: إن العشر متواترات.
وقد عاب بعضهم هذه القراءة وقالوا: هي لحن ظاهر[23]، ووجهتهم أن نائب الفاعل فيها جاء منصوباً وحقه الرفع. وهؤلاء ظنوا أن (قوماً) هو نائب الفاعل، والواقع أنه محذوف وفي تقديره وجهان:
الأول: ليجزى الخير والشر قوما، ورجحه العكبري [24] والبيضاوي [25].
الثاني: أن يكون القائم مقام الفاعل هو المصدر، والتقدير: ليجزى الجزاء قوماً.
والجزاء هنا هو ما يجزى به، وهو في الأصل مفعول ثان ليجزى، قال زاده: المفعول الثاني للأفعال التي تتعدى إلى اثنين يجوز إقامته مقام الفاعل، فنقول: أعطى درهمُ زيداً، وجزى تتعدى إلى اثنين، تقول جزيت فلاناً الخير، فإذا بنيتُه للمفعول أقمت أيها شئت مقام الفاعل. [26]
وحاصل الرد على من يخطئون قراءة (نجي المؤمنين) وقراءة (ليجزى قوماً) أن القراءتين متواترتان، فلا يصح القدح فيها، ولئن ادعى البصريون - إلا الأخفش - أنهما تخالفان قاعدة نحوية تقول بتعيين إقامة المفعول مقام الفاعل إذا وجد بعد الفعل المبنى لما لم يُسمَّ فاعله، أو تقديمه على سواه من مصدر أو ظرف أو جار ومجرور، فإننا نقول لهم:
كان الواجب عليكم أيها البصريون، أن تصححوا قاعدتكم لتمضى مع هذا القرآن المتواتر، وأن تمضوا مع الكوفيين في هذا الشأن الذين مضوا مع ما قعده القرآن ولم يخالفوه، ولم يجترؤوا على ما اجترأتم عليه، وقالوا: إذا وجد بعد الفعل الذي لم يسم فاعله مفعول وغيره جاز أن يقوم مقام الفاعل غير المفعول من مصدر أو غيره، واستدلوا بهذه القراءة (ليجزى قوما).
وجاء في الشعر العربي ما يؤيد ذلك كقول القائل:
لم يُعن بالعلياء إلا سيداً*** ولا شفي ذا الغي إلا ذو هدى
حيث ناب الجار والمجرور، وهو قوله بالعلياء عن الفاعل مع وجود المفعول وهو: سيداً.
ومثله قول القائل:
وإنما يرضى المنيب ربه*** ما دام معنياً بذكر قَلْبَه
والشاهد: معنياً بذكر قَلْبَه، حيث ناب الجار والمجرور، وهو بذكر عن الفاعل، مع وجود المفعول به في الكلام وهو: قلبه، بدليل أنه أتى به منصوباً[27]
وبناءً على ما نقلناه من حاشية زاده قريباً، تكون إقامة المصدر إقامة نائب الفاعل - في القراءتين - ليس لاعتبار كونه مصدراً، وإنما لكونه مفعولاً ثانياً، ويكون قد تحقق ما عارض البصريون القراءتين لأجله، يبين بذلك القصور الشديد الذي استحوذ على البصريين في معارضة قراءتين متواترتين.
القاعدة الحاسمة للخلاف في ذلك
نص القاعدة:
"القرآن الكريم هو الأصل الذي ينبغي أن تقعّد عليه اللغة، وبه تضبط قواعد النحو، فإذا ثبتت القراءة القرآنية لزم قبولها والمصير إليها، ولا ترد بقياس عربية ولا فشو لغة"[28].
توضيح القاعدة:
هذه قاعدة هامة جداً تحمى حمى القراءات القرآنية الثابتة من طعن بعض المعربين من المفسرين وغيرهم، إذ تقرر أن القرآن الكريم هو الأصل الذي ينبغي أن يصار إليه، وأن تقعّد عليه اللغة، وتضبط به قواعد النحو؛ لأن هذا القرآن هو المعجزة الكبرى لسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وقد نزل هذا القرآن عليه - صلى الله عليه وسلم - بقراءته الثابتة، وهو في مجابهة قوم هم أبلغ البلغاء، وأفصح الفصحاء، وهم قريش ومن أيدهم من العرب، ومع ذلك لم يطعنوا في القرآن من هذه الناحية التي اجترأ عليها من بعُد من خَدَمة القرآن والمدافعين عنه، ظناً منهم أن هذه القراءات منشؤها اجتهاد القراء، حيث غاب عنهم أن النقل مرجعها، هذا سبب من أسباب جرأة المعترضين على هذه القراءات من جهة اللغة والإعراب، وهناك سبب آخر أوقعهم أيضاً في الخطأ الذي لا يغتفر، وهو عدم إلمامهم الكامل بجميع أوجه العربية، وقد لاحظت ذلك حين معالجة هذا الموضوع، حيث بان لي أن كل ما اعترضوا عليه له في العربية وجوه متعددة في أكثر الأحيان، وليس وجهاً واحداً، مع أن المعروف أنه يكفي لإثبات القراءة وقبولها موافقتها للعربية ولو بوجه واحد، مع توفر الشرطين الآخرين الذين سبق ذكرهما غير مرة.
ومن ثم فإنه لا يجوز مطلقاً الطعن في قراءة ثابتة؛ لأنها قرآن منزل من عند الله - تعالى -، يحتج به ولا يحتج عليه ببيت من الشعر، ولا بقاعدة نحوية هي من وضع البشر، هناك ما يخالفها أيضاً من كلام البشر.
قال أبو عمرو الداني: أئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة؛ لأن القرآن سنة متبعة، يلزم قبولها والمصير إليها. [29]
شبهة واردة على ما قررته القاعدة
قد بان لنا من خلال ما قررته القاعدة، أن القراءة المتواترة لا يقدح في قرآنيتها مخالفتها لقواعد النحو، إذ الأصل أن تمضى القاعدة مع ما قعّده القرآن.
ومع ذلك فقد بان لنا من خلال الأمثلة والنماذج المطروحة، أن ما زعموه من مخالفة هذه القراءات لقواعد نحوية ليس كذلك، إذ لهذه القراءات وجوه في العربية، وأصول ترجع إليها، وقد دعمنا هذه النتيجة بكلام العرب في كل ما وجهنا به هذه القراءات المفترى عليها، والفضل في ذلك يرجع إلى علمائنا الأفذاذ المخلصين لربهم ودينهم الذين ذادوا عن حياض القرآن كل فرية ودفعوا عنه كل شبهة.
لكن وردت بعض روايات مسندة إلى السيدة عائشة – رضي الله عنها -، والى عثمان – رضي الله عنه -، والى سعيد بن جبير، تفيد هذه الروايات أن في القرآن المتواتر الذي نتعبد الله به لحناً هو من تصرف كتاب الوحي، ومع ذلك فقد تلقته الأمة بالقبول على ما فيه من لحن ظاهر باعتراف أفاضل الصحابة، وهذه هي الآثار التي وردت في ذلك:
1- أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن عن أبى معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله - تعالى -: (إنّ هذان لساحران)[30]، وعن قوله - تعالى -: (والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة) [31]، وعن قوله - تعالى -: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون) [32]، فقالت: يا ابن أختي، هذا عمل الكتاب أخطؤوا في الكتاب ا. هـ[33]
أي أن هذا الخطأ هو من عمل كتاب الوحي أثناء كتابة هذه الآيات، جاء في الإتقان للسيوطي: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. [34]
2- وأخرج أبو عبيد أيضاً عن عثمان - رضي الله عنه - أنه لما كتبت المصاحف عرضت عليه، فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: لا تغيروها، فإن العرب ستغيرها - أو قال - ستعربها بألسنتها.
3- وعن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ (والمقيمين الصلاة) ويقول: هو من لحن الكتاب.
الرد على الشبهة
نحن هنا أمام شبهة من وجهين:
أحدهما: آثار يجب نقدها، والرد عليها، وتوجيهها على فرض صحتها.
وثانيهما: كلمات من القرآن الكريم في جمل ادعى أنها خالفت قواعد العربية فما وجهها؟
أولاً: فيما يتعلق بالآثار:
أ- بالنسبة للإسناد الأول الذي نقل عن طريق عائشة -رضي الله عنها -جاء في الإتقان: إنه إسناد صحيح على شرط الشيخين، وفي هذا الحكم نظر حيث إن أبا عبيد رواه عن أبى معاوية الضرير، واسمه: محمد بن خازم التميمي.
وثق العلماء حديثه عن الأعمش، فقال وكيع: ما أدركنا أحداً كان أعلم بأحاديث الأعمش من أبى معاوية، وكذا قال ابن معين وغيره.
لكنهم عابوا أحاديثه عن غير الأعمش وقالوا: إنها مضطربة، فقال ابن خراش: هو في الأعمش ثقة وفي غيره فيه اضطراب.
وصرح الإمام أحمد بأن أحاديثه عن هشام بن عروة بالذات فيها اضطراب.
وقد اعتمد البخاري روايته عن الأعمش واحتج بها، وأما روايته عن هشام بن عروة، فلم يذكرها إلا في المتابعات لا في الأصول. [35]
وهذا يسقط الرواية من أساسها، ويجعلها غير صالحة للاحتجاج، فكيف القول بأنها على شرط الشيخين؟!.
ب- وأما بالنسبة للأثرين الآخرين فقد قال السيوطي: هي مشكلة جداً، ثم أضاف: كيف يظن بالصحابة أولاً أنهم يلحنون في الكلام فضلاً عن القرآن وهم الفصحاء اللُّد؟ ثم كيف يظن بهم ثانياً في القرآن الذي تلقوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أنزل وحفظوه وضبطوه وأتقنوه؟
ثم كيف يظن بهم ثالثاً اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته؟
ثم كيف يظن بهم رابعاً عدم تنبههم ورجوعهم عنه؟
ثم كيف يظن بعثمان - رضي الله عنه - أنه ينهى عن تغييره؟
ثم كيف يظن أن القراءة استمرت على مقتضى ذلك الخطأ، وهو مروي بالتواتر خلفاً عن سلف؟
هذا ما يستحيل عقلاً وشرعاً وعادةً.
ثم علق - أي السيوطي - على الرواية المنقولة عن عثمان -رضي الله عنه - بقوله: إن ذلك لا يصح عن عثمان، فإن إسناده ضعيف مضطرب منقطع، ولأن عثمان جعل - المصحف الذي جمعه - إماماً للناس يقتدون به، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟
فإذا كان الذين تولوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك وهم الأخيار فكيف يقيمه غيرهم؟ ثم إن عثمان لم يكتب مصحفاً واحداً، ولكن كتب عدة مصاحف، فإن قيل: إن اللحن وقع فيها جميعاً، فبعيدٌ اتفاقها على ذلك، أو في بعضها، فهو اعتراف بصحة البعض.
ولم يذكر أحد من الناس أن اللحن كان في مصحف دون مصحف، ولم تأت المصاحف مختلفة قط إلا فيما هو من وجوه القراءة وليس ذلك بلحن. [36]
ج- هذه الروايات تخالف المتواتر عن عثمان -رضي الله عنه - في نسخ المصاحف، وجمع القرآن من الدقة والتحري ونهاية التثبت، بل يردها ما أخرجه أبو عبيد نفسه عن عبد الله بن هانئ البربري مولى عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاه إلى أبى بن كعب فيها (لم يتسن)، وفيها (لا تبديل للخلق)، وفيها (فأمهل الكافرين) قال: فدعا بالدواء فمحى أحد اللامين فكتب (لخلق الله)[37]، ومحا فأمهل وكتب (فمهّل)[38]، وكتب (لم يتسنه)[39] ألحق فيها الهاء. [40]
كيف يتفق ما جاء في الرواية التي نقدناها، مع هذه الرواية الثانية التي تصف عثمان - رضي الله عنه- بالدقة في مراجعة ما كان يكتبه النساخ، وتصحيح ما كانوا يخطئون فيه، وأنه لم يترك هذه الأخطاء لتقيمها العرب كما تقول الرواية الواهية.
د - وعلى فرض صحة هذه الآثار، فكلمة "لحن" فيها لا يقصد بها المعنى المعروف للحن وهو: الخروج على قواعد النحو، وإنما يعنى بها كما يقول العلماء: القراءة واللغة والوجه، كما ورد عن عمر قوله: أبي اقرؤنا وإنا لندع بعض لحنه - أي قراءته-. [41]
ويذكر السيوطي أن قول عثمان - إن صح - فإنما ينصرف إلى كلمات كتبت على هيئة مخصوصة، ورسم معين يخالف النطق مثل: (لا اذبحنه) [سورة النمل :21]، ومثل: (بأييد) [سورة الذاريات: 47] فإنها كتبت بياءين.
يقول السيوطي: فلو قرئ ذلك بظاهر الخط لكان لحناً [42]، فهذا معنى قول عثمان - رضي الله عنه- إن به لحناً ستقيمه العرب بألسنتها، فهو أشبه بالتنبيه إلى ضرورة أن يؤخذ القرآن الكريم عن طريق التلقين والمشافهة بواسطة شيخ، وألا يكون الاعتماد فقط على كتابة المصحف، فإنه كتب على هيئة مخصوصة تخالف النطق في أكثر الأحيان.
ثانياً: ما يتعلق بالآيات التي وردت في الروايات وتوجيهها
الآية الأولى:
قال - تعالى -: (إنّ هذان لساحران) بتشديد نون "إنّ"، وهى قراءة أهل المدينة والكوفة، وهى قراءة سبعية متواترة عن الأئمة. [43]
وقال الطبري: هي قراءة عامة الأمصار[44]
قال بعض النحاة في - جراءة -: هذه القراءة خالفت القاعدة في نصب "إن"، ولا شك أن هذا من اللحن.
الرد عليهم:
يرد على القائلين بذلك بأن القراءة متواترة، فلا يجوز ردها ولا تضعيفها بوجه من وجوه النحو لها في غيره محمل، فمن المقرر أن من ضوابط قبول القراءة موافقة اللغة العربية ولو بوجه، ولا يشترط الموافقة من جميع الوجوه، وقد سبق تقرير ذلك.
وفيما يتعلق بهذه القراءة التي معنا وجهت بما يلي:
1- قيل: إنها وافقت لغة بني الحرث بن كعب وزبيد وخثعم وكنانة بن زيد، فإن الألف عندهم تلزم المثنى رفعاً، ونصباً وجراً، فيقولون: جاء الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان.
وجاء في الشعر:
وأن أباها وأبا أباها*** قد بلغا في المجد غايتاها
وعلى القاعدة المعروفة: أبا أبيها، وغايتيها.
وجاء أيضاً:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى*** مساقا لناباه الشجاع لصمما[45]
وهذا الوجه من أقوى الوجوه التي تحمل عليها القراءة.
2- وقيل: إن "إن" حرف جواب بمعنى نعم، وعليه فما بعدها مبتدأ وخبر. [46]
وقد جاء في الشعر العربي ما يفيد مجيئها بمعنى نعم، ومنه قول القائل:
بكر العواذل في الصبو*** ح يلمنني وألومهنه
ويقلن شيب قد علا*** ك وقد كبرت فقلت إنه
أي: قلت: نعم.
وقد تناقل المفسرون وجوهاً أخرى يمكن أن تحمل عليها هذه القراءة غير أنهم في النهاية، رجحوا حملها على الوجه الأول الذي سلف ذكره.
الآية الثانية:
قال - تعالى -: (والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة) وهو جزء آية من سورة النساء، وهى قوله - تعالى -: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً)[47]
والشاهد في هذه الآية قوله: (والمقيمين الصلاة) حيث جاء منصوباً بين مرفوعين هما قوله: (والمؤمنون)، وقوله: (والمؤتون الزكاة).
هكذا اعترض على هذه الآية فادعى أن فيها لحناً وخطأً نحوياً، وإلا لتلقف المشركون هذا الخطأ؛ لأنهم عرب خلص، وهم يومئذٍ يتربصون بالقرآن بغية أن يجدوا فيه مغمزاً أو مطعناً، ولكن ذلك لم يحدث فدل على أنه لا لحن فيه.
هذا وقد وجّه النصب في (المقيمين الصلاة) بما يلي:
1- قيل: إن النصب فيه على المدح، والناصب فعل مضمر تقديره: أمدح، أو أخص المقيمين الصلاة. والعلة بيان فضل الصلاة ومزيتها.
يقول أحد الباحثين: النصب على المدح أو العناية لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، والنكتة هنا هي إظهار مزية الصلاة، كما أن تغيير الإعراب في كلمة بين أمثالها، ينبه الذهن إلى وجوب التأمل فيها، ويهدى إلى التفكير لاستخراج مزيتها، وهو من أركان البلاغة …، ونظيره في النطق أن يغير المتكلم جرس صوته، وكيفية أدائه للكلمة التي يريد تنبيه المخاطب لها كرفع الصوت أو خفضه أو مده بها. [48]
2- وقيل: إن الياء في (المقيمين) للخفض، لا للنصب عطفاً على الضمير المجرور في (منهم) -أي لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين، وقيل: بل عطفاً على الضمير المجرور في (إليك) -أي يؤمنون بما أنزل إليك والى المقيمين الصلاة وهم الأنبياء- [49]، أو عطفاً على الكاف في (قبلك) -أي من قبلك ومن قبل المقيمين الصلاة وهم الأنبياء-. [50]
والأرجح الأول، وهو الذي اعتمده سيبويه، حيث قال في كتابه: هذا باب ما ينتصب على التعظيم، ومن ذلك "والمقيمين الصلاة"، وأنشد شاهداً.
وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم*** إلا نميراً أطاعت أمر غاويها
الطاعنين ولما يطعنوا أحداً*** والقائلون لمن دار تخليها
الآية الثالثة:
قال - تعالى -: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً …) [51]
الشاهد قوله: (والصابئون) حيث رفع في مقام نصب لعطفه على اسم "إن"، وهذا خطأ في النحو عند من لم يفقهوا إلا أنه معطوف على اسم "إن"، فكان ينبغي أن يأتي منصوباً ليواكب ما عطف عليه.
ونقول: اللفظ لا لحن فيه كما ادعوا، ولكنهم عجزوا عن توجيه الرفع، وتوجيهه سهل إذ له عدة أوجه هي:
1- أن يكون قوله: (الصابئون) مرفوعاً بالابتداء، والواو قبله للاستئناف، والخبر محذوفاً، والنية به التأخير عما في حيّز (إن) من اسمها وخبرها.
كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكهم كذا، والصابئون كذلك، وقد رجح ذلك سيبويه وأنشد له شاهداً:
ألا فاعلموا أنا وأنتم*** بغاة ما بقينا على شقاق
أي: فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك.
وإذا كان (الصابئون) النية به التأخير، فلابد من حكمة تعلل تقديمه في الذكر، والعلة هنا التنبيه إلى أن الصابئين أشد إيغالاً في الضلالة، وعمقاً في الغواية، حيث لا عقيدة لهم ثابتة كالذين آمنوا، وكأهل الكتاب، ولكنهم - كما يذكر ابن القيم - يتخيرون من سائر ديانات العالم بعض شعائرها، ويتركون البعض ولم يقيدوا أنفسهم بجملة دين معين وتفصيله. [52]
وهذا الوجه أقوى الوجوه، وأرجح ما تحمل عليه الآية الشريفة.
2- وقيل: إن الواو عاطفة والصابئون معطوف على موضع اسم (إن)؛ لأنه قبل دخول (إن) كان في موضع رفع وهذا مذهب الكسائي والفراء.
3- وروى عن الكسائي أيضاً أنه مرفوع عطفاً على الضمير المرفوع في قوله (هادوا).
4- وقيل: (إن) هنا بمعنى نعم، أي حرف جواب وما بعده مرفوع بالابتداء، وعليه فالصابئون معطوف على ما قبله [53]، والأرجح الأول كما سبق القول بذلك.
وبعد، فهذه هي الآيات الثلاث التي وردت في رواية عائشة - رضي الله عنه -، وقد بان توجيهها وظهر لنا أن لها أكثر من وجه في العربية، فكيف يدعى بعد ذلك أن فيها أخطاء نحوية؟ وأختم هذا المبحث بكلام نفيس لابن الحاجب حول اجتراء النحاة على بعض القراءات، وادعاء أن الصورة التي جاءت عليها غير جائزة من جهة العربية.
قال ابن الحاجب: والأولى الرد على النحويين في منع الجواز، فليس قولهم بحجة إلا عند الإجماع، ومن القراء جماعة من أكابر النحويين، فلا يكون إجماع النحويين حجة مع مخالفة القراء لهم، ثم ولو قدر أن القراء ليس فيهم نحوى، فإنهم ناقلون لهذه اللغة وهم مشاركون للنحويين في نقل اللغة، فلا يكون إجماع النحويين حجة دونهم، وإذا ثبت ذلك كان المصير إلى قول القراء أولى؛ لأنهم ناقلوها عمن ثبتت عصمته من الغلط في مثله؛ ولأن القراءة ثبتت متواترة، وما نقله النحويون آحاد، ثم لو سلم أنه ليس بمتواتر، فالقراء أعدل وأكثر فكان الرجوع إليهم أولى. ا. هـ والله أعلم. [54]
الحواشي السفلية:
--------------------
1- سورة النساء: 1
2- الوافي في شرح الشاطبية - ص 167
3- سورة القصص: 81
4- الإتقان - 1/77.
5- تفسير القرطبي - ص1574.
6- أنظر: الدر المصون للسمين الحلبي - 2/297.
7- سورة البقرة: 217.
8- سورة الحجر: 20
9- سورة النساء: 127
10- الدر المصون - 1/529: 531 بتصرف يسير.
11- سورة الأنعام: 137
12- الكشاف - 2/54.
13- تفسير الفخر الرازي - 6/594
14- مضت الإشارة إليه مراراً.
15- الانتصاف لابن المنير - 2/53 بذيل الكشاف للزمخشري.
16- تفسير البحر المحيط - 4/230.
17- أنظر: إعراب القرآن - 3/240
18- سورة الأنبياء: 88
19- إتحاف فضلاء البشر - ص394، وقد أخطأ ابن خالويه في الحجة - ص152 فظنها قراءة عاصم.
20- تفسير القرطبي - ص 4375.
21- إتحاف فضلاء البشر - ص394، وقال عن هذا الجواب هو أحسن الأجوبة.
22- سورة الجاثية: 14
23- نقله القرطبي - ص5982.
24- إملاء ما من به الرحمن بهامش حاشية الجمل - 4/315.
25- حاشية زاده على البيضاوي - 4/323 ومعها تفسير البيضاوي.
26- المصدر السابق.
27- أنظر: شرح ابن عقيل بتحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد - 2/121 وما بعدها.
28- راجع في استخلاص هذه القاعدة النشر - 1/10، الإتقان - 1/77، قواعد التفسير - 1/94.
29- الإتقان - 1/77، قواعد التفسير - 1/95.
30- سورة طه: 63
31- سورة النساء: 162
32- سورة المائدة: 69
33- الإتقان - 1/183
34- نفس المرجع.
35- تهذيب التهذيب لابن حجر - 9/137 وما بعدها، هدى الساري - 2/192.
36- الإتقان - 1/184 نقلاً عن أبى عبيد.
37- سورة الروم: 30
38- سورة الطارق: 17
39- سورة البقرة: 259
40- الإتقان -1/184
41- مناهل العرفان - 1/387، رسم المصحف - 135.
42- الإتقان - 1/184.
43- القرطبي - ص 4256.
44- تفسير الطبري - 16/136.
45- تفسير القرطبي - ص 4256، الطبري - 16/136.
46- إملاء ما من به الرحمن بهامش حاشية الجمل - 3/585.
47- سورة النساء: 162.
48- إعراب القرآن وبيانه -2/378، تفسير المنار - 6/53.
49- حاشية الجمل - 1/446.
50- تأويل مشكل القرآن - ص53.
51- سورة المائدة: 69
52- إغاثة اللهفان لابن القيم - 2/198.
53- إعراب القرآن - 2/527.
54- نقله الدمياطي في إتحاف فضلاء البشر - ص39.