الصبر الجميل في مواجهة فتنة الإيذاء
الصبر الجميل في مواجهة فتنة الإيذاء
صلاح الدين سلطان
لا شك أن
الصبر في هذا الميدان يحتاج إلى قوة إيمانية عالية، وإلى تمرس على الصبر؛
لقوله - تعالى -: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم
مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 45 -46].
أ. الصبر على كبت الحريات في عبادة الرحمن، والانفلات في الكفر والفسوق والعصيان.
يصاب الإنسان بأسىً شديد
عندما يكون حول الكعبة 360 صنما يُعبد من دون الله - عز وجل -، ويسمح
بالطواف للعرايا رجالا، بل حتى النساء، وتنشد شعرا كما أورده البخاري في
صحيحه والطبري في تفسيره تقول فيه:
اليوم يبدو كله أو بعضه *** فما يبدو منه فلا أحله
وأمام الكعبة بيوت
للدعارة عليها رايات حمراء لا ترد المرأة رجلا يدخل عليها، وحانات للخمور
من بلاد شتى، وأشعار تتغنى بهذه الألوان من الفجور، ومن بين هذا كله لا
يؤذن للمسلمين الجدد أن يُصلُّوا لله - تعالى - وفق دينهم الجديد، ولا أن
يقرئوا القرآن حول الكعبة، وفي ذلك يروي ابن هشام في سيرته أن سبب اتخاذ
دار الأرقم بن أبي الأرقم مقرا لقيادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان
بعد المواجهة الأولى التي برز فيها سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه - قال
ابن إسحاق: وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلوا ذهبوا في
الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم. فبينما سعد بن أبي وقاص -صلى الله
عليه وسلم- في نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شعب من
شعاب مكة إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم، وعابوا عليهم
ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين
بلحي بعير فشجَّه، فكان أول دم أريق في الإسلام.
أصبحت دار الأرقم السرية
مركزاً جديداً للدعوة يتجمع فيه المسلمون، ويتلقون عن رسول الله –صلى الله
عليه وسلم- كل جديد الوحي، ويستمعون له وهو يذكرهم بالله، ويتلو عليهم
القرآن، ويضعون بين يديه كل ما في نفوسهم وواقعهم فيربيهم -صلى الله عليه
وسلم- على عينه كما تربّى هو على عين الله - عز وجل - وأصبح هذا الجمع هو
قرة عين النبي-صلى الله عليه وسلم-. [السيرة النبوية، ص 125، 126].
هذه عين الحكمة ألا
يصادموا التيار العام، وإنما يتخذون من الوسائل التي تنزع فتيل الشقاق
والخلاف، والنزاع والصدام، فتخفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى لا
يبدأ دعوته الراشدة بالصدام مع ذوي الهوى، والنزاع مع ذوي السلطة، وكانت
هذه الدار لتربية الأفذاذ من الرجال والنساء، الشباب والفتيات، على نسمات
الوحي، وصلوات السحر، وأنوار الذكر، وأنهار الفكر في هذا الكون الذي يعبر
عن قوة خالقه، وإحكام مسيّره، وإبداع مالكه - سبحانه وتعالى -.
لكن أصحاب الحق يحتاجون
في ذلك إلى صبر شديد، حيث يؤرق القلب والعقل والوجدان أن يتاح في مكة وبيت
الله الحرام كل ألوان الكفر والفسوق والعصيان، ولا يتاح لعباد الرحمن أن
تكون لهم صلوات حول الكعبة أو قراءة للقرآن، وإذا أردنا أن نعرف الفرق بين
حرية الكفر وحرية أهل الإيمان فلنتوقف بإمعان وتدبر أمام هاتين القضيتين:
أ- ما رواه الإمام
النسائي من سيرة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه لما قرأ عند الكعبة
سورة الرحمن أوسعوه ضربا حتى كادوا يقتلونه لمجرد تلاوته الآيات من
القرآن، وهو لا يحمل معها سيفا ولا رمحا [فضائل الصحابة، للنسائي،
(2/837)].
ب- ما رواه البخاري عن
ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن إسلام أبي ذر -رضي الله عنه- أنه وصل
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصعوبة، وبفراسة من الإمام الألمعي علي بن
أبي طالب –رضي الله عنه-، وسار معه في وضع خفي، ولما أعلن إسلامه أمام
أهل قريش هجموا عليه وضربوه ضربا مبرحا حتى نجا من الموت بمساعدة العباس
بن عبد المطلب، حيث خوفهم على تجارتهم من بني غفار. [صحيح البخاري، باب
قصة زمزم، (7 /239)، برقم 3446].
فهذه الأجواء التي تسمح
بكل هذه الألوان من الفجور، لا تسمح لوافد إلى مكة أن يعرف حقيقة هذا
الدين، ولولا هذا الذكاء الحاد، والحس المرهف من الإمام على -رضي الله
عنه- لعاد أبو ذر -رضي الله عنه- مثل أخيه لا يجد ما يشفي غليله عن هذا
الدين الجديد، وما إن أسلم حتى أعلن إسلامه على الملأ فقاموا يضربونه ضربا
مبرحا لمجرد أن يوجد بين هذه الآلاف الساجدين للأصنام رجل يقول لا إله
إلا الله محمد رسول الله، ولم يحمل سيفا، ولم يؤذ أحداً، ولكن كان هذا
سببا كافيا في ضربه وإيذائه حتى كادوا يقتلونه لولا حماية العباس -رضي
الله عنه- له وانكفاؤه عليه، وتخويفهم من بني غفار على طريق تجارتهم أن
يثأروا لابن عشيرتهم أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه-.
ب. الصبر على أذى التشويه الإعلامي:
من يقرأ السيرة بعناية
يستطيع أن يفهم كثيرا مما يجري الآن من حرب إعلامية منظمة مدروسة في تشويه
صورة الإسلام والمسلمين، وهذا ما يجعلني أؤكد أنه القديم المتجدد،
فالأساليب هي هي، والطرائق هي هي، والحقد الدفين هو هو، والتشويه المتعمد
رغم علمهم بالحق هو هو، ولعل من البصيرة أن نفهم ما يجري الآن في ضوء ما
رواه ابن إسحاق في السير والمغازي أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من
قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد
حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم
هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد ُّقولكم
بعضه بعضا؛ قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقلْ وأقمْ لنا رأيا نقول به؛
قال: بل أنتم فقولوا أسمعْ؛ قالوا: نقول كاهن؛ قال: لا والله ما هو بكاهن،
لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه؛ قالوا: فنقول: مجنون؛
قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه، ولا تخالجه،
ولا وسوسته؛ قالوا: فنقول: شاعر؛ قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله
رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر؛ قالوا: فنقول: ساحر؛
قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم؛
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله
لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرف أنه باطل،
وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء
وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا
عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد
إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره. [سيرة ابن هشام، ص 239، 240].
فأنزل الله - تعالى - في
الوليد بن المغيرة قوله - تعالى -: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ
كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ
عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا
إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ *
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ)[المدّثر: 18 - 27].
في هذه القصة يبدو ما يلي:
أ- هناك اجتماعات ومشاورات في أساليب التشويه الإعلامي.
ب- هناك إقرار واعتراف بصحة القرآن وعلو منزلته، واستحالة بشريته.
ج- هناك إصرار على الكذب وتعاهد على نشره والتأكيد عليه حتى يصير كأنه حقيقة.
د- هناك استعدادات قبل
المواسم التي يجتمع فيها الناس للحج، مثل الاستعداد الإعلامي قبل رمضان
بألوان من الفنون الهابطة لصرف الناس عن شعائر دينهم، وتلطيخ قلوبهم
بأدران الفسوق حتى لا يسلم أحد من هذا التشويه الإعلامي.
مع أن هذا التشويه لم
يصمد، أمام نور الحق، وقوة القرآن في نفوس العقلاء من بني الإنسان وإليك
بعض هذه القصص التي تجعل الدعاة الصادقين لا يخشون هذه الحملات الإعلامية،
بل يتقدمون بالحق في حكمة وقوة وأمل فسيجدون استجابة عالية مثل هاتين
القصتين:
1. ما رواه ابن حجر في
الإصابة [2/72] عن قصة إسلام الحصين والد عمران - رضي الله عنهما - أن
قريشا حذرت الحصين وشوهت صورة النبي -صلى الله عليه وسلم- ورسالته، بل
أوفدته كي يكلمه أن يدع ما جاء به، فاستمع إليه النبي -صلى الله عليه
وسلم- وخاطبه بلغة الوحي والعقل فأسلم الحصين.
ما رواه البخاري من قصة
إسلام الطفيل بن عمرو بالغ مشركو قريش في التشويه الإعلامي والتحذير من أن
يسمع الطفيل من النبي-صلى الله عليه وسلم-، ووضع القطن في أذنه حتى لا
يسمع ولو عَرضاً، لكنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-في الحِجر يتلو
القرآن، فجلس واستمع فأسلم على الفور وأتى بعد ذلك بقبيلته كلها مسلمين.
هاتان القصتان تبينان
الأثر العكسي الذي ينتجه التشويه الإعلامي، من حب استطلاع لدى كل ذكي
ألمعي عندما يجد بين طيات الكلام فجوات عقلية، ومسافات غير منطقية،
فيسترعي انتباهه، ثم يأتي إلى الحقيقة بنفسه يتعلمها يفهمها، ولذا كانت
أكبر حملة ضد الإسلام في الشرق والغرب بعد أحداث سبتمبر سببا في الإقبال
الشديد على الإسلام من عقلاء الأمريكان والأوربيين بعد أحداث سبتمبر 2001،
واعترفت الصحافة الأمريكية ومراكز الأبحاث، والتحليلات السياسية أن أكبر
فترة دخل فيها الأمريكان الإسلام هي ما بعد أحداث سبتمبر 2001، وهذا مما
يضاعف الأمل في قوله - تعالى -: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ
وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ
النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ
الأَمْثَالَ)[الرعد: 17].
الدرس التربوي هنا هو
الأمل الدائم أن الله ناصرٌ دينه، وخاذل أعداءه، والدرس الدعوي أن نبادر
في نشر الدعوة، والحوار مع الغير، والحضور الإسلامي في تجمعات الناس،
والتقدم إليهم برسالة الإسلام في هدوء وحكمة مثلما كان هدي النبي -صلى
الله عليه وسلم- في حواره مع الحصين وطفيل بن عمرو، وحوار الإمام علي مع
أبي ذر -رضي الله عنه-، كان هذا سببا ليس في إسلام هؤلاء فقط، بل كلٌ أتي
بقومه، بل دعا جيرانهم من قبائل مجاورة، فكان سببا في فتح كبير للإسلام.
ج. الصبر على الأذى البدني والمعنوي
تحمل النبي -صلى الله
عليه وسلم- وأصحابه الكثير من أذى قومه بصبر جميل وعزم طويل، استمر سنوات
والرسول يحتشد وأصحابه لعظائم الأمور، ويستحثهم على مواجهة نزق الكافرين،
وظلم المتكبرين بمزيد من الصبر الجميل ويناديهم القرآن في:
1. قال - تعالى -: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُوم) [الطور: 48]
2. وقال - تعالى -:
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا
وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].
والروايات كثيرة في أنواع الأذى للرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذلك ما يلي:
1. ما رواه البخاري بسنده
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي
مَجَالِسِهِمْ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ أَلا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا
الْمُرَائِي أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ فُلانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى
فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلاهَا فَيَجِيءُ بِهِ ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى
إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ
فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَضَعَهُ بَيْنَ
كَتِفَيْهِ وَثَبَتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَاجِدًا فَضَحِكُوا
حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنْ الضَّحِكِ فَانْطَلَقَ
مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ - عليها السلام - وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ
فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى وَثَبَتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَاجِدًا
حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ فَلَمَّا
قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلاةَ: ((قَالَ
اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ
اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ)) ثُمَّ سَمَّى ((اللَّهُمَّ عَلَيْكَ
بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ
رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ
بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ)) قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ
سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم-: ((وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً)) [فتح
الباري، لابن حجر العسقلاني، كتاب الصلاة (2/ 179)].
2. ما رواه الترمذي بسنده
عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لَقَدْ أُخِفْتُ في الله وَمَا
يَخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ في الله وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ،
وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلاَثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
وَمَالِي وَلِبِلاَلٍ طَعَامٌ يَأْكُلُه ذُو كَبِدٍ إِلاَّ شَيْءٌ
يُوَارِيه إِبْطُ بِلاَلٍ)) قال أبو عِيسَى: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. [سنن
الترمذي، (7/185)، برقم 2521].
3. ما أورده ابن هشام أن أمية بن خلف عدو الله كان يعنف في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
4. ما أورده ابن الأثير في أسد الغابة أن أم مصعب بن عمير حبسته وأجاعته ثم طردته لما أصر على إسلامه.
5. ما أورده ابن حجر في الإصابة أن صهيب الرومي كان يُضرب حتى يفقد وعيه.
6. وما أورده ابن سعد في
الطبقات أن أمية بن خلف كان يربط بلالا في حبل ويأمر الصبيان أن يطوفوا به
في الجبال، ويطرحه في الصحراء ويضع عليه صخرة كبيرة مع الحر الشديد،
ويجيعه فما صرفه ذلك عن دين الله - تعالى -.
7. أورد ابن الأثير في أسد الغابة أن مشركي قريش كانوا يجرّون خباب بن الأرت من شعره على الأرض، ويلوون عنقه، ويلقونه في النار.
8. ما أورده ابن هشام أن
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قبل إسلامه - كان يضرب جارية لبني موئل ولا
يتركها إلا ملالة من كثرة ضربها، وكان مشركو قريش يعذبون زنيرة والنهدية
وابنتها وأم عبيس، حتى إن إحداهن - ولعلها زنيرة - قد عميت من كثرة
تعذيبها.
9. ما رواه ابن هشام
والعامري أن بني مخزوم كانوا يشتدون في تعذيب عمار وأبيه ياسر وأمه سمية -
رضي الله عنها -، فيخرجونهم إذا حميت الظهيرة فيعذبونهم في رمضاء مكة،
والرسول -صلى الله عليه وسلم- يواسيهم، بقوله: ((صبرا آل ياسر إن موعدكم
الجنة))، وظل التعذيب حتى طعن أبو جهل سمية بحربته في قبلها، فكانت أول
شهيدة في الإسلام.
ومع هذا البلاء الشديد،
والجرح الغائر، والملاحقة المستمرة، والتضييق الدائم إلا أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- كان يبعث الأمل في أصحابه أن يغير الله - تعالى - من
هذه المحن لتكون منحا ربانية وفي ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن
خباب بن الأرت قال: أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في ظل
الكعبة متوسداً بردة له، فقلنا: يا رسول الله، ادع الله - تبارك وتعالى -
لنا واستنصره، قال: فاحمر لونه أو تغير، فقال: ((لقد كان من كان قبلكم،
يحفر له حفرة ويجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق ما يصرفه عن دينه، ويمشط
بأمشاط الحديد ما دون عظم من لحم أو عصب ما يصرفه عن دينه، وليتمن الله-
تبارك وتعالى - هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت لا
يخشى إلا الله - تعالى - والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون)) [مسند الإمام
أحمد، حديث خباب بن الأرت عن النبي، (6 /125)]، فهذا درس في الأمل يجب أن
يبثه دائما الخطباء والأئمة والمدرسون والآباء والأمهات فضلا عن قادة
الأمة الإسلامية في جميع مواقفهم، لكن هناك بشارة أخرى يجب أن يعلمها
المسلمون أن كل من آذى مسلما، أو منع داعية إلى خير، أو ظلم بريئا فإن
انتقام الله - تعالى - يلاحقه في الدنيا قبل الآخرة، ومن ذلك ما يلي:
أ- أورد الذهبي بسنده أن
الرسول -صلى الله عليه وسلم- بسند صحيح في السيرة النبوية [ص 143]
والبيهقي في الدلائل [2/316] من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: في
قوله - تعالى -: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر: 95]،
قال: المستهزئون هم: الوليد ابن المغيرة وقد أصيب بالنبال فمات، والأسود
بن عبد يغوث الزهري وأصابه العمى، وأبو زمعة الأسود بن عبد العزى مرض
بقروح في رأسه فمات بها، والحارث بن عطيل السهمي أصيب بمرض الصفراء حتى
خرجت فضلاته من فمه ومات بها، والعاص بن وائل وقع على شوكة فمات بها.
[صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي، (ص114)].
1. ما رواه البخاري أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا على قريش ثم سمى ((اللهمَّ عليكَ بأبي
جَهل، وعليكَ بعُتبةَ بن رَبيعةَ، وشَيبةَ بنِ ربيعةَ، والوَليدِ بن
عُتبةَ، وأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، وعُقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ)) وعدَّ السَابعَ
فلم نحفَظْهُ. قال: فوَالذي نفسي بِيدهِ، لقد رأيتُ الذينَ عَدَّ رسولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَرعى في القَليبِ، قَليبِ بَدْر. [صحيح
البخاري، باب إذا القي على ظهر مصلي قذر، (1/464، 241)].
2. ما أخرجه البخاري في
تفسير سورة الدخان، ومسلم في كتاب صفات المنافقين باب الدخان بسندهما عن
عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: عن مَسروقٍ قال: قال عبدُ الله:
إنما كان هذا لأنَّ قُريشاً لما استعصَوا على النبيِّ -صلى الله عليه
وسلم- دَعا عليهم بِسِنين كسِنِي يوسفَ، فأصابهم قَحطٌ وجهدٌ حتى أكلوا
العظامَ، فجعلَ الرجلُ يَنظُرُ إلى السماءِ فيَرى ما بَينَهُ وبينها
كهيئةِ الدُّخانِ منَ الجهد. فأنزَلَ الَّلهُ - عز وجل -: (فَارْتَقِبْ
يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يغْشَى النَّاسَ هَذَا
عَذَابٌ أَلِيمٌ)[الدخان: 10 -11] ".
هذه أمثلة لا تفيد الحصر،
تشفي صدور قوم مؤمنين أن الله - تعالى - لا يدع ظالما، ولكن يمهله حتى
إذا أخذه لم يفلته، فما بقى واحد ممن عذّب المسلمين إلا كانت عاقبته سوء
في الدنيا مرضا وضنكا وقتلا، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، أما
الذين عُذِّبوا فقد صاروا علماء الأمة، وقادة الجيوش، وسادة الناس،
وتحركوا في الأمصار يدعون إلى الله وينشرون الخير، وأفاض الله عليهم
بالمال والجاه والذكر الحسن عبر تاريخ الأمة كلها، وهذه عِبرٌ لفريقين:
أ. فريق الكارهين
للإسلام المحاربين للدعاة، المطاردين للصالحين والصالحات، أن لله - تعالى -
فيهم قانونا نافذا، وحكما قاطعا يبدو جليا في قوله - تعالى -: (وَمَن
يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً)[الفرقان: 19].
ب. فريق الدعاة الصادقين
أن يصبروا صبرا جميلا، ولا ينتقموا لأنفسهم، وأن يَدَعُوا الأمر لله -
تعالى - وسوف يمكّن لهم وفق وعده - تعالى -كما قال - سبحانه -: (وَنُرِيدُ
أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ
لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا
مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ)[القصص: 5 - 6].
د. الصبر على الحصار الاجتماعي والاقتصادي وسياسية التجويع
هذه الوسيلة التي صارت من
السيوف المسلطة على رقاب الشعوب والدول الآن إذا لم تخضع للمارد الغربي،
ولم تنزل على شروط الإذلال العالمي، فإن سيف المقاطعة الاقتصادية يسلط
عليهم، هذه هي الوسيلة نفسها التي استعملها المشركون قديما، ولا يزالون
مصرين عليها حديثا، وإذا رجعنا إلى هذه الأحلاف الجاهلية، والمعاهدات
الشركية فسنجدها هي هي الآن في عالم لا يعرف الرحمة بالضعفاء من الشيب
والأطفال والنساء، وتعاقب مجتمعات بأسرها كما حدث في هذه الفترة التي دامت
ثلاث سنوات وفيها يروي البخاري أنه لما زادت حيرة المشركين إذ نفدت بهم
الحيل، ووجدوا بني هاشم وبني المطلب مصممين على حفظ نبي الله -صلى الله
عليه وسلم- والقيام دونه، كائنًا ما كان، فاجتمعوا وتحالفوا على بني هاشم
وبني المطلب ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا
يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-للقـتل، وكتـبوا بذلك صحيـفـة فيها عهود ومواثيق (ألا يقبلوا من
بني هاشم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل).
قال ابن القيم: يقال:
كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال: نضر بن الحارث، والصحيح
أنه بَغِيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فَشُلَّتْ يده. [الرحيق المختوم، ص131].
لقد أظهرت هذه المقاطعة
مروءة عالية من بني هاشم وبني عبد المطلب حيث انضموا إلى المسلمين رغم
شركهم حمية ورجولة وظل هذا الحصار الذي أنهك الصغار والكبار لمدة ثلاث
سنوات حتى كانوا يصرخون من شدة الجوع، وأكلوا أوراق الشجر وجلود المواشي،
حتى قيض الله لها رجالا من غير المسلمين أيضا هم هشام بن عمرو، والمطعم بن
عدي، وأبو البحتري ابن هشام، وزمعة بن الأسود بن عبدالمطلب وزهير بن أبي
أمية المخزومي وتعاهدوا على نقض هذا الحصار، فكان الفرج من الله على أيدي
المشركين، بما يضاعف الأمل أن ما يبرمه المشركين الأوغاد ينقضه المشركون
الأحرار، ولكل أزمة نهاية، ولكل عسر يسر.
ولعل هذه الرسالة إلى شعب
فلسطين الأبّي الذين رفض الأحرار أن يكون تنازلهم عن مقاومة العدو
الصهيوني الغاصب مقابل رفع الحصار، ليسمح بطعام مغموس بالذل والصغار،
والعار والشنار أن يتنازل المسلمون عن أرض القدس، والمسجد الأقصى لشذاذ
الآفاق من بني صهيون، ولعلي أستحضر لهؤلاء المحاصرين قول الشاعر:
لا تسقني ماء الحياة بذلة بل *** فاسقني بالعز كأس الحنظل
وسوف يأتي الله بالفرج - إن شاء الله - مهما طال كما حدث في قصة المقاطعة في عهد النبوة