فيك جاهليّة
فيك جاهليّة
عبد الوهاب بن ناصر الطريري
هو
رابع أربعة دخلوا الإسلام. أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في
مكة في بكور الدعوة، فقال: سلام عليك يا نبي الله، ثم أسلم بين يديه، فرأى
الاستبشار في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلما سأله من أنت قال:
جندب، رجل من غفار، ولذا كان أبو ذر يقول: أنا ربع الإسلام، أسلم قبلي
ثلاثة.
ولقد كان لسابقته هذه
فضلها، فلما هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة كان عنده
بمكان، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتدئ أبا ذر إذا حضر
ويتفقده إذا غاب.
ولكنه وهو بهذه
المنزلة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصل له هذا الموقف الذي أثّر
في نفسه، وكان أثراً بالغاً؛ إذ بقي على ذكر منه بقية عمره.
فقد كان بينه وبين رجل
من العبيد كلام، فتسابّا وكانت أم هذا الرجل أمة أعجمية سوداء فعيّره أبو
ذر بها وقال له: يا بن السوداء، فغضب الرجل من ذلك، وذهب إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - وشكا إليه أبا ذر وأخبره بما قاله له ليعذره منه.
فلما لقي أبو ذر النبي
- صلى الله عليه وسلم - سأله فقال: يا أبا ذر أساببت فلاناً؟ قال: نعم يا
رسول الله، قال: أعيّرته بأمه؟ قال: نعم يا رسول الله، من سبّ الرجال
سبّوا أباه وأمه. قال: يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية. ووقعت هذه الكلمة
من أبي ذر موقعاً شديداً فهو أبعد الناس عهداً بالجاهلية فقد كان رابع
أربعة كانوا أول الناس إسلاماً فكيف تبقى فيه جاهلية بعد ذلك؟! فقال: يا
رسول الله، فيّ جاهلية وأنا على حين ساعتي هذه من كبر السن؟! فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم على حين ساعتك هذه من كبر السن، إخوانكم
خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما
يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه فليعنه
عليه.
وتشرّبت نفس أبي ذر
كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقي نصب عينه حتى آخر عمره، فقد
نزل في آخر حياته بالربذة وهي بادية قريبة من المدينة، فمر به المعرور بن
سويد فرآه ومعه غلامه، وقد قسم أبو ذر حلة بينه وبين غلامه، لبس أبو ذر
منها ثوباً ولبس غلامه ثوباً. (والحلة كساء من قطعتين يكونان من جنس
واحد).
فعجب المعرور من حال
أبي ذر مع غلامه؛ إذ لم يكن من عادة الناس مساواة خدمهم في الملبس فقال:
يا أبا ذر، لو كنت أخذت الذي على غلامك فجعلته مع هذا الذي عليك لكانت لك
حلة كاملة، وكسوت غلامك ثوباً غيره.
فقال أبو ذر: سأخبرك
عن ذلك، إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام على عهد رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وإني ساببته، وكانت أمه أعجمية فعيّرته بها...، ثم ذكر
قصته تلك، وما قاله له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعرف المعرور
سبب صنيع أبي ذر، وزال عجبه وحفظ القصة ووعاها ورواها لتبقى لنا فيها عبر
ودروس.
1- قرب النبي - صلى
الله عليه وسلم - من الصحابة كلهم، فإن هذا الرجل الذي عُيّر بأمه وجد في
النبي - صلى الله عليه وسلم - ملاذاً قريباً يشكو إليه ويستعذر منه ممن
عيّره؛ وقد اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بشكاته، وعاتب أبا ذر هذه
المعاتبة الشديدة.
إن عبودية هذا الرجل
واختلاف لونه لم تكن تعوقه عن الوصول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
وعرض شكاته عليه؛ إذ كان - صلى الله عليه وسلم - قريباً من الناس كلهم
جميعاً.
2- كانت التربية
النبوية تحيي في نفوس الناس الاعتزاز بذواتهم ومعرفة حقوقهم كما يعرفون
واجباتهم، ولذا شعر هذا الرجل بالندية مع أبي ذر حين جرى بينهما الكلام،
وهو ما عبر عنه أبو ذر بقوله ساببت رجلاً، أي أن المراجعة الكلامية كانت
متبادلة بين الطرفين.
ثم لما شعر أن أبا ذر
تجاوز ما يحق له فعيره بلون أمه، وليس لون أمه عاراً ولا منقصة شكاه إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليجد من النبي - صلى الله عليه وسلم -
هذا الاهتمام والعتاب الشديد لأبي ذر على الرغم من سابقته ومنزلته.
أين هذا كله من شعور
هذا الرجل في الجاهلية حين لم يكن يشعر إلاّ بأنه أحد المقتنيات الشخصية
لبعض الناس، وقد كانت هذه الكلمة وأشد منها مما اعتاد على هضمه صباح مساء.
إنها نقلة بالإنسان
بدأت ببناء نفسه من الداخل ليستشعر قيمته وحقوقه، وقدره، إنها رفعة
الإنسان بالرسول الذي أرسله ربه رحمة للعالمين كل العالمين.
3- نرى قوة الاستئصال
للنعرة العنصرية والتي لا تزال بقاياها مترسبة في النفوس من آثار
الجاهلية؛ إذ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: أعيّرته بأمه؟
إنك امرؤ فيك جاهلية.
فسواد أمه ليس عاراً،
وهي لم تختر لونها الأسود، كما أن أبا ذر لم يختر لونه الأبيض، وليس لأحد
أن يعيّر أحداً بأمه أو أبيه؛ فإن أمه وأباه ليسا من كسبه، فإن فعل فإنه
يمارس فعلاً جاهلياً؛ إذ كان من أمر الجاهلية الفخر بالأحساب والطعن في
الأنساب.
إن العار الحقيقي ليس
سواد اللون، ولكن التخلّق بخلق الجاهلية، ولذا كان وقع هذه الكلمة شديداً
على أبي ذر فقال: يا رسول الله، على ساعتي هذه من كبر السن؟ أي بعد ما
كبرت في الإسلام، وقد دخلت فيه أول من دخل، وفارقت الجاهلية أول من فارقها
تبقى فيّ الجاهلية!.
4- في الوقت الذي كان
النبي - صلى الله عليه وسلم - يحطم نعرات الجاهلية وتفاخرها بالأنساب
والألوان والأعراق كان يشيد بناء متيناً من الأخوة بين المسلمين، ويظهر
ذلك في هذا الحديث حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: إخوانكم خولكم (أي
خدمكم)، وترتيب الكلام أن يقول: خدمكم إخوانكم، ولكنه قدم الخبر لفيد
الحصر والقصر والاهتمام؛ أي إنما خدمكم إخوانكم.
ثم قال: جعلهم الله تحت أيديكم؛ أي تذكروا أن كونهم تحت أيديكم وفي خدمتكم هو من قدر الله، ولو شاء لجعلكم أنتم تحت أيديهم.
ثم قال: فمن جعل الله
أخاه تحت يده، فأعاد النظر إلى قدر الله واستشعار فضله ونعمته في جعل بعض
خلقه في خدمتكم وسماه أخاً فهو وإن كان خادماً لم ينزل عن رتبة الأخوة،
وأن له الحق في المواساة في المطعم والملبس والرفق به في أداء العمل،
فانظر بتأمل إلى العبارة النبوية المختصرة كيف أسست معنى الأخوة، وأصلت
مفهومها وحفظت حقوقها!! إنه كلام من أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام
اختصاراً.
5- يبهرك شدة تأثر أبي
ذر بمقالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوة التزامه بالأمر النبوي فإنه
سكن الربذة في آخر حياته وتوفي فيها، ومع ذلك كان في أعلى مستويات
الامتثال يظهر ذلك في قوله: كان بيني وبين رجل من إخواني. فانظر كيف عبّر
بالأخوة وهو يحكي قصة المخاصمة والتسابّ، ثم في تنفيذه للتوجيه النبوي
بأكمل صورة؛ إذ التزم بالمساواة بينه وبين غلامه حيث قسم الحلة بينهما،
ولم يكتف بالمواساة التي يجزئ فيها ما هو دون ذلك.
ثم سياقه للقصة بتفاصيلها يدل على حياتها في نفسه كأنما حصلت له البارحة مع أنها حصلت قبل ربع قرن.
إن هذا خلق أصحاب رسول
الله في تلقي أمره وهديه، ثم امتثاله؛ فكانت أوامره تتشكّل التزاماً
سلوكياً قوياً وعميقاً يبقى حياً في نفوسهم ما بقيت لهم حياة