أبو بطين... الفقه والاحتساب د. عبدالعزيز العبداللطيف
أبو بطين... الفقه والاحتساب
د. عبدالعزيز العبداللطيف
لئن كان العلاَّمة عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين[1] (ت1282هـ) من علماء
الدعوة السلفية (التي جدَّدها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب)؛ إلا أنه
يُعدُّ أنموذجاً فذّاً في سيرته وقضـائه وفقهـه، وجهـوده العلميـة؛ فلا
غـرو أن يلقَّـب آنذاك بـ«مفتي الديار النجدية»؛ فكان في الفروع «إذا سئُل
عن مسألة واضحة لا تخفى على أدنى طَلَبَته تأنَّى في الجـواب حتى يظـن
الجاهل أنه لا يعرفها، والحال أنه يعرف مَن نقلها، ومَن رجَّحها، ومَن
ضعَّفها، ودليلَها، وأما اطلاعه على خلاف الأئمة الأربعة وغيرهم من السلف
والروايات والأقوال المذهبية فأمر عجيب»[2].
فمن مزاياه أنه ألَّف رسالة في تجويد القرآن، وهذا يندر عند علماء نجد في
ذلك الوقت، ثم إنه في أصول الدين صاحبَ تقرير بديع، وردٍّ متين كما هو
ظاهر في مؤلَّفاته وفتاويه. ومن ذلك: أن الذين يطلبون الشفاعة من الأموات،
يقولون: إن النبي – صلى الله عليه و سلم - أُعطِي الشفاعة، ونحن نطلبه
مما أعطاه الله. فأجاب العلاَّمة أبو بطين عن هذه الشبهة قائلاً: «إطلاق
القول بأن الله ملَّك المؤمنين الشفاعة خطأٌ؛ بل الشفاعة كلها لله وحدَه، {
قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [الزمر: ٤٤]، وأثبت - سبحانه -
الشفاعة بإذنه، وأخبر النبيُ – صلى الله عليه و سلم - أن الأنبياء يشفعون،
والصالحون يشفعون، وعلى هذا فمن أَذِن الله له في الشفاعة يصح أن يقال:
إنه مَلَك ما أُذِن له فيه، لا مـا لـم يؤذن له فيه؛ فهـو تمليك معلَّـق
على الإذن والرضى لا تمليك مطلَق... وسـيد الشفعاء - صلـوات الله وسـلامه
عليه - لا يشفع حتى يقال له: ارفع رأسك، وقل يُسْمَع، واشفع تشفَّع»[3].
ولما احتج الخصوم بحديث: «إن الشيطان يئس أن يعبده المصلُّون في جزيرة
العرب» على عدم وقوع الشرك في جزيرة العرب. ردَّ أبو بطين هذا الاستدلال
فقال: «في الحديث نسبة اليأس إلى الشيطان مبنياً للفاعل، لم يقل: (أُيِّس)
بالبناء للمفعول، لو قُدِّر أنه يئس من عبادته في أرض العرب إياساً
مستمراً؛ فإنما ذلك منـه وتخمين لا عن علم؛ لأنه لا يعلم الغيب، وهذا غيب
لا يعلمه إلا الله... كما أن أكثر العرب ارتدُّوا بعد وفاة النبي – صلى
الله عليه و سلم - ؛ فكثير منهم رجعوا إلى الكفر وعبادة الأوثان، وكثير
صدَّقوا مسيلمة في دعواه الكاذبة للنبوة، ومَن أطاع الشيطان في نوع من
أنواع الكفر فقد عبده؛ لا تختص عبادة الشيطان بنوع من الشرك، كما أن
المصطفى – صلى الله عليه و سلم - أخبر أن هذه الأمة تفعل كما فعلت الأمم
قبلها: اليهود والنصارى وفارس والروم»[4].
ومن تقريراته التي تدل على تحقيقه ورسوخه، أن تعقَّب صاحب تيسير العزيز
الحميد - الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ - في قوله: «إن الطاعة ملزومة
للعبادة»[5]؛ حيث قال أبو بطين: «قوله: ملزومة للعبادة... غير صحيح؛ فليس
كل مطاع معبوداً كالنبي – صلى الله عليه و سلم - ، وأولي الأمر»[6]. فهذا
كلام نفيس دلَّت عليه النصوص الشرعية؛ فالعبادة حق لله - تعالى - وحده،
وأما جنس الطاعة فهي لله ورُسُله - عليهم السلام - كما أن العبادة غاية
الحب وغاية الذل، بخلاف الطاعة للملوك؛ فقد تكون خضوعاً ظاهراً فقط[7].
وأما عن احتسابه فقد ظهر جليّاً في احتسابه السياسي وَفْقَ تقريرات علمية
ومواقف عملية، ولما ورد عليه هذا السؤال: «إن قال بعض الجهال: من شرط
الإمام أن يكون قرشياً، ولم يقل عارضياً؛ يشير إلى أنه قد ادَّعاها من ليس
من أهلها، يعني شيخ الإسلام محمد بن عبد والوهاب - رحمه الله - ومن قام
معه وبعده بما دعا إليه، وأيضاً أن البغاة يحل دماؤهم دون أموالهم، وقد
استحل الأموال والدماء من العلماء وغيرهم؛ فما الجواب؟».
فأجاب - رحمه الله -: «إذا قال بعض الجهال ذلك، فقل له: ولم يقل: تركياً،
فإذا زال الأمر عن قريش؛ فلو رجع إلى الاختيار لكان العرب أَوْلَى به من
الترك؛ لأنهم أفضل من الترك؛ ولهذا ليس التركي كفواً للعربية... وهذا الذي
يعظمه الناس تركي لا قرشي، وهم أخذوها بغياً على قريش، ومحمد بن عبد
الوهاب - رحمه الله - ما ادَّعى إمامة الأمة؛ وإنما هو عالم ودعا إلى هدى
وقاتل عليه، ولم يلقَّب في حياته بالإمام، ولا عبد العزيز بن محمد بن
سعود، ما كان أحد منهما يسمى إماماً في حياته، وإنما حدث تسمية من تولى
إماماً بعد موتهما. وأيضاً فالألقاب أمرها سهل، وهذا من صار والياً في
صنعاء سمِّي إماماً، وصاحب مسقط يسمى إماماً، وقتال الشيخ محمد بن عبد
الوهاب مَنْ قاتله ليس لكونهم بغاة، وإنما قاتلهم على ترك الشرك وإزالة
المنكرات وعلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والذين قاتلهم الصديق والصحابة
- رضي الله عنهم - لأجل منع الزكاة، ولم يفرِّقوا بينهم وبين المرتدين في
القتل وأخذ الأموال...»[8].
فيلحظ قوة حجة أبي بطين، ورسوخ تحقيقه، ومراعاة الواقع والحال، وعدم
الاشتغال بالرسوم والألقاب، والتفريق بين قتال البغاة، وقتال الممتنعين عن
شرائع الإسلام الظاهرة كما جاءت به الأدلة الصحيحة.
وأما مواقفه العملية فقد كان - رحمه الله - حاضراً ومؤثراً في الواقع السياسي آنذاك، كما في هذه الموقفين الآتيين:
أولهما: أن قوماً من أهل القصيم خرجوا على
الإمام فيصل بن تركي سـنة 1265هـ، فقـامت وقعـة «اليتيمة» بين الفريقين،
وهُزم أهل القصيم، وقُتل منهم كثير، ثم إن أمير بريدة حضَّ الناس على
القتال مرة أخرى، فجاءه العلاَّمة أبو بطين - وكان قاضي القصيم - وقال له:
«يا هذا! اتقِ الله، واربأ بنفسك؛ فإن البلد ليست لك ولا بيدك، وأمرها
بيد أهلها، وليس لك فيها أمر ولا نهي، وهم يريدون إصلاح أنفسهم مع الإمام
فيصل، فإن أردتَ أن تكون كذلك فافعل»[9]. فصدع أبو بطين بالحق، وحث على
الصلح مع الإمام فيصل لأجل الاجتماع وحفظ الدماء، ثم إن الذين أشعلوا
الفتنة والحرب ضد فيصل بن تركي، ندموا على ما صنعوا، وخافوا من سطوة
الإمام فيصل وبطشه، فطلبوا من العلاَّمة أبي بطين أن يسعى في الصلح وإزالة
غضب الإمام، فركب أبو بطين إلى الإمام فأكرمه وأجابه إلى ما طلب وعفا
عنهم[10].
وأما الموقف الثاني: فإن أهل عنيزة لَـمَّا
عزموا على إخراج أميرهم جلوي بن تركي سنة 1270هـ وحاصروه في قصره، فبادر
الشيخ أبو بطين فنصح أهل عنيزة بأن لا يُخرِجوا جلوي بهذه الطريقة، وقال:
«أنا كفيل لكم بأن أركب إلى الإمام فيصل بن تركي وأطلب منه أن يعزل أخاه
«جلوي»، وينصب بدله أميراً ترضونه» لكنهم أصروا على إخراجه، فغضب الشيخ
أبو بطين، وخرج إلى بريدة[11].
فالشيخ أبو بطين اتخذ مسلكاً وسطاً متوازناً (يتفق مع أصل الاجتماع
وقاعدة المصالح)؛ فنصح أهل عنيزة أن لا يُخرِجوا أميرهم بهذا الأسلوب، ثم
إنه وعدهم بأن يسعى إلى تنصيب أمير بدله.
وأخيراً: فإن الناظر إلى سيرة العلاَّمة أبي بطين ونظرائه لَيَتذكَّر
مقالةً جامعةً للإمام الشعبي؛ حيث يقول: «إنما كان يطلب هذا العلم من
اجتمع فيه العقل والنُّسُك»[12]. ولقد اجتمع لأبي بطين العقل والنُّسُك،
ومع أنه أدرك نهاية الدولة السعودية الأُولَى، واضطراباً في عهد الدولة
السعودية الثانية إلا أنه كان راسخاً مسدِّداً، ثابتاً موفَّقـاً في
فتاويه ومواقفه؛ فقد حباه الله - تعالى - عقلاً رشيداً ورأياً راجحاً،
فولي القضاء في نجد والحجاز وعُمان، فأحسن القضاء بين الخصوم، وأجاب عن
مسائل مشكلة في الفقه والاعتقاد (كما هو مبسوط في فتاويه) وشارك في معالجة
نوازل واقعة، كما سبق القول. ثم إنه صاحبُ تعبُّد وسَمْت، وصدقة وإحسان؛
فقد كان «ساكناً وقوراً، دائم الصمت، قليل الكلام في كل شيء كثير العبادة
والتهجُّد، مواظباً على درسَي وعظٍ بعد العصر وبين العشاءين في المسجد
الجامع»[13].
وقد ورد في الأثر: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات».
___________________
[1] انظر ترجمته في: السحب الوابلة لابن حميد: 2/626، وعلماء نجد للبسام: 4/225.
[2] السحب الوابلة: 2/631.
[3] تأسيس التقديس، ص 82.
[4] مجموعة الرسائل والمسائل النجدية: 4/482 - 487 = باختصار، وانظر: 2/178.
[5] تيسير العزيز الحميد، ص 656.
[6] ملخص من شرح التوحيد لأبي بطين (مخطوط في دار الملك عبد العزيز) ق 29/أ.
[7] انظر: السبعينية، ص 503، وجامع الرسائل لابن تيمية: 2/219.
[8] مجموعة الرسائل والمسائل: 2/170.
[9] انظر: عنوان المجد: 2/267.
[10] انظر: عنوان المجد: 2/268، وعلماء نجد للبسام: 4/240.
[11] انظر: الأحوال السياسية في القصيم للسلمان، ص191.
[12] السير للذهبي: 4/307.
[13] السحب الوابلة لابن حميد: 2/631.