الحديث الثالث عشر لا يؤمن أحدكم
قال المصنف - رحمه الله –:( عن أبي حمزة أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: (لا يؤمن أحدكم؛ حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم فهو حديث متفق عليه، والمتفق عليه - كما عرفنا – هو من أعلى درجات الصحة.
هذا
الحديث يمثل قاعدة عظيمة من قواعد الأدب سواء في الأعمال الظاهرة، أو في
التأدب الباطني، فهو يمثل قاعدة من قواعد الأدب الظاهرة والباطنة. فقال: (لا يؤمن أحدكم )المقصود:
لا يؤمن الإيمان الكامل، فالمحبة في الله، أو المحبة من المسلم لإخوانه
المسلمين أمر يزيد في الإيمان، وهذا الحديث فيه من المسائل الكثير، نعرف
أهمها في هذه الدقائق.
المسألة الأولى: النبي - صلى الله عليه وسلم –
يحرص تمام الحرص على أن يبلغ المسلمون والمؤمنون كمال إيمانهم؛ ولذلك جاءت
توجيهاته -عليه الصلاة والسلام- في مواضع كثيرة إلى ما يكمل إيمان المؤمن؛
ولذلك قال في هذا الحديث: (لا يؤمن أحدكم؛ حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فمما يزيد في الإيمان محبة المسلم لأخيه المسلم.
المسألة
الثانية: وهذا يدل على فائدة أخرى أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة،
وينقص بالمعصية، والمحبة في الله، ومحبة المسلم لأخيه المسلم من الطاعات
التي تزيد في مستوى الإيمان، وعلى هذا فكل الطاعات تزيد من إيمان المؤمن،
والمعاصي تنقص من إيمانه.
المسألة الثالثة:روابط الناس فيما بينهم
كثيرة، والله -سبحانه وتعالى- خلق الناس أشتاتا ومتفرقين، وجعل هناك روابط
كثيرة: منها روابط القرابة، منها رابطة المال، منها رابطة الصداقة المجرد
منها علاقة العمل والوظيفة، ومنها رابطة الزمالة في الطلب، روابط كثيرة، ما
الرابطة التي يجب أن تكون ثابتة وراسخة ولا تغيرها الأحوال؟
رابطة الدين
رابطة الدين التي عبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم – هنا بالأخوة، قال: (حتى يحب لأخيه)
يستنبط من هذا أن الأخوة الدينية أن الأخوة الإيمانية هي أعظم الراوبط لا
مانع أن تأتي روابط أخرى تزيد في العلاقة، لكن الرابطة الأعظم الرابطة التي
يجب أن تكون ثابتة، الرابطة التي يجب أن يحرص عليها- الرابطة التي يجب ألا
تنفك هي الرابطة الإيمانية؛ ولذلك سماها النبي - صلى الله عليه وسلم – هنا
(حتى يحب لأخيه ) وهذا تسمية الله –تعالى- في القرآن ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾[الحجرات:10]،
ما الأخوة هذه؟ أخوة الإيمان؛ ولذلك حرص النبي - صلى الله عليه وسلم –
عليها أشد الحرص عندما هاجر من مكة إلى المدينة، فمن أول ما عمله الرسول -
صلى الله عليه وسلم – في أسس تمكين المسلمين في المدينة: أنه آخى بين
المهاجرين والأنصار، علما أن بين كل مسلم ومسلم رابطة الأخوة، وجميع
الروابط كلها تنفك يوم القيامة، وجميعهم يعادي بعضهم بعضا، إلا إن كان هناك
بينهم رابطة الإيمان لا تنفك يوم القيامة، ولذلك أخبر الله -سبحانه
وتعالى- أن الأخلاء يوم القيامة أعداء إلا المتقين؛ فلذلك يجب أن يحرص على
هذه الرابطة القوية، وأن ينميها الإنسان في قلبه وفي أعماله أيضا. بناء على
هذه نجد المسألة الرابعة وهي تنبني على المسألة الثالثة.
المسألة
الرابعة: إن مما يسعد الفرد والمجتمع إحياء هذه الرابطة -هذه الأخوة-،
وحاول النبي - صلى الله عليه وسلم – أن يصورها تصويرات كبيرة، يصور هذه
الرابطة وما ينبني عليها، مثل قوله -عليه الصلاة والسلام-: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
فهذا الحديث الصحيح يبين قوة الرابطة بين المسلمين، وأن مما ينبني عليها
المحبة والتراحم والتواد والتعاطف وكل ما يندرج تحت هذه العناوين من أعمال،
فالمحبة يندرج أن تهدي له، أن تتمنى له الخير، أن تعطف عليه، أن تساعده،
أن تعاونه فيما يحتاج إلى ذلك؛ ولذلك إذا ارتفعت مستوى هذه المحبة والأخوة
إلى ذلك المستوى ارتفعت إلى درجات الكمال؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه
وسلم – (سبعة يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله..)ذكر
منهم رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وافترقا عليه، كيف تحابا في الله؟
اجتمعا عليه وافترقا عليه، لم يجمع بينهم إلا طاعة الله ، لم يحبه؛ لأنه
أعطاه مال، لم يحبه؛ لأن بينه وبينه مصالح مشتركة أو مجرد زمالة في العمل،
فلما انتهى من هذا العمل انتهت هذه الأخوة وهذه الرابطة، إنما يحبه حتى،
وإن لم يلتقِ وإياه، إنما لأنه يشاهده يصلى بجواره في المسجد كل وقت من هذه
الأوقات الخمسة في اليوم والليلة، فهو يحبه لهذه الصلاة، والآخر كذلك.
هنا اجتمعوا عليه وافترقا عليه، ومن هنا تأتي هذه المحبة في درجات الكمال، وجاءت فيها أحاديث كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم –
المسألة
الخامسة: هي أن الإنسان قد لا يرتفع عند الله بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام
ولا بكثرة أعمال، ولكن ترفعه الأعمال القلبية التي يجدها في قلبه لإخوانه
المسلمين، فهذا الذي سلم قلبه من الغش والغل والحقد والحسد والبغضاء، فلا
يكره مسلما، ولا يتمنى زوال النعمة عنه، ولا يقف حجرا في طريقه، ولا يشاغبه
في أعماله ولا يبغضه ولا يعترض بأذى له.
فإذًا هذا الذي سلم قلبه من
هذه الأحقاد من هذه الضغائن من هذه البغضاء من هذا الحسد، يرتفع بها عند
الله –تعالى-؛ ولذلك في الأثر الذي يؤثر عن عبد الله بن عمرو بن العاص -وإن
كان في صحته نظر هو مشهور عند الوعاظ ولكن في صحته من حيث الإسناد نظر ومن
حيث المتن أيضا لكن يهمنا فيه النتيجة- والقصة المشهورة أن النبي - صلى
الله عليه وسلم – قال: ( يطلع عليكم رجل من أهل الجنة)؛
فدخل رجل غير معروف، فتبعه عبد الله بن عمرو ابن العاص ثم ذهب إليه، وقال:
بيني وبين أبي خصومة، وأريد أن تستضيفني هذه الليلة، فرحب به وأضافه، وعبد
الله بن عمرو يطالع أعمال الرجل، فلم يجد عملا بينا في الليلة الأولى،
والليلة الثانية، والليلة الثالثة، ثم صارحه فقال: لم يكن بيني وبين أبي
شيء، لكن القصة كذا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم –( يطلع عليكم رجل من أهل الجنة)
وأنا لم أر عندك مزيد من الأعمال، قال: هو كما رأيت، لكني لا أنام على
فراشي في كل ليلة إلا نزعت من قلبي كل ما شابه من غل وحقد وحسد، ولا أتمنى
إلا الخير للناس، فقال: تلك التي جعلتك تصل إلى هذه المنزلة ومن يطيقه.
طبعا
من حيث الإسناد من حيث تسلسل القصة بهذا الشكل فيها نظر، من حيث متنها عبد
الله لا يكذب ويقول للرجل: كان بيني وبين أبي خصومة، وهو لم يكن بينه
وبينه شيء، لكن يهمنا النتيجة، وهي أن زوال الحقد والغل والحسد يوصل إلى
مراتب عالية، وهذا بلا شك؛ لأن هذا من الأعمال القلبية، والأعمال القلبية
إذا كانت صادرة عن إيمان ترفع الإنسان درجات عليا عند الله -سبحانه
وتعالى-.
إذًا مما يخل بالأخوة هذه الأمراض القلبية: الحسد، البغضاء،
الكره لإخوانه المسلمين، تمني زوال النعمة عنهم، حسدهم فيما أعطاهم الله
-سبحانه وتعالى- محبة الشر لهم، وأن على المسلم أن يزيل هذه الصفات
المشينة، وأن يعلم أن الذي أعطاهم قادر أن يعطيه، وأن الذي منع قادر أن
يمنع عنهم، وأن المتصرف في هذه الأمور هو الله -سبحانه وتعالى-.
إذًا من
الأمراض الفتاكة الشديدة هذه التي يدخل الشيطان إلى قلب المؤمن من خلالها،
الحسد البغضاء الكره للآخرين تمنى زوال النعمة، وتتطور إذا عمل الإنسان
عمل يؤدي إلى هذا، كمن يؤذي جيرانه، كمن يؤذي إخوانه، كمن يؤذي الآخرين أيا
كانوا بأي نوع من أنواع الأذى؛ لأن مصدر الأذى موجود في القلب سواء حسد أو
غل أو بغضاء، بالإضافة إلى أن هذه الأمراض إذا دخلت إلى قلب المسلم سببت
له أمراضا فعلية: كثير من القلق الذي يعتري بعض الناس، كثير من الاكتئاب،
كثير من التردد والشكوك كلها أو كثير منها الذي نراه في واقع بعض الناس،
مصدرها ما حصل في القلب من الحسد أو البغضاء أو من تمني زوال النعمة عن
الآخرين أو كره الآخرين كيف يكون؟
نمثل بمثال واحد: هذا الإنسان عندما
يحسد إنسان آخر؛ لأن الله أعطاه مال فيستمر يغلى في قلبه، فإذا سمع أن فلان
كسب في سلعة كذا أو زاد ربحه فيه بنسبه كذا يعتصر قلبه؛ لأنه لا يريد، وكل
ما سمع أنه نال من الخير كذا، اشترى سيارة من نوع كذا اعتصر قلبه، اشترى
بيت من نوع كذا اعتصر قلبه، فصار تفكيره وساوسه أحواله كلها في حال هذا
الذي أعطاه الله –تعالى- فسبب له قلق، سبب له تفكير زائد، سبب له أرق من
نومه، هذا الأرق هذا القلق ارتد على جسمه، فلما يريد أن يعالج يذهب إلى
الطبيب عندي أرق، عندي قلق سبب من الأسباب الكبيرة هو ما يوجد في القلوب من
هذا الحسد والبغض؛ ولذا المؤمن السليم الذي نظف قلبه لا يكون عنده قلق ولا
اكتئاب ولا اضطراب ولا تردد ولا شكوك ولا أوهام لماذا؟ لأن قلبه سليم
مرتاح.
ومن هنا نرى عظمة هذا الحديث عندما يوجه النبي - صلى الله عليه
وسلم – هذا التوجيه الكبير: أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، ويجعل هذا
عنصر من عناصر زيادة الإيمان؛ لذلك نأتي للنتيجة النهائية أن يدرب نفسه على
محبة الآخرين على محبة إخوانه الآخرين المحبة القلبية التي يرى أثرها
ظاهرا على أعماله وسلوكه، ومن هنا جاءت تشريعات الإسلام بارتفاع مستوى هذه
المحبة، وهذه المسألة قبل الأخيرة أن يعمل الإنسان على مستوى ارتفاع هذه
المحبة بالعمل بتشريعات الإسلام، النصيحة الأمر بالمعروف التوجيه الإرشاد
إطعام الطعام إفشاء السلام هذه الأشياء وأمثالها ترفع من مستوى المحبة بين
المسلمين.
لذلك على المسلم -وهي المسألة الأخيرة- كما يعمل بأسباب زيادة
المحبة يعمل بمقتضيات المحبة يعني: ما ينبني على هذه المحبة، فيفرح لأفراح
أخيه المسلم، ولذلك جاءت التشريعات في التهنئة عندما يأتي المسلم ما يفرحه
في أي مجال، نجح في الامتحان، كسب مكسب عظيم من أمور الدنيا، من أمور
الآخرة، أيضا أن يحزن لأحزانه؛ ولذلك جاءت التعزية عند الإصابة، عندما يصاب
الإنسان بمصيبة وبالذات المصائب الكبرى أيضا جاءت المواساة أن يواسيه عند
الحاجة كما في المواساة في زيارة المريض وعيادة المريض، وأن يدعوا له
بالشفاء والعافية والأجر والثواب عند الله -سبحانه وتعالى-، ولذلك جاءت
أيضا التوجيهات للنصح والإرشاد عندما يراه أخطأ الطريق، وانحرف من الطريق
الصحيح إلى طريق غير صحيح، كما جاءت المساعدة عندما يحتاج إلى مساعدتك.
من
هنا نرى عظمة هذا التوجيه العظيم الذي كان من جوامع كلم النبي - صلى الله
عليه وسلم – وهذه الأمور لا شك ترفع من مستوى الإيمان الذي ينشده المسلم،
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -(لا يؤمن أحدكم؛ حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). بهذا نكون انتهينا من مسائل هذا الحديث تحصل لدينا سبع مسائل فيه.