ابن تيمية وميادين جهاده
ابن تيمية وميادين جهاده
كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد
ولد شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله تعالى- في ربيع الأول سـ661ـنة هـ
بـ"حران"، ثم انتقل مع عائلته إلى "دمشق" سـ667ـنة هـ، حيث نشأ وصار من
كبار علماء عصره، وقد شهد عصره وجود عدة مدارس كبيرة ودور للحديث، وقد
استفاد "ابنتيمية" ممن سبقوه، بل لا يبعد استفادتهمن بعض معاصريه خاصة مع شغفه بالعلم، ورجاحة عقله، وتطلعه للمعرفة.
منهج ابن تيمية:
وقد
حفلت حياته -رحمه الله- بالجهود الكبيرة، إذ شهد عصره تفشي البدع
والخرافات، وظهور التصوف، وانتشار الفلسفة، وعلم الكلام والمنطق، وتسلط
المذاهب المخالفة لأهل السنة والجماعة وعقائد السلف، وجمود الفقهاء، ووجود
التشيع، وقدوم التتار إلى الشام، وفوق ذلك كله غياب المنهج السلفي
واندثاره؛ فشمر -رحمه الله- عن ساعديه بما أعطاه الله -تعالى- من قوة علم،
وعلو همة، وشدة عزم؛ فتصدى لكل ذلك يواجه الحجة بالحجة، فيزيف الزائف
منها، ويصحح ما فيه سوء فهم، ويجلي من الحقائق ما غاب عن الأذهان بفهم
عميق وعقل راجح، حتى أقر له مخالفوه بذلك.
وقد
أزال -رحمه الله- الركام عن منهج السلف الذي اندثر في الأمة في زمنه بفعل
البدع، والفلسفة، وعلم الكلام والتصوف؛ فأحيا المنهج السلفي من جديد،
ووازن به ما رآه في عصره من مخالفات، فكان دليله في إعادة الحق إلى نصابه،
وإقامة الحجة من الكتاب والسنة ومخالفيه.
إن
كثرة "خصوم ابن تيمية" تعطينا الدليل على تمكن الشيخ وغزارة علومه. وتعدد
الميادين التي خاضها في سبيل إحياء المذهب السلفي أغضبت الكثيرين منه؛
فخاض معارك ضارية ضد خصوم أقوياء، وقد قاده ذلك إلى أن يسجن بـ"قلعة
القاهرة"، ثم "الإسكندرية"، كما سجن بـ"قلعة دمشق" مرتين وتوفي بها
سـ728ـنة هـ، وهذا يدل على شدة المعارك التي خاضها، وعجز خصومه عن مواجهته
بالحجة، وتظهر السبب وراء شدة كتاباته ضد مخالفيه من المنحرفين عن منهج
السلف.
لقد
استوعب "ابن تيمية" نظريات وآراء مخالفيه، كما أحاط تمامًا بالكتاب
والسنة، ثم جعل نصوص الكتاب والسنة هي ميزانه الذي يزن به الأفكار
والنظريات، وصاغ منهجه على ذلك؛ لذا لم يُضعِّف قولاً أو ينصر رأيًا على
آخر إلا بدليل من كتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
يقول د/ "عبد الرحمن بن زيد" في كتابه "السلفية وقضايا العصر" ص "لهذا تلاحظ سيطرة النصوص على فكر ابن تيمية سيطرة دائمة، إنه يدور في دائرتها ويصطبغ بها مذهبه وفقهه وآراؤه كلها".
فلم
يترك "ابن تيمية" -رحمه الله- ناحية من نواحي الدين إلا وعالجها في
كتاباته، وأظهر رأي أهل السنة والجماعة فيها بعد استعراض حجج المخالفين
وبسط ردود أهل السنة عليها، وقد استطاع "ابن تيمية" بهذا النهج أن يثبت
بجلاء أن أهل السنة والجماعة أهل نظر ودراية إلى جانب أنهم أهل نقل
ورواية، وأن آرائهم أصوب من آراء المتكلمين؛ لأنها توافق العقل والفهم
السليم، إلى جانب أنها ميراث النبوة والوحي.
لقد
نجح ابن تيمية في التأكيد على أن في الكتاب والسنة عامة مسائل أصول الدين
من التوحيد والنبوة والصفات والقدر وغيرها، وأن آيات الله السمعية توافق
الآيات العقلية ولا تعارض بينها.
ابن تيمية والتأويل:
فالتأويل
المذموم هو صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى احتمال مرجوح بغير دليل معتبر،
وقد اعتمد المتكلمون على هذا التأويل المذموم في تحريف آيات الأسماء
والصفات بدعوى مخالفتها للعقل، فينبغي تأولها لتوافق ما يقتضيه العقل،
وهذا المسلك يخالف ما كان عليه سلف الأمة في قضية الأسماء والصفات، إذ
أنهم تحاكموا فيها إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وطوعوا لها
المفاهيم العقلية، ولم يثبت عن أحد منهم أنه عارض النصوص بعقله.
وقد
ألف ابن تيمية في بيان قضية الأسماء والصفات عند السلف العديد من الكتب،
وجمع نقولاتهم فيها نابذاً لكلام الخلف، ومن أشهر مصنفاته في ذلك "العقيدة
الواسطية"، حيث صرح بمعتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة أنهم يؤمنون
بما أخبر الله به في كتابه، وبما وصف به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ربه
في الأحاديث الصحيحة التي تلقاها أهل العلم بالقبول، من غير تحريف ولا
تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فهم بذلك وسط بين أهل التعطيل والتأويل،
وبين أهل التمثيل والتشبيه.
وقد
هاجم ابن تيمية المعتزلة، والأشاعرة، والباطنية؛ لصرفهم النصوص الشرعية عن
ظواهرها، وبين أن كل صرف للنصوص عن ظواهرها خلاف ما كان عليه الصحابة -رضي
الله عنهم-، ومن تبعهم، وأن سبيل التلقي في هذه القضية هو الكتاب والسنة
على طريقة السلف؛ لذا وجب الكف عن التأويل، وبيَّن -رحمه الله- أن هذا
إجماع السلف الذي لا يجوز مخالفته، وهذا الإجماع هو حجة على من بعدهم.
وعليه
فالتأويل للأسماء والصفات بدعة، وبين أن مذهب السلف تفويض الكيفية مع
إثبات المعنى، وأن من نسب إليهم تفويض المعنى أو زعم أن آيات الصفات من
المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية فقد جهل مذهب السلف، ولا تخلو مؤلفات
وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية عن إجلاء هذه القضية بما لا يدع مجالاً للبس
فيها، ومن طالع مصنفاته تبين له ذلك بوضوح.
ابن تيمية وعلم الكلام:
رفض
أئمة السلف الخوض في علم الكلام ونبذوا أصحابه، وحذروا منهم، ولم يتعرضوا
لهم؛ فلما اشتد منهج المعتزلة وصار له أنصاره واجههم أهل السنة بمنهجهم
السلفي المبني على الاستدلال بالكتاب والسنة بفهم الصحابة والتابعين، وظهر
أئمة المذهب الأشعري بمنهج رأوه وسطـًا بين منهج السلف ومنهج المعتزلة
يجمع بين نصرة عقائد السلف بمنهج المتكلمين، فلم يسلم الأشاعرة من التأويل
للنصوص مخالفين بذلك السلف، وقد واجه "ابن تيمية" الفريقين بنقد منهجهم
القائم على تقديم آرائهم التي فهموها بعقولهم وقدموها على الأدلة النقلية؛
فألف "نقض المنطق" "الرد على المنطقيين"، وألف "درء تعارض العقل والنقل"
"بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول"، وغيرها من التصانيف.
وبيَّن
"ابن تيمية" أن تأويلات هؤلاء من جنس تأويلات القدامى من المتأولين
القائلين بخلق القرآن، وأن أهل الكلام لا يزالون مختلفين، واختلافهم من
الاختلاف المذموم، وأما السلف فلا يوجد فيهم ذلك؛ ولهذا صرح العديد من
أئمة المتكلمين في أواخر حياتهم أنهم لم يخرجوا من دراسة علم الكلام إلا
بالقيل والقال، وكثرة الآراء، ومنهم من ترك كل ذلك ورجع إلى دين العامة،
قال الجويني: "لقد خضتُ في البحر الخضم، وخليتُ الإسلام ودخلت في الذي
نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وهاأنذا
أموت على عقيدة أمي!!"، وذكر عن الشهرستاني والرازي ما يشبه ذلك؛ لذا لم
يكن غريبًا أن يذكر الواحد من علماء الكلام في المسألة عدة أقوال ليس فيها
قول السلف الذي هو الحق في المسألة؛ لأنه لا يعرفه، وإذا ذكرت له النصوص
التي تعارض ما ذهب إليه تأولها تأويلاً.
يقول الرازي في أواخر حياته: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق القرآن".