ومضات في فضل العشر الأواخر و ليلة القدر وما يستحب فيها
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الحمد
لله الكريم المنان على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة وأنزل على عبده الكتاب
والحكمة فأقام بهما على عباده الحجة فمن اتبع فقد اهتدى ومن أعرض فقد ضل
وغوى والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى وعلى آله وصحبه إلى يوم أن نلقاهم
في الجنة ... وبعد ...،
فهذه خطرات ألقيها على أسماعكم وومضات أنبه بها أبصاركم تضيء الطريق وتنبه الغافل حتى يفيق ...
الومضة الأولى
زفرات بين يدي ختام الشهر الفضيل
آه
يا رمضان قد دنت شمسك من المغيب ... وأوشك الزارعون أن يحصدوا زرعهم ...
وها قد طابت ثمارك وحان وقت القطاف ولا زالت فيك فرصة بفضل الله ..
فيا من قصرت في حق ربك بالمعاصي في بداية الشهر هلم إلى ركاب أهل الجنة واختم بخير فإنما الأعمال بخواتيمها
ويا من قصرت في حق نفسك في الطاعات هلم إلى ركاب السابقين فقد دنا وقت الرحيل فما تزال لك فرصة فاغتنمها
ويا
نفس اتق الله في وكفاك فإنه يوشك لك أن تنامي نومة صبيحتها القيامة ولو
أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل كلنا
عن كل شيء .
يا
نفس كيف تتمنين الجنة ولما تعملي بعمل أهلها وكيف تعقلين ان ترافقي أهلها
وقد أعدوا من الزاد ما يوصلهم إليها ... فأين زادك الذي ستلقين به ربك غدا
وأين حصادك من غراس الجنة .
يا
نفس أين أنت من حال حبيبنا – صلى الله عليه وسلم – الذي كان أعبد الناس
وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقد بشر بأعلى درجات الجنة فمن
بشرك أنت بالجنة؟ وكيف تتمنين الجنة ولما تعملي لها أعمالا تليق بها؟
لا والله لن أتركك فقد عهدتك تحبين الدنيا
ولا والله لن أتركك فقد ألفتك تعشقين الراحة
وهذا
عهد بيني وبين ربي أن أتدارك ما فاتني بسببك ... ووالله لأقهرنك على الحق
قهرا ولن أتركك حتى نرد الحوض فنشرب من يد الحبيب شربة لا نظمأ بعدها أبدا.
ولله در من قال:
غدا توفي النفوس ما كسبت --- ويحصد الزارعون ما زرعوا إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم --- وإن أساءوا فبئس ما صنعوا
الومضة الثانية
فرصة قد لا تعوض (فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر)
أحبتنا
في الله ...تذكروا الأجر واحتسبوه على الله فها هي منحة جديدة وفرصة قد
تكون وحيدة ، ونعمة قد تزول حتما عن لم نوف شكرها ولا يكون شكرها إلا
بالاجتهاد فيها...
أحبتنا في الله ... اعلموا أن الكيس من اغتنم الفرص وفاز قبل الندم ...
أحبتنا
في الله ... ها هي أيام العشر الأخيرة من رمضان منة من الرحيم الرحمن فأين
نحن منها و من هدي حبيبنا وقائدنا إلى الجنة والذي كان يجتهد فيها ما لا
يجتهد في غيرها بما يدل على سابق فضلها ...
أحبتنا في الله ... كيف لا نتشبه بحبيبنا - صلى الله عليه وسلم – وقد علمنا يقينا انه قائدنا إلى الجنة ...
كيف
لا وقد كان صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت العشر شد المئزر ، وهذا قيل
إنه كناية عن الجد والتشمير في العبادة ، وقيل : كناية عن ترك النساء
والاشتغال بهن .
وكيف لا وقد كان صلى الله عليه وسلم يحي فيها الليل بالذكر والصلاة وقراءة القرآن وسائر القربات .
وكيف
لا وقد كان صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله فيها للصلاة والذكر حرصاً على
اغتنام هذه الأوقات الفاضلة . وكيف لا وقد كان صلى الله عليه وسلم يجتهد
فيها بالعبادة والطاعة أكثر مما يجتهد فيما سواها من ليالي الشهر .
فيا جنة الرحمن تزيني و تجهزي لاستقبال وفود الرحمن ويا باب الريان تفتح فقد دنا الأوان
اهجر فراشك جوف الليل و ارم به *** ففي القبور إذا وافيتها فرش
هذا ينام قرير العين نائما *** و ذا عليه سخين العين ينتهش
شتان بينهما وبين حالهما *** هل يستوي الري في الأحشاء و العطش
قاموا و نمنا و كل في تقلبه *** لنفسه جاهدا يسعى و يجتوش
ألئك الناس إن عد الكرام فهم *** و إن ترد دبشا فنحن ذا دبش
الومضة الثالثة
(فضائل العشر الأخيرة من رمضان )
إنها والله ليالٍ لا تعوض وكيف لا وقد علمنا يقينا أنه ليس هناك خير منها وقد
جمع أهل العلم من فضلها الكثير ومن أهم وأثبت ما ذكروه :
1-منها أنه نزل فيها القرآن ، كما تقدّم ، قال ابن عباس وغيره : أنزل الله
القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم
نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه
وسلم . تفسير ابن كثير 4/529 .
2- وصْفها بأنها خير من ألف شهر في قوله : ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) سورة القدر الآية/3
3- ووصفها بأنها مباركة في قوله : ( إنا أنزلنه في ليلة مباركة ) سورة الدخان الآية 3 .
4-نها تنزل فيها الملائكة ، والروح ، " أي يكثر تنزل الملائكة في هذه
الليلة لكثرة بركتها ، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة ، كما
يتنزلون عند تلاوة القرآن ، ويحيطون بحِلَق الذِّكْر ، ويضعون أجنحتهم
لطالب العلم بصدق تعظيماً له " أنظر تفسير ابن كثير 4/531 والروح هو جبريل
عليه السلام وقد خصَّه بالذكر لشرفه .
5-ووصفها بأنها سلام ، أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو
يعمل فيها أذى كما قاله مجاهد أنظر تفسير ابن كثير 4/531 ، وتكثر فيها
السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم العبد من طاعة الله عز وجل .
6-(فيها يفرق كل أمر حكيم ) الدخان /4 ، أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى
الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق ، وما يكون فيها إلى
آخرها ، كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير انظر تفسير ابن كثير 4/137،138 وكل
ذلك مما سبق علم الله تعالى به وكتابته له ، ولكن يُظهر للملائكة ما سيكون
فيها ويأمرهم بفعل ما هو وظيفتهم " شرح صحيح مسلم للنووي 8/57 .
7-
أن الله تعالى يغفر لمن قامها إيماناً واحتساباً ما تقدم من ذنبه ، كما
جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (
من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة
القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه . وقوله : (
إيماناً واحتساباً ) أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه وطلباً للأجر لا
لقصد آخر من رياء أو نحوه . فتح الباري 4/251 .
8-
وقد أنزل الله تعالى في شأنها سورة تتلى إلى يوم القيامة ، وذكر فيها شرف
هذه الليلة وعظَّم قدرها ، وهي قوله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر .
وما أدراك ما ليلة القدر . ليلة القدر خير من ألف شهر . تنزل الملائكة
والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر . سلام هي حتى مطلع الفجر ) سورة القدر .
الومضة الرابعة
الأعمال الخاصة بالعشر الأواخر من رمضان (بتصرف من لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي)
كان النبي يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر:
فمنها: إحياء الليل؛
فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ففي حديث عائشة قالت: { كان النبي يخلط
العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر - يعني الأخير - شمّر وشدّ المئزر }
[رواه أحمد]. ويحتمل أن يريد بإحياء الليل إحياء غالبه، ويؤيده ما في صحيح
مسلم عن عائشة، قالت: { ما أعلمه قام ليلة حتى الصباح }.
ومنها: أن النبي كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي،
قال سفيان الثوري: أحب إليّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل،
ويجتهد فيه، ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك. وقد صح عن النبي
أنه كان يطرق فاطمة وعلياً ليلاً فيقول لهما: { ألا تقومان فُتصليان }
[رواه البخاري ومسلم].
وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يُوتر.
وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة، ونضح الماء في وجهه.
وفي
الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا
كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه
الآية: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132].
ومنها: أن النبي كان يشدّ المئزر.
واختلفوا في تفسيره ؛ فمنهم من قال: هو كناية عن شدة جدِّه واجتهاده في
العبادة، وهذا فيه نظر، والصحيح أن المراد اعتزاله للنساء، وبذلك فسره
السلف والأئمة المتقدمون منهم سفيان الثوري، وورد تفسيره بأنه لم يأوِِ إلى
فراشه حتى ينسلخ رمضان. وفي حديث أنس: {وطوى فراشه، واعتزل النساء }.
وقد
قال طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [البقرة:187]: إنه طلب ليلة القدر.
والمعنى في ذلك أن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى
أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر؛ لئلا
يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح، فيفوتهم طلب ليلة
القدر، فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل، خصوصاً في الليالي
المرجو فيها ليلة القدر، فمن ها هنا كان النبي يصيب من أهله في العشرين من
رمضان، ثم يعتزل نساءه ويتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر.
ومنها: تأخيره للفطور إلى السحر:
رُوي عنه من حديث عائشة وأنس أنه كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحوراً.
ولفظ حديث عائشة: { كان رسول الله إذا كان رمضان قام ونام، فإذا دخل العشر
شدّ المئزر، واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحوراً }
[رواه ابن أبي عاصم].
وعن
أبي سعيد الخدري، عن النبي ، قال: { لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل
فليواصل إلى السحر }، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: { إني لست
كهيئتكم، إني أبيت لي مُطعم يُطعمني وساقٍ يسقيني } [رواه البخاري].
وظاهر
هذا يدل على أنه كان يواصل الليل كله، وقد يكون إنما فعل ذلك لأنه رآه
أنشط له على الاجتهاد في ليالي العشر، ولم يكن ذلك مضعفاً له عن العمل؛ فإن
الله كان يطعمه ويسقيه.
ومنها: اغتساله بين العشاءين،
وقد تقدم من حديث عائشة: { واغتسل بين الأذانين } والمراد: أذان المغرب
والعشاء، قال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر
الأواخر
وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة، ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر.
وكان
أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين،
ويستجمر ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة، والتي تليها
ليلتنا، يعني البصريين
فتبين
بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين،
والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن، كما يشرع ذلك في الجُمع والأعياد
وكذلك
يُشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات، ولا يكمل التزين الظاهر إلا
بتزين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب؛
فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئاً.
ولا
يصلح لمناجاة الملوك في الخلوات إلا من زين ظاهره وباطنه وطهرهما، خصوصاً
ملك الملوك الذي يعلم السر وأخفى، وهو لا ينظر إلى صوركم، وإنما ينظر إلى
قلوبكم وأعمالكم، فمن وقف بين يديه فليزين له ظاهره باللباس، وباطنه بلباس
التقوى.
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقوى *** تقلب عُرياناً وإن كان كاسياً
ومنها: الاعتكاف، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى.
وفي
صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، { كان رسول الله يعتكف في كل
رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين }.
وإنما كان يعتكف النبي في هذه العشر التي يُطلب فيها ليلة القدر، قطعاً لأشغاله، وتفريغاً لباله، وتخلياً لمناجاة ربه وذكره ودعائه
فالمعتكف
قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه، وعكف
بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقى له هم سوى الله وما يُرضيه
عنه. وكما قويت المعرفة والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى
الله تعالى بالكلية على كل حال. انتهى بتصرف
الومضة الخامسة
وقفة مع الاعتكاف في العشر الأواخر:
مما اختصت به هذه الليالي الكريمة الاعتكاف فيها بزيادة الفضل على غيرها من أيام السنة ، والاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله تعالى
وقال
الأئمة الأربعة وغيرهم رحمهم الله يدخل قبل غروب الشمس ، وأولوا الحديث
على أن المراد أنه دخل المعتكف وانقطع وخلى بنفسه بعد صلاة الصبح ، لا أن
ذلك وقت ابتداء الاعتكاف ، انظر شرح مسلم للنووي 8/68،69 ، وفتح الباري
4/277 .
ويسن
للمعتكف الاشتغال بالطاعات ، ويحرم عليه الجماع ومقدماته لقوله تعالى: (
ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) سورة البقرة /187 .
ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد منها .
الومضة السادسة
وأما ليلة القدر فما أدراك بليلة القدر
إنها عروس الليالي ... والفوز الغالي
عزيزة ليست لكل أحد (وما لقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) .
كريمة يكرم الله بها من أكرمها وقام بحقها.
إنها الجائزة الكبرى والمزية العظمى والكرامة الربانية والنعمة الإلهية ... فلا شقاء بعدها
إنها لَيْلَة
الْقَدْرِ ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ
الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:1-3] { ... منَ حُرم خيرها
فقد حُرم } [رواه أحمد والنسائي] عن أبي هريرة
إنها لَيْلَة الْقَدْرِ ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)
قال
مالك: بلغني أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم أُرِي أعمار الناس قبله، أو
ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل الذي بلغ
غيرهم في طول العُمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر.
هدي النبي – صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر
قال ابن رجب في لطائف المعارف:
وأما العمل في ليلة القدر
فقد ثبت عن النبي أنه قال: { من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له
ما تقدم من ذنبه } وقيامها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها والصلاة، وقد أمر
عائشة بالدعاء فيها أيضاً
قال
سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحب إليَّ من الصلاة. ومراده أن كثرة
الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء، وإن قرأ ودعا كان حسناً.
وقد كان النبي يتهجد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتلة، لا يمر بآية فيها
رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ، فيجمع بين الصلاة والقراءة
والدعاء والتفكير. وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها.
وقالت
عائشة رضي الله عنها للنبي : أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أقول فيها؟
قال: { قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فأعفُ عني } والعفو من أسماء الله
تعالى، وهو المتجاوز عن سيئات عباده، الماحي لآثارها عنهم، وهو يُحبُ العفو
؛ فيحب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض ؛ فإذا عفا
بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه، وعفوه أحب إليه من عقوبته. وكان النبي يقول: {
أعوذ برضاك من سخطك، وعفوك من عقوبتك } [رواه مسلم].
وإنما
أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي
العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحاً
ولا حالاً ولا مقالاً، فيرجعون إلى سؤال العفو الُمذنب المقصر. انتهى بتصرف
علامات ليلة القدر الثابتة:
وقد
حدد أهل العلم من المحققين العلامات التي تعرف بها ليلة القدر فأفادوا بأن
لها ثلاثة علامات وأن لها شروطا لتحصيلها، فأما العلامات:
فالعلامة الأولى : أن الشمس تطلع صبيحتها لا شُعاع لها:
فقد
ثبت في صحيح مسلم من حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم أخبر أن من علاماتها أن الشمس تطلع صبيحتها لا شُعاع لها . مسلم (
762 )
وأما العلامة الثانية : أنها ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة:
[size=12][size=21][b]فقد
ثبت من حديث ابن عباس عند ابن خزيمة ، ورواه الطيالسي في مسنده ، وسنده
صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليلة القدر ليلة طلقة ، لا حارة
ولا باردة ، تُصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة ) صحيح ابن خزيمة ( 2912 )
ومسند الطيالسي .
وأما العلامة الثالثة : أنها لا يرمى فيها بنجم " أي لا ترسل فيها الشهب "
فقد
روى الطبراني بسند حسن من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : ( ليلة القدر ليلة بلجة " أي مضيئة " ، لا حارة ولا
باردة ، لا يرمى فيها بنجم " أي لا ترسل فيها الشهب " ) رواه الطبراني في
الكبير انظر مجمع الزوائد 3/179 ، مسند أحمد .
فائدة:
جاء في فتاوى الإسلام سؤال وجواب :
ولا يلزم أن يعلم من أدرك وقامها ليلة القدر أنه أصابها ، وإنما العبرة بالاجتهاد والإخلاص ، سواء علم بها أم لم يعلم ،
وقد يكون بعض الذين لم يعلموا بها أفضل عند الله تعالى وأعظم درجة ومنزلة ممن عرفوا تلك الليلة وذلك لاجتهادهم .
الومضة الأخيرة
وداعاً رمضان عباد الله، إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، وكأني بعشره تولي مدبرة صارخة فينا :
استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ...
وقد لا ألتقي بكم في أزمنة قادمة ...
فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام،
ومن كان فرط فليختمه بالحسنى،
فالعمل بالختام،
فاستمتعوا
منه فيما بقى من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملاً صالحاً يشهد
لكم به عند الملك العلام، وودِّعُوه عند فراقه بأزكى تحية وسلام
زفرة أخيرة قبل وداع الشهر :
يا شهر رمضان ترفّق، دموع المحبين تُدفَق، قلوبهم من ألم الفراق تَشَقّق، عسى
وقفة للوداع تطفىء من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من
الصيام كل ما تخرّق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار
يُطلَق، عسى من استوجب النار يُعتق، عسى رحمة المولى لها العاصي يُوفّق.
فيا ترى من المقبول فنهنيه ومن المحروم فنعزيه ... فاحذروا فإن المحروم من حرم الثواب ...
فالله نسأل أن يجعلنا وإياكم من عتقائه من النار ومن المقبولين ...
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.