حضرَ المعلِّم فانهضُوا
حامد بن عبدالله العلي
ها
قد هلَّ هلالُ معلمِّـنا الأكبر ، مؤذِنـاً بحلوله علينـا ضيفـا ، يملأ
الفضـاء عبيرا ، وقلوب المؤمنين سرورا ، ويدخل كلِّ بيت من أهل الإيمان ،
فيقيـم فيها فرعـا لمدرسته العظيـمة ، ليلقي عليهم دروس الهدى ، ويجـدّد في
قلوب المؤمنين التقوى ، ويوعـظ الغافلين ، ويأخذ بأيـدي العاصين ، ويطـبّب
المذنبين المثقلين بالذنـوب ، ليعيدهـم إلى طريق التائبين .
وهذا جدول دروسه الجليلة ، ومنهـاج تربيته العظيـمة :
درسٌ
في حقيقة التقوى ، وأنهـا هي لبابُ لبِّ الدين ، ومنتهى غاية المؤمنين ،
وأنها علاقة خفيـِّة من العبد ، وربـّه ، تجعله يعيش بجسده مع الخلق ،
وبروحه مع الخالـق ، فيستشعر فيها حلاوة العلاقة ، ويتنفَّس حبَّ الله
تعالى ، ويعيش رقابتـه كأنـَّه ينظـر إليه ، فيرتدي خِلالَ الإيمان ،
ويتجلَّل بجلال الإحـسان.
قال تعالى ( كُتبَ عليكمُ الصيامُ كما كُتبَ على الذينَ من قبلكم لعلَّكم تتقون )
ودرسٌ
في أنَّ القرآن من الإيمان ، بمنزل الروح من الجثمان ، وأنَّ مدارسته
الليل والنهار ، سر الفـلاح ، ومعقـد النجاح ، وغذاء القلوب ، وشفاء
الصدور.
ودرسٌ في الصبـر ، وترويض النّفس ، وإخضاع الهوى لإرادة الحق ، وتربية العقل على التحكـم في الشهوات ، وضبط الملذات
ودرسٌ في إذلال الشيطان ، وإلحاق الهزيمة بدعوته ، وإبطال مكايده ، وإطفاء نار سطوته .
ودرسٌ
في إخضاع القلب بالطاعة لله تعالى خضوع المؤمن بالغيب ، والعبـد الموقـن
بحكمة الـربّ ، فليس له سؤالٌ إلاّ كيف أعبدك يا رب ؟ لا يسأل لـم ؟ ولا
يبحث عن لماذا ؟
ودرسٌ
في التعـلق بالآخرة ، والترفع عن متاع الدنيـا الدنيـّة ، وأنَّ على هذا
تدور رحى تزكية الروح ، وبـه فحسب سعادة الدنيا والآخـرة .
ودرسٌ
في أنَّ أمتـنا واحدة ، جامعها العقيدة في الله ، ورابطها الأخوّة
الإيمانيـّة ، وروح ثقافـتها عبادة الله تعالى ، وجوهـر حضارتها تحقيق
الإصلاح ، إصلاح النفس ، و المجتمع ، ومحاربة الفسـاد ، فساد النفس ،
والمجـتمع .
ودرسٌ في تكافل المجتمع الإسلامي ، وتآخي أفراده بحبـال المودّة ، والتعاطف ، والرحمـة ، لاسيما بالضعفاء ، والمساكين .
ودرسٌ في العطاء ، ونشر الخيـر ، والإحسان إلى الناس .
ودرسٌ في الإنتصار على النفس ، والهوى ، والشياطين الجنية والإنسية ، ولهذا كانت أعظم إنتصارات الإسلام في معاركه الكبرى في رمضان .
ودرسٌ
في أنَّ هذا الإيمان هو العلـم ، والعمـل ، فلاقيمة للعلم فيه إذا لم
يُعجـن فيه العمـل ، ولا يثمـر ثماره إلاّ إذا ترجمـت أفعالُه أقوالـَه .
ودرس
في المثابرة على العمل الصالـح ، والمداومة على الخير ، وأنَّ إعتياد
العمل الصالح لايتحصل إلاّ بتكراره حتى يشربه القلب ، ويتغلغل في شرايين
النفس .
ودرس في التحلّي بالأخـلاق الحميدة ، والتجمـّل بالصفات الرفيعـة الرشيـده.
والمعلـّم الأكبـر يعطي هذه الدروس مدة شهـر كامل ، ولكلِّ مسلم على حده ، ولكلّ أسرة موحـّده ،
ويشرف بنفسه على تربية المؤمنين ، وترقية المسلمين ، فردا فردا ، وبيتا ، بيتـا.
وليس
منا أحـدٌ إلاَّ وقد سًُّجل في مدرسة هذا المعلم إسمـُهُ ، وحُـدِّد
وصفُهُ ورسمهُ ، ليتلقى الدروس اليومية ، وليتدرَّب في نهاره ، وليتمـرَّن
في لياليه .
ثـمَّ
الناس في مدرسته أنواع ، وأجناس ، فمنهم المتفـوق بإمتياز ، ومنهم المجتهد
الممتاز ، ومنهم المقتصـد المجتاز ، ومنهم الضعيف بأدنى إنـجاز.
ومنهم السابقون الأوائل ، وعليهم في كـلِّ عام أوّل السابقين ، لايعلمه إلاّ الله تعالـى ،
يكتب إسمه في السماء في لوحـة شرف هذه المدرسـة : هذا سابق المؤمنين في مدرسة رمضان ، وأول الفائزين فيه من أهل الإيمان.
فيا
أيها المؤمنون أكرموا معلمـَّكم بالجلوس بين يديه بتوقير وإجـلال ،
وواظبوا على حضور دروسه ، والإنصات إلى تعاليمه ، والتدرُّب في مدرسـته ،
واستعدُّوا لاجتياز الإمتحان آخر الشهـر بأعلى الدرجات ، وأرفع العلامـات .
وليكن
هم كلَّ واحـد منـَّا أن يكون سابقا ، بأنَّ يجمـَّع همـَّه على حسن أداء
الفريضة أولا ، وتنزيه الجوارح واللسان عما يشين الصيام ، ثم التعلق
بالقرآن ، ومداومة الذكر ، وإحيـاء الليل بالقيام ، وتعطير القلب بمجامع
الخير ، وتطيـيب الجسد بجوامع الفضـل .
وليتذكر
كلَّ واحدٍ منا أنَّ ما يناله العبد من هذه المنازل الشريفة في هذا الشهر
المبارك ، إنما يكون بحسب إخلاص النية ، فهي أوّل المنازل ، وآخرها ،
وأصلها ، وفرعها ، ومبدؤها ومنتهاها ، ولحُمتها وسداها ، وحاشيتها وقطـب
رحاها .
ونسأل
الله تعالى أن يمن علينا من فضائل هذا الشهر الكريم ، ما يتقبل به أعمالنا
، ويرفع به قدرنا ، ويغفر به ذنوبنا ، ويلم به شعثنا ، ويصلح به أحوالنا ،
ويحسـن به عاقبتنا في أمورنا كله ، والمسلمين ، والمسلمات ، والمؤمنين ،
والمؤمنـات
آميـن