فضائل منسية في شهر الصوم
فضائل منسية في شهر الصوم
ناصر بن يحيى الحنيني
الحمدلله
جزيل العطا كثير الهبات، الحمدلله الذي أسبغ علينا المكرمات، وخص بعض
شهوره بالخير والبركات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب
البريات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى كل الخيرات جميع الخلق
في الأرض والفلوات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولى النهى والمكرمات
وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم تكفير فيه الخطايا والسيئات، ثم أما بعد:
أيها المسلمون:
نحن على وشك أن نستقبل ضيفاً كريماً، وزائراً رحيماً، وطاهراً سليماً،
فكيف تكون ضيافته، نعم أيها المسلمون ضيافة هذا الضيف عجيبة فقد جرت
العادة أن الضيف لا يعطي شيئاً بل المضيف هو الذي يعطي ويكرم ونحن مع ضيف
كريم هو الذي يكرم من استضافه وأحسن وفادته، ضيفنا الكريم هو شهر رمضان
المبارك، إن هذا الوقت وهذا الزمن من السنة له منزلة عند ربنا، ولهذا أودع
فيه من الخير والبركة مالا يوصف من مضاعفة الحسنات وتكفير السيئات والعتق
من النار وتصفيد الشياطين وفتح أبواب الجنان وإغلاق أبواب النيران، وجعل -
سبحانه - جزاء الصوم خاصاً به من سائر الأعمال، وأودع فيه ليلةً خيراً من
ألف شهر، وهذه الفضائل معلومة عند كثير من المسلمين، ولعلي في هذه الخطبة
أشير إلى شيء من فضائل وهبات هذا الشهر التي قد لا يعلمها كثير من الناس
أو تكون منسية لا يؤبه لها فإلى شيء منها:
أولاً: أن الحسنات
في هذا الشهر تضاعف بل حساب ولا عد بخلاف غيره من الشهور فإن الحسنة بعشر
أمثالها إلى سبعمائة ضعف فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله
عنه - عن النبي ? قال: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى
سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته
وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء
ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك).
قال ابن رجب -
رحمه الله -: "فتكون الأعمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا
الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله عز وجل
أضعافاً كثيرة بغير حصر عدد، فإن الصيام من الصبر وقد قال الله - تعالى -:
(إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)" أ. هـ.
واعلم أن الصوم
اجتمعت فيه أنواع الصبر الثلاثة: صبر على طاعة الله وصبر على ترك المعصية
وصبر على أقدار الله ففيه ألم الجوع والعطش والتعب، قال ابن رجب: " وهذا
الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه كما قال الله - تعالى - في
المجاهدين: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا
يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل
صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين)[التوبة120] فيا حسرة ويا ندامة من
فاته هذا الفضل العظيم فكل عبادة وعمل تعمله فإنه يضاعف مهما كان في نظرك
صغيراً فلا تحقرن من المعروف شيئاً، وكل جهد وتعب تناله فلن يضيع عليك سدى
فما ألذ وأشهى الطاعة في رمضان وما أحلى التعب والنصب في شهر الرحمة
والغفران.
ثانياً: ورد في
الحديث: (أنه ينادي مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله
عتقاء من النار وذلك في كل ليلة)، فمن أعظم ما تميز به رمضان من المنح
الربانية والفضائل الإلهية أنه شهر يعتق الله فيه من النار في كل ليلة حتى
إذا كانت آخر ليلة من رمضان أعتق الله فيها مثل الذين اعتقهم في طوال
الشهر، فتصور يا عبدالله أن لك في كل ليلة من ليالي الشهر فرصة وباباً
مفتوحاً إلى الجنة فإذا فاتك اليوم الأول لك أن تدرك اليوم الثاني وهكذا
إلى نهاية الشهر وتصور أن الفرصة تكون أعظم في آخر ليلة، وأسألك بالله ألا
يستحق من ضيع على نفسه هذا الفضل أن يكون من الخاسرين الهالكين حيث قال
جبريل للمصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه
من هو يا جبريل قال من أدرك رمضان ولم يغفر له).
ثالثاً: قال - صلى
الله عليه وسلم -: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من
ذنبه) وقال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)
وقال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وقد
ثبت في رواية صححها جمع من العلماء منهم الحافظ ابن حجر: (من صام رمضان
إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر).
رابعاً: أن
العبادة لها شأن ووزن ليس كغيره من الشهور كما ثبت عنه - صلى الله عليه
وسلم - أنه قال: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي) فالعمرة تكفر الذنوب ولها
أجر عظيم لكن ارتفعت مزيتها وزاد أجرها وعظم فضلها في شهر رمضان وكذلك
الصوم في رمضان منزلته أعلى من الصوم في غيره والقيام والصدقة وسائر
الأعمال من صلة رحم وبر والدين وغيرها من القربات فلا تضيع على نفسك
الفرصة فإن الدنيا أيام ثم نرتحل منها والسعيد من خرج منها وقد ثقل ميزان
الحسنات وتخفف من الآثام والسيئات.
خامساً: ثبت في
الحديث الصحيح: (للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه) أما
الفرحة التي عند فطره فلأمور: منها أن النفوس مجبولة على الفرح بما
يلائمها من الطعام والشراب والنكاح فإذا منعت في وقت ثم أبيح لها في آخر
الوقت فرحت بما أذن لها من المباحات التي تلائم فطرتها، وزيادة على هذا أن
من كرم الله أن الله يحب من عبده أن يعجل هذه الفرحة فقد ثبت أن أحب
عباده إليه أعجلهم فطراً، وكذلك مما يبين فرحة المؤمن بفطره أنه ترك شهوته
لله بالنهار تقرباً وطاعة إليه، وبادر إلى هذه الشهوات في الليل تقرباً
وطاعة إليه فما تركها إلا بأمر ربه ولا عاد إليها إلا بأمر ربه فما أعظم
بركة هذا الشهر الذي مليء بالحسنات والبركات من أوله إلى آخره.
وأما فرحه عند
لقاء ربه: فلما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخراً ويكون في أشد الحاجة
إليه كما قال - تعالى -: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو
خيراً وأعظم أجر) وقال - تعالى -: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً
وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيد) وقال - تعالى -: (فمن
يعمل مثقال ذرة خيراً يره) فجزاء لما ترك الصائم من الشهوة والملذات فإنه
إذا مات سوف يعوض بخير مما ترك جزاء وفاقاً كما قال - تعالى -: (كلوا
واشربوا هيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية) قال مجاهد وغيره: نزلت في
الصائمين، وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن في
الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم) وفي
رواية: (إذا دخلوا أُغلق)، وفي رواية: (من دخل منه شرب ومن شرب لم يظمأ
أبداً).
سادساً: أن من
الجمع بين الصيام والصدقة والقيام من أعظم أسباب دخول الجنة فقد ثبت في
الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن في الجنة غرفاً
يرى ظهورها من بطونها وبطونها ن ظهورها) قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال:
(لمن طيب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام) وهذه
الخصال المذكورة في الحديث كلها تكون في رمضان فيجتمع فيه للمؤمن الصيام
والقيام والصدقة وطيب الكلام فإنه ينهى عن اللغو والرفث والكلام الفاحش.
سابعاً: ثبت في
الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه
وسلم - أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه
القرآن وكان جيريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله -
صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة).
والجود ليس
مقتصراً على الجود بالمال وإن كان هو أظهر أنواع الجود، فقد كان - صلى
الله عليه وسلم – لا يسأل عن شيء إلا أعطاه، ولله - سبحانه - جواد كريم لا
حد لكرمه وجوده فهو يعتق من النار كل ليلة جودا وكرما وتفضلا على عباده
وهذا شهر الجود والكرم، وكذلك الجود يكون بكل أنواع الجود من حسن الخلق
والإنفاق وبذل الخير ونشر العلم والجهاد في سبيله وقضاء حوائج الناس وتحمل
أثقالهم وقد اجتمعت فيه كلها - صلى الله عليه وسلم - فحري بالمؤمن أن
يحرص على أن يفوز بكل معاني الجود حتى ينال أعظم الدرجات.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم