تعظيم العصيان في شهر رمضان
تعظيم العصيان في شهر رمضان
لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
- المسألة الأولى: فضل رمضان
ورد في فضل رمضان آثار
معروفة في الصحيح، من ذلك ما رواه البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- قال: "يقول الله - تعالى -: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي
وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب،
فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم. والذي نفس محمد بيده،
لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا
أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه".
في هذا الحديث أربع بشارات:
الأولى: أن الصوم لله -
تعالى -، هو الذي يجزي به، والله - تعالى - يجزي على جميع الطاعات، لا
مثيب غيره، غير أن تخصيص الصيام بذكر ثواب الله - تعالى - له، يدل على
زيادة معنى في الثواب على غيره من الطاعات، هذا المعنى اختلفوا فيه، فقال
سفيان بن عيينة: (إذا كان يوم القيامة يحاسب الله - عز وجل - عبده، ويؤدي
ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله
ما بقي عليه من المظالم، ويدخل بالصوم الجنة) [الترغيب والترهيب 1/82].
وقيل: كل طاعة لها أجر
محدود، إلا الصوم فغير محدود، ويشهد لهذا القول رواية مسلم: "كل عمل ابن
آدم له يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله - تعالى -:
إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" [انظر: صحيح الترغيب والترهيب 1/407،
حاشية 5].
الثانية: أن الصوم جنة،
أي وقاية وستر من النار، ففي الترمذي: "والصوم جنة من النار" [صحيح
الترغيب والترهيب 1/407]، وذلك أن الشيطان يجري في عروق ابن آدم، فإذا
صام المرء ضاقت العروق لقلة جريان الدم فيها، فتضيق حينذاك المسالك على
الشيطان، فتقل وساوسه، ثم إن الشياطين تصفد في هذا الشهر، وبهذا يقبل
الناس على الطاعة، فيكون الصوم لهم جنة.
الثالثة: خلوف فم الصائم
أطيب عند الله من ريح المسك، وهذه كرامة للصائم، قيل في معناه: أن الله -
تعالى -يجازيه بطيب الرائحة في الآخرة فيكون مسكا، كالمكلوم في سبيل
الله - تعالى -يأتي وجرحه يفوح مسكا. [انظر: الفتح 4/106]
الرابعة: أن الصائم يفرح بفطره، وبلقاء ربه، وعند أحمد [2/232، صحيح الترغيب 1/407]: "وإذا لقي الله فجزاه فرح".
ومن فضائل شهر الصوم:
غفران الذنوب فيه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قام ليلة
القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا
واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" [متفق عليه]، أي مصدقا بأمر الله -
تعالى -، مخلصا له النية، محتسبا للثواب من الله - تعالى -.
ومن ذلك قوله - صلى الله
عليه وسلم -: "وإذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة
الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم
يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر،
ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة" [رواه الترمذي صحيح الترغيب
1/418].
وفضله أن فيه ليلة هي
خير من ألف شهر، أي خير من ثمانين سنة وزيادة، قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم-: "إن هذا الشهر حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها
فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم" [رواه ابن ماجة بسند حسن،
صحيح الترغيب 1/418]
* * *
- المسألة الثانية: سبب تعظيم الذنب في هذا الشهر.
الذنوب في هذا الشهر
مضاعفة، والسبب: أن الاصطفاء والاختصاص موجب لمضاعفة الحسنات، ومضاعفة
السيئات، سواء كان الاختصاص في: الأشخاص، أو الأمكنة، أو الأزمنة:
- فالله - تعالى - اصطفى
واجتبى نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وكان هذا الاختصاص سببا في
مضاعفة حسناته، ونيله أجور من عمل بهديه، لا ينقص من أجورهم شيئا، حتى
صار أعلى الناس درجة، كذلك أخبره الله - تعالى -أن ما يكون منه من خطأ
فعقوبته مضاعفة، وحاشاه ذلك، لكن هذا بيان شرعي لأحكام أهل الاجتباء
والاختصاص، قال - تعالى -: "وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك
لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن
إليهم شيئا قليلا* إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك
علينا نصيرا"، أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات.
ومثل هذا ما جاء من خطاب
في حق أمهات المؤمنين زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال - تعالى
-: "يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان
ذلك على الله يسيرا * ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها
مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما".
فهن قد اصطفاهن الله -
تعالى -لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، فلهن من الحظ والنعمة ما ليس
لغيرهن، في الإيمان والدرجة والعيش في بيت النبوة، فلا يليق بهن العصيان،
كما ثواب طاعتهن مضاعف.
- والحكم نفسه ينطبق على
الأمكنة المختصة بالشرف والحرمة مثل مكة، فالأعمال فيها أعظم من غيرها،
فالصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة فيما سواه، وكذا الذنب هو فيها
مضاعف، قال - تعالى -: "إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد
الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد
بظلم نذقه من عذاب أليم".
- والحكم نفسه يعمل به
في الأزمنة المشرفة المحرمة، كشهر رمضان، ودليل حرمته النصوص الدالة على
عظمته، وبيان عظم الثواب فيه، ورحمة الله عباده فيه، وفتح أبواب الجنة،
وغلق أبواب النيران، وتصفيد الشياطين، واختصاصه بليلة هي خير ألف شهر،
فالحسنات فيه إذن مضاعفة، وإذا ثبتت مضاعفة الحسنات فذلك دليل على مضاعفة
السيئات أو تعظيمها، لما سبق من أن التضعيف في حال الاختصاص والاجتباء
يكون في الحسنات، ويكون في السيئات.
ثم إنه مع ذلك: قد نص
الدليل على عظم الذنب في رمضان، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى
قوما معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل دماؤهم، فسأل عنهم؟ فقيل له:
(الذين يفطرون قبل تحلة صومهم) [ابن خزيمة، صحيح الترغيب 1/420]
وقد أمر النبي - صلى
الله عليه وسلم - الرجل الذي وقع على امرأته نهار رمضان بأعظم الكفارات،
وهي كفارة القتل والظهار: عتق رقبة، فإن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين،
فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، وغلظ الكفارة من غلظ الذنب، وقد
استوجبها لما واقع حليلته (زوجته) في نهار رمضان، في الوقت المحرم، فدل
هذا على أن الذنب في رمضان ليس كغيره، وإذا كان هذا التشديد والوعيد
والعقوبة في حق من انتهك الشهر مع حليلته، فكيف بمن انتهكه مع حليلة جاره
أو مع أجنبية لا تحل له؟.
* * *
- المسألة الثالثة: تعريف الذنب.
هناك من يعبث بالشرع فيجعل الذنوب من المباحات، وهذا موجب لبيان ما هو الذنب في الشريعة:
لكلمة الذنب مترادفات
شرعية مثل: المعصية، الإثم، الخطيئة، السيئة، السوء. وكلها تعبر عن حقيقة
ما يفعله الإنسان حين يخالف أمر الله - تعالى -، وكل هذه الألفاظ وردت
في القرآن في سياق الذم والوعيد، قال - تعالى -:
- "والذين إذا فعلوا
فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا
الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون".
- "ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين".
- "ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا".
- "بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
- "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم".
فكل هذه المترادفات تدور حول معنى واحد هو: مخالفة ما أمر الله - تعالى -به، فعلا أو تركا.
فالمخالفة تكون بترك
واجب، أو بفعل محرم، ولا يدخل فيها ترك المندوب، أو فعل المكروه، لأن
المندوب هو: ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه. والمكروه هو: ما يثاب
تاركه، ولا يعاقب فاعله.
فلا يدخل هذان النوعان من الأحكام في باب المعصية والذنب، ومن باب أولى ألا يدخل المباح.
أما الواجب فيدخل في
الذنب من جهة تركه، فمن ترك الواجب أثم، لأن الواجب هو: ما يثاب فاعله،
ويستحق العقاب تاركه. وكذلك المحرم يدخل في الذنب من جهة فعله، لأن
المحرم هو: ما يثاب تاركه، ويستحق العقاب فاعله.
وعلى ذلك: فإذا قيل: أذنب فلان. فمعناه: إما أنه ترك واجبا، أو فعل محرما.
وقد اتفقت الأمة على
وجوب القيام بالواجبات، والانتهاء عن المحرمات، وكل ما أمر الله - تعالى
-به فهو واجب، ما لم يصرفه صارف إلى الندب، كالصلاة، والصيام، والحج،
والزكاة، وبر الوالدين، والصدق، والأمانة، والحجاب للمرأة، وإيفاء الوعد،
وحفظ اللسان، ونحو ذلك.
وكل ما نهى الله - تعالى
- عنه فهو محرم، ما لم يصرفه صارف إلى الكراهية، كالشرك، والسحر،
والكهانة، والربا، والزنا، والرشوة، وأكل مال الغير، وتبرج المرأة وسفورها
واختلاطها بالرجال، وعقوق الوالدين، والكذب، والغيبة، والنميمة، ونحو
ذلك.
مع ملاحظة الفرق في معنى
الكراهية بين الأئمة المتقدمين والمتأخرين، فالأولون كانوا يستعملونه في
معنى المحرم، وهو كذلك في القرآن، كما في سورة الإسراء، في آيات
الوصايا: نهى القتل، والزنا، وأكل مال اليتيم، والبطر والكبر، ثم قال: "كل
ذلك كان سيئة عند ربك مكروها".
أما المتأخرون فإنهم يستعملون المكروه في معنى ما دون المحرم، مما يثاب تاركه، ولا يعاقب فاعله.
فالواجبات معلومة،
والمحرمات معلومة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الحلال
بيّن، والحرام بيّن)، فلا مجال للتبديل والتحريف والتغيير، فالله - تعالى
-تكفل بحفظه دينه، رسما بحفظ القرآن، ومعنى بحفظ الشريعة من تبديل
معانيها، فقال - تعالى -: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون".
فمهما يكن فإن المسلم
المستمسك بدينه المعتصم بحبل الله - تعالى - المتين لن يضل في معرفة
الحلال والحرام، فثمة من يبين له حكم الله بصدق، فهذا شاهد، وشاهد آخر
يجده في نفسه، مهما اختلف الناس، مهما كثر المتحايلون، وهو الذي قال فيه
النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع
عليه الناس)، فالفطرة الصحيحة والقلب السليم يدل صاحبه على الحق مهما
تنازع الناس، فالحلال بيّن، والحرام بيّن، والحق أبلج، والباطل يتلجلج،
والسنة جلية لا يزيغ بعدها إلا هالك.