رمضان والتوحيد
رمضان والتوحيد
التوحيد
هو أساس هذا الدين ، وركنه الركين وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً
رسول الله هي جوهر الإسلام، وهي خلاصة إخلاص العبودية لله رب العالمين،
وثمرة صدق الاتباع لخاتم الأنبياء والمرسلين .
ومن
المعلوم أن أخفي أنواع الشرك هو الرياء الذي وصف النبي الكريم - صلى الله
عليه وسلم - خفاؤه فقال : ( إنه أخفى من دبيب النمل )، وخاف - عليه الصلاة
والسلام - على أمته منه فقال:( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ،
قالوا : ومالشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء ) .
ونحن
نعلم أن أخص خصائص الصوم التدريب على الإخلاص والتعويد على المراقبة ،
وأنه يبعد العبد عن الرياء ، ويجنّبه عدم الحياء ، ففريضة الصيام من أعظم
العبادات التي يتحقق فيها العبد بخلوص التوحيد بالإخلاص ، وحياة التوحيد
بالمراقبة ، فهو في صيامه لا يبتغي إلا وجه الله ، وخير دليل على ذلك
الحديث القدسي المشهور الذي يرويه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن رب
العزة والجلال أنه قال: ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي
به ) .
فالصوم"ينمي
في نفوس رعاية الأمانة والإخلاص في العمل،وأن لا يراعي فيه غير وجه
الله،وهذه فضيلة عظمى تقضي على رذائل المداهنة والرياء والنفاق ".
وتعليل
اختصاص الصوم وجزائه بما ذكر في الحديث القدسي فيه كلام نفيس للعلماء، ومن
ذلك : 1- أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره .
2-أن
الصوم لا يظهر من ابن آدم بفعله إنما هو شئ في القلب، وذلك أن الأعمال لا
تكون إلا بالحركات إلا الصوم ؛ فإنه بالنية التي تخفى عن الناس .
3-جميع العبادات تظهر بفعلها وقل أن يسلم ما يظهر من شائبة بخلاف الصوم .
4-أعمال
بني آدم لما كان يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم، بخلاف الصوم فإن
الممسك شبعاً مثل حال الممسك تقرباً أي في الصورة الظاهرة لذا أضافه الله
إليه .
5-دخول الرياء في الصوم لا من جهة الإخبار بأن يقول للناس: إني صائم، بخلاف بقية الأعمال فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها .
6- لأن الصوم لا يدخله الرياء لخفائه ولأن الجوع والعطش لا يتقرب بهما إلى أحد من ملوك الأرض ولا يتقرب بهما إلى الأصنام .
فالصوم
"سر بين العبد والله تعالى يفعله خالصاً ويعامله به طالباً لرضاه " ، فهو "
لرب العالمين من بين سائر الأعمال فإن الصائم لا يفعل شيئاً وإنما يترك
شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها
إيثاراً لمحبة الله ومرضاته " .
فهذا
الصوم الذي تتحقق فيه - أخي المسلم - بالإخلاص لله بعيداً عن الرياء ،
فيتعمق في قلبك اليقين ويزيد رصيدك من الإيمان ، وتتجلى في نفسك معاني
التوحيد ، فإذا أضيفت إلى ذلك ما يثمره الصوم من استشعار مراقبة الله،
واستحضار عظمته تبين لك كم هي عظيمة آثار الصوم في مجال التوحيد، وما أعظم
الإشارة القرآنية البليغة التي أوجز فيها المولى سبحانه وتعالى خلاصة آثار
الصوم ومنتهى غايته وحكمته في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كُتب
عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } ، وأجلُّ معاني
التقوى مراقبة الله التي تملأ النفس والقلب، وتنتصب شاهداً على عظمة
الإيمان وصدق التوحيد .
والصوم
"يعد نفس الصائم لتقوى الله بترك شهواته الطبيعية الميسورة التناول عليه
والعزيزة إليه بحيث لو لا تقوى الله وحسن مراقبته لما تركها، ولو كان تركها
بأنفس الأثمان ولكن تقوى الله جعلته يعي أمانة الله في حال خفائه عن
الناس واختلائه بنفسه " ، فما أجلّها من فائدة في تحقيق جوهر الإيمان،
وحصول حقيقة التوحيد ! وما أكبر الأثر المترتب على ذلك من الخوف والرجاء
إذ أن الصائم يعلم أن له رباً يطلع عليه في خلوته ، وقد حرم عليه أن
يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربه، وامتثل
أمره، واجتنب نهيه، خوفاً من عقابه ورغبة في ثوابه .
وإن
"من علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله
يكرهه فتصير لذاته فيما يرضي مولاه وإن كان موافقاً لهواه "، وهذا من شأنه "
أن يورث خشية الله، وينمي ملكة المراقبة، ويوقظ الضمير " ، وقد جعل الله
لهذه المحامد وتلك المآثر التي يتحقق بها الصائمون في معاني تجريد الإخلاص
وتعميق المراقبة جهل لها ثواباً متميزاً إذ جعل للصائمين باباً خاصاً من
أبواب الجنة يدخلون منه لا يشاركهم فيه سواهم ، كما في حديث سهل بن سعد
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن في الجنة باباً يقال له
الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا
أغلق فلم يدخل منه أحد ) ، فتأمل هذه الخصوصية وهذا الإعلان الذي يظهر فبه
الصائمون ويُعرفون على رؤوس الأشهاد، إنه جزاء من جنس العمل، ألم يكن
خالصاً لله ؛ فإن "الصيام لما كان سراً بين العبد وربه في الدنيا أظهره
الله في الآخرة علانية للخلق ليشتهر بذلك أهل الصيام ويُعرفوا بصيامهم بين
الناس جزاءً لإخفائهم الصيام في الدنيا .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين