الصوم والتربية الإيمانية
الصوم والتربية الإيمانية
بدر عبد الحميد هميسه
الصوم
مدرسة تربوية كبرى يتربى فيها المسلم على الإيمان الحقيقي، الإيمان الذي
تزينه التقوى والمراقبة والمراجعة والمحاسبة، الإيمان الذي يتربى فيه
المسلم على الحمد والشكر والتحمل والصبر، الإيمان الذي يجمله علم ويحليه
حلم، الإيمان الذي حدد المولى- تبارك وتعالى - أهدافه ومقاصده في آيات
الصيام فقال عز من قائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى
لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا
اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا
دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ) [سورة البقرة: 183- 186].
فالصوم من أهم
العوامل والمؤثرات التي تربط الإنسان بخالقه وتوقظه من غفلته، فيندم على
ما ارتكبه من المخالفات والآثام، وتصحو هذه النفس عن المعاصي، وينقطع
شهراً إلى الله - تعالى - حتى وهو في عمله دائماً يتذكر صيامه، ومع تلاوة
القرآن، وفي كل أحواله هو مع الله - تعالى -.
إشراقات ونورانيات
وروحانيات كلها ببركة شهر القرآن توبة وغفران وعفو ورضوان ينقاد إليه
المسلم في هذا الشهر، فيعود إلى نقاء وصفاء وسمو روح عن كثير من الشهوات
وملذات الجسد، ولهذا نجد كثير من الحكماء جعل الصوم كالعين للجسد كلما راح
في غيه رجع للصوم ليجد فيه ومنه الصفاء والحكمة.
عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ
لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ
للهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) أخرجه أحمد 2/452
(9838)، و"البُخاري" 1903، و"أبو داود" 2362، و"التِّرمِذي" 707،
و"النَّسائي" في "الكبرى" 3233.
ففوائد الصوم
الروحية تبدأ من تثبيت الإخلاص، والإخلاص ضرورة لكل عبادة إلا أنه في
الصوم ذا خصوصية لا تكون في غيره من العبادات لخصوصيته بسره وكتمانه،
ولاشتراك الناس في العبادات إلا الصوم الذي نسبه الله لنفسه فقال: ((الصوم
لي وأنا أجزي به)).
والصوم يذكر بالنعم التي أنعم الله بها على العبد فهو يتذكر ويشكر ويدوم على شكرها بالمراقبة للمنعم.
كما أنه يعود
المسلم على الصبر والإرادة والعزيمة والتحمل، ويعلم ضبط النفس ويساعد
عليه، ويوجد في النفس ملكة التقوى ويربيها، وبخاصة التقوى التي هي العلامة
البارزة من الصوم. أنه عبادة يتقرب بها العبد إلي ربه بترك محبوباته
المجبول على محبتها من طعام وشراب ونكاح لينال بذلك رضي ربه، والفوز بدار
كرامته، والصيام يربي الإرادة على اجتناب الهوى والبعد عن المعاصي، إذ فيه
قهر للطبع، وفطم للنفس عن مألوفاتها، وفيه كذلك اعتياد النظام، ودقة
المواعيد مما يعالج فوضى الكثيرين لو عقلوا.
كذلك من فوائد الصيام التدريب على الصبر وهو صفة مهمة لكل مسلم، وبخاصة الجنود والمقاتلين.
ومن فوائد الصيام وحكمه أيضًا: أنه يرقق القلب ويلينه، ويتخلى القلب للذكر والفكر.
ومن فوائد الصوم وحكمه: أن الصيام الخالص والصيام الحقيقي يورث في القلب حب الطاعة، وبغض المعصية.
والصوم أيضاً فرصة
لتربية الرحمة في النفوس، حتى تعيش الجسد الواحد الذي يؤلم بعضَه ألمُ
بعض، إنه من سنن الحياة أن الرحمة تظهر عند الإحساس بالألم، وأن الطغيان
ينشأ عند الغفلة مع الأمن والغنى، قال - تعالى -: (كَلاَّ إِنَّ
الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6-7]، وهذا بعض
السر الاجتماعي في الصوم، إذ يبالغ المسلم أشد المبالغة، ويدقق كل التدقيق
في منع الغذاء، وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدةً آخرها آخر الطاقة، وهي
طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريق غيرها إلا النكبات
والكوارث التي تحل بالناس، أنه يعود الأمة النظام والاتحاد، وحب العدل
والمساواة، ويكوّن في المؤمنين عاطفة الرحمة وخلق الإحسان، كما يصون
المجتمع من الشرور والمفاسد.
ومن الحكم الجليلة
التي شرع لها الصيام أن يشعر الإنسان بالجوع فترة الصيام فيتذكَّر أهل
الجوع دائماً من المساكين والفقراء، ليرأف بهم، ويرحمهم، ويتصدق عليهم.
وقد جعل النبي -
صلى الله عليه وسلم - الصوم للشباب "وجَاءً" أي: مخففاً من حدة الشهوة،
كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم
الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم
فإنه له وِجاء)) [متفق عليه]، ذلك أن الصوم يكسر حدة شهوة النكاح.
فالصوم من أعظم
البواعث على إيقاظ الروح، وتنقيتها من الشوائب والأوضار، ذلك أن امتلاء
المعدة بالطعام، وانبعاث النفس مع الشهوة يوبق الروح، ويطمس أنوارها،
ويحجب أشواقها وأسرارها.
ومن وصايا لقمان لابنه: "يا بني إذا ملأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة".
وقال أبو حامد الغزالي: "في جوع الإنسان صفاء القلب، وإيقاد القريحة؛ لأن الشبع يورث البلادة ويعمي القلب".
وفي ذلك يقول الشاعر معروف الرصافي وهو يصف بعض الصائمين الذين يتهافتون على الطعام غير مبالين بالعواقب:
وأغبى العالمين فتى أكول *** لفطنته ببطنته انهزام
ولو أني استطعت صيام دهري *** لصمت فكان ديدني الصيام
ولكن لا أصوم صيام قوم *** تكاثر في فطورهم الطعام
فإن وضح النهار طووا جياعاً *** وقد هموا إذا اختلط الظلام
وقالوا يا نهار لئن تجعنا *** فإن الليل منك لنا انتقام
وناموا متخمين على امتلاء *** وقد يتجشؤون وهم نيام
فقل للصائمين أداء فرض *** ألا ما هكذا فرض الصيام
فالصوم مدرسة
تربوية كبرى دروسها لا تحصى ولا تستقصى، فطوبى للمشمرين القانتين، ويا سعد
العابدين المتهجدين، والجنة لمن أخلص الصيام لله رب العالمين