رمضان شهر العمل
رمضان شهر العمل
بدر عبد الحميد هميسه
العبادة
والعمل في الإسلام صنوان لا يفترقان وقيمتان متلازمتان، فالعبادة عمل
يسعى به المسلم إلى إرضاء ربه ومولاه، وهي المقصد الأسمى والأعلى من خلق
الإنسان، قال - سبحانه -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ
يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)
[سورة الذاريات:56-58].
والعمل عبادة؛ لأنه يحقق
معنى الاستخلاف في الأرض الذي هو الغاية أيضاً من خلق الإنسان، قال عز من
قائل: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)
[سورة هود:61].
لذا فقد ربط - سبحانه -
بين الصلاة كعبادة والسعي في الأرض كعبادة أيضاً، قال - تعالى -: (فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
[سورة الجمعة:10].
وربط النبي - صلى الله
عليه وسلم - بين الصوم والعمل، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِىُّ،
قَالَ: حَدَّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ
شَعْبَانَ؟، قَالَ: ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ
رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى
رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِى وَأَنَا صَائِمٌ))
[أخرجه أحمد 5/201(22096)، و"النَّسائي" 4/201].
لذا فقد رفض - صلى الله
عليه وسلم - جعل الصوم تكأة وحجة لترك العمل، والتعلل به، وجعله سبيلا إلى
العنت والمشقة، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ
اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مَكَّةَ، عَامَ الْفَتْحِ، فِي
رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ،
فَبَلَغَهُ أَنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، فَدَعَا
بِقَدَحٍ مِنَ الْمَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَشَرِبَ، وَالنَّاسُ
يَنْظُرُونَ، فَأَفْطَرَ بَعْضُ النَّاسِ، وَصَامَ بَعْضٌ، فَبَلَغَهُ
أَنَّ نَاسًا صَامُوا، فَقَالَ: ((أُولَئِكَ الْعُصَاةُ)) [أخرجه "مسلم"
3/141(2579) و"النَّسائي" 4/177، وفي "الكبرى" 2583].
قال الشاعر:
رمضان سر الله في أيامه* * * يهدي العصي وللنعيم يقوده
فالليل تال والكتاب مرتل * * * ومن الملائكة الكرام شهوده
والذكر والدعوات في آنائه * * * سيل يفيض فلا تبين حدوده
والرحمة العظمى تبارك أهلها* * * ولكل أهل حظه وسعوده
إن المسلمين هم الذين
حوَّلوا هذا الشهر إلى شهر كسل وتراخٍ بما يسهرونه من الليل، وينامونه من
النهار، ولو أنهم صاموا حق الصيام، وتحرَّوا الوصول إلى مقاصد الصيام
العظيمة؛ لتحقق للأمة في هذا الشهر من الكفاية الإنتاجية ما يكفيها باقي
السنة.
وتاريخ المسلمين الطويل
شاهد على أن هذا الشهر هو شهر الإنتاج والعمل، وشهر الانتصارات الكبرى،
حين تهب ريح الإيمان، ونسمات التقوى، وتتعالى صيحات الله أكبر فيتنزل
النصر من الله - تعالى -، على قلة العَدد وقلة العُدد، ومن أشهر
الانتصارات الكبرى للمسلمين في شهر رمضان:
- بدر الكبرى 2هـ
في العام الثاني من
الهجرة، وفي شهر رمضان المبارك وقعت معركة هي من أهم المعارك الإسلامية،
كيف لا وهي المعركة الأولى التي فصل الله فيها بين الحق والباطل، فكانت
كلمة الله هي العليا وكلمة الباطل السفلى؟! كيف لا وهي أولى معارك الدولة
الإسلامية؟! ولو لا أن الله كتب النصر في هذه المعركة لدينه ونبيه وجنده
لاندثر الإسلام ولم تقم له قائمة، كما كان يخاطب النبي - صلى الله عليه
وسلم - ربه: ((اللهم إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض)).
- فتح مكة 8هـ:
وفي رمضان في السنة
الثامنة للهجرة، كان الفتح الأعظم، فتح مكة المكرمة، وتطهيرها من الرجس
والأوثان والمشركين، وعلت كلمة الحق في حَرَم الله، وعاد إليها رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -، هو وصحبه بعد ثماني سنوات قضوها في المدينة
مجاهدين ناشرين لدين الله.
- موقعة البويب 13هـ:
وفي شهر رمضان من العام
الثالث عشر في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-، كانت
موقعة " البويب" على ضفاف نهر الفرات في بلاد فارس، بوصية من أبي بكر
الصديق - رضي الله عنه - خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان
قائد المسلمين المثنى بن حارثة، وانتصر المسلمون على الفرس، وارتفع فيها
لواء الإسلام.
- فتح الأندلس 29هـ:
وفي رمضان عام 92هـ،
فُتحت الأندلس على يد طارق بن زياد، بعد أن انتصر المسلمون على جيوش القوط
بقيادة روزريق، وكان يوماً من أيام الله المباركة، وسيطر فيها طارق على
الجبل الذي سُمي باسمه.
- فتح عمورية 223هـ:
وفي الشهر الكريم من عام
223هـ كان فتح عمورية، إحدى أقوى وأمتن الحصون الرومية آنذاك، كانت
الجحافل الإسلامية في هذا الفتح تحت قيادة الخليفة العباسي المعتصم بالله،
وسبب هذا الفتح العظيم أن الروم أغاروا على المسلمين، وأسروا منهم أعدادا
كبيرة، ووصل إلى المعتصم خبر استنجاد امرأة مسلمة به، بقولها:
" وامعتصماه" ولم كد يسمع
هذه الاستغاثة حتى جهز جيشا جرّارا، وأعده بعدة و عتاد لم يسمع له مثيل
من قبل على مَرّ التاريخ، و سار على رأس الجيش إلى عَمّورية مُلبّيا
النداء، وهزم الروم و فتح عمّورية.
- عين جالوت 658هـ:
وفي رمضان عام 658هـ دارت
رحى معركة عين جالوت على أرض المسرى فلسطين الحبيبة، وكانت هذه المعركة
بين المسلمين المماليك بقيادة القائد المملوكي الفذ المظفر قطز، وبين
المغول الهمجيين، الذين عاثوا فسادا في أرض المسلمين، وزرعوا الخوف والرعب
في نفوسهم، وكان النصر حليف المسلمين، وكسر القائد مظفر قطز حاجز الخوف
وأباد الجيش المغولي، وهزمه شر هزيمة.
- فتح أنطاكية 666هـ:
وفي شهر رمضان من العام
666هـ كان فتح إمارة أنطاكية، عاصمة الصليبيين في بلاد الشام، وكان قائد
المسلمين في هذا الفتح العظيم السلطان الظاهر بيبرس، الذي كُتب على يديه
هزيمة الصليبيين والمغول من قبلهم، ورفعة الإسلام والمسلمين.
- معركة شقحب 702هـ:
وفي العام 702هـ في الشهر
المبارك أيضا، كانت معركة شقحب، على مشارف مدينة دمشق(سوريا)، بين
المسلمين بتحريض من شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وبين المغول،
بعد أن استباحوا ديار المسلمين مرة أخرى، وأقسم شيخ الإسلام على الله أن
يكون النصر للمسلمين، ثم أمر المسلمين بالإفطار ليَتَقَوَّوا على عدوّهم،
وفعلا أبرّ الله بقسم ذلك العالم العابد المجاهد، ونُصر جند الحق وخُذل
المَغول، فتحقق نصر آخر للمسلمين في هذا الشهر الكريم.
-العاشر من رمضان 1393هـ:
في رمضان عام 1393هـ
السادس من أكتوبر 1973م، التقى المسلمون المصريون والعرب مع اليهود الخونة
قتلة الأنبياء والأبرياء، وعلى أرض سيناء هَزم المصريون اليهود، واستردوا
شبه جزيرة سيناء، بعد أن بقيت تحت وطأة الاحتلال والاغتصاب الصهيوني بضع
سنوات.
فلقد فهم المسلمون
الأوائل أن شهر رمضان شهر جهاد وعمل لا شهر نوم وخمول وكسل، وأنه لا تعارض
بين العبادة والتهجد لله رب العالمين وبين الجهاد لتحقيق معاني الاستخلاف
على هذه الأرض.
لما أرسل عبد الله بن
المبارك - رحمه الله - بقصيدته الجميلة المعروفة للفضَيل بن عياض، حيث كان
فضيل في مكة ملازماً للحرم الشريف ـ الذي تعادل الصلاة فيه مائة ألف صلاة
فيما سواه من المساجد ـ وكان ابن المبارك مرابطاً في الثغور في طرسوس..
ومما جاء في قصيدته، قوله:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا … لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ
من كان يخضِبُ جيدَهُ بدموعه * * * فنحورنا بدمائنا تتخضَّبُ
أوْ كان يُتعِبُ خيلَهُ في باطلٍ * * * فخيولنا يومَ الصبيحةِ تتعبُ
ريحُ العبير لكم ونحنُ عبيرُنا* * * رهَجُ السنابكِ والغُبارُ الأطيبُ
ولقد أتانا من مقالِ نبينا * * * قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يكذبُ
لا يستوي وغُبار خيل الله في* * * أنف امرئٍ ودُخانُ نارٍ تلهَبُ
هذا كتابُ الله ينطق بيننا * * * ليس الشهيدُ بميتٍ لا يُكذَبُ
ولما ألقي بكتاب ابن
المبارك إلى الفضيل وكان في الحرم، قرأه وبكى، ثم قال: صدق أبو عبد الرحمن
ونصح. [انظر سير أعلام النبلاء:8/412].
فلنجعل من شهر رمضان فرصة لإتقان العمل لأن إتقان العمل دليل على التقوى والتربية على التقوى أول أهداف الصيام