إماطة الأذى عن الطريق
من بين الأحاديث التي يحفظها الكثيرون ويجدون لها همسا في القلب ولمسا رقيقا للنفس ذلك الحديث
الذي رواه أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قال رَسُول اللَّهِ : (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع عليه الشمس،
يعدل بين اثنين، ويعين الرجل في دابته، ويحمله عليها، ويرفع له عليها متاعه، ويميط الأذى عن الطريق صدقة).. (صحيح ابن حبان).
لكن تلك الصدقات البسيطة لم تجد لدينا إلا تطبيقا بسيطا لها، بل إننا نجد من سلوكيات البعض من ساكني المدن الحديثة
خاصة إعراضا عن القيام بصدقة واحدة منها كـ(إماطة الأذى عن الطريق)، فتحول الأذى في طرقاتنا إلى كارثة، لا.. ليس طرقاتنا وفقط،
بل وحتى سلالم عماراتنا التي أصبحت مرتعا للأذى تعبث به الكلاب والقطط الضالة.
وكان من المدهش أن أصادف مؤخرا شخصاً يدعوني للانضمام إلى حركة عالمية لـ(إماطة الأذى عن الطريق) تتخذ من الإنترنت وسيلة لنشر مبادئها وأفكارها، وقد وجدت أن الأمر يستحق الكتابة استنادا إلى مرجعيتنا، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
عالم من الفضلات
ولعله من المفيد قبل أن نشرع في تقديم التجربة أن نحيط القارئ علما بالأذى أو الفضلات التي تحملها لنا أنماط حياتنا الاستهلاكية المعاصرة،
تعرف موسوعة الويكي الشعبية Wikipedia على الإنترنت الفضلات Litter بأنها تلك (الممتلكات الخاصة الملموسة التي تتواجد بالمخالفة للقانون مبعثرة أو متروكة بالأماكن العامة خارج أبواب المنازل)،
وتشمل أصنافا ثلاثة رئيسية: فضلات ضارة، وفضلات قابلة لإعادة الاستخدام أو التدوير، وفضلات غير ضارة وغير قابلة لإعادة الاستخدام مرة ثانية.
وتتضمن تلك الأصناف قائمة طويلة تضم: أغلفة الحلوى والأطعمة، المناديل الورقية، مخلفات الأطعمة، العلب المعدنية للمشروبات والأطعمة، والجلود، والملابس والمنسوجات، والأخشاب، والزجاج، وبقايا الإطارات، وقطع غيار السيارات التالفة، والزجاجات والأكياس البلاستيكية.
وتلوث تلك الفضلات كل مساحات الفضاء العام من سلالم العمارات وجوانب الشوارع والطرقات إلى الحدائق والمتنزهات إلى مجاري المياه.
وتتسبب تلك الفضلات في العديد من المشكلات المتعلقة بالأمان والصحة العامة حيث تمثل مرتعا خصبا للحشرات والقوارض الضارة
إضافة إلى تسببها في التلوث البصري ونتن الرائحة وتلوث التربة ومصادر مياه الشرب وسد المجاري المائية؛ مما يتسبب في أذى الإنسان والحيوان والنبات.
وتتمثل خطورة كثير من تلك الفضلات إذا لم تكن قابلة لإعادة الاستخدام أو إعادة التدوير في أنها لا تتحلل بسهولة في التربة،
فالكرتون المغلف بالبلاستيك يستغرق خمس سنوات ليتحلل، أما الأحذية الجلدية فتحتاج من 25 إلى 40 عاما،
والنايلون من 30 إلى 40 عاما، والعلب القصدير من 50 إلى 100 عام، والألمنيوم من 80 إلى 100 عام،
أما الحلقات البلاستيكية سداسية الطبقات فتحتاج إلى 450 عاما، أما الزجاج فيحتاج إلى مليون عام، بينما تبقى الزجاجات البلاستيكية فتبقى إلى الأبد.
ظهر الفساد في البر والبحر
من كل ما سبق نتبين معنى قول الحق: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.. (الروم:41).
ومعنى وصف الرسول لتلك الفضلات بالأذى، وحكمة أن يكون سلوك الإماطة عن الطريق (صدقة).
ولا أدري في الحقيقة كيف يمكن أن نصف سلوك الناس في (إفساد المجال العام)، أهو ناتج عن حمى الاستهلاك؟ أم عن سلوك اللامبالاة؟
أم عن ضعف الوازع الديني وانسحاب دعوات التزكية من حث الناس على تحسين سلوكياتهم وأخلاقياتهم العامة تجاه الآخرين
وتجاه المجتمع بأسره واكتفائها بأن تدعوهم إلى الإكثار من العبادات، والإفلاس في الآخرة بصمتها عن دعوتهم إلى الكف عن الإفساد في الأرض
وعن دعوتهم إلى إصلاح ما أفسدوه وما يستمرون في إفساده إذا أرادوا توبة وقربا حقيقيا من الله؟
لعل تلك التساؤلات وغيرها هو ما دفع صحفية فنلندية تدعى (توولا-ماريا آهونن) إلى أن تطرح مبادرتها بتأسيس (حركة الفضلات)
أو Litter Movement عام 2000 وتتحرك لتأسيس هذه المبادرة على الأرض مع ابنتيها الصغيرتين ليزا ولونا،
وهي حركة في غاية البساطة، فهي لا تطلب من أعضائها ملأ استمارات للعضوية، ولا أن يسددوا اشتراكات،
فقط على من أراد أن يكون عضوا أن يميط أذى واحدًا عن الطريق كل يوم، ويدعو شخصًا واحدًا إلى تلك الفضيلة،
وإلى أن يلتقي هؤلاء الأعضاء فيجتمعون إلكترونية يتبادلون الدعم والخبرات والتجارب، إيمانا منهم بأن روحا عظيمة تسري من الأعمال البسيطة،
وبأن إماطة أذى واحد من قبل إنسان، هو إماطة لأذى عظيم عن الإنسانية.. أرأيتم أجمل من ذلك؟!
تساؤلات مشروعة
وفي صفحتها على الإنترنت حول الحركة تتساءل [توولا-ماريا]: (أي معنى لأن ننفق أموال ضرائبنا في تنظيف الفضلات التي ألقاها الناس على الأرض، بينما تقطع الحكومات المعونات عن رعاية الأطفال والمرضى والمسنين؟!) كما تتساءل: (من السهل أن نحكم على الناس الذين يلقون بفضلاتهم ولكن هل يصنع ذلك فرقًا؟).
وتقول بأن أعضاء تلك الحركة قد اختاروا طريقا مختلفا، وكما توضح فإنه كلما كانت هناك فضلات أقل على الأرض فإن ذلك يدفع الناس
إلى الإقلال من إلقاء فضلاتهم، وقد دفعت الحركة الكثير ممن كانوا يلقون بفضلاتهم على الأرض إلى الوقوف والتساؤل وتغيير أنماط سلوكياتهم.
وكما تؤكد فإن هناك أعضاء للحركة في كل قارات الأرض من الأرجنتين وأستراليا جنوبا إلى لابلاند Lapland شمالا،
أطفالا وشبابا وشيوخا أسرا ومدارس، وتضيف أن فردا واحدا يمكنه أن يصنع القليل، لكننا معا يمكننا أن نخلق بيئة أكثر راحة وأمنا للإنسان والحيوان،
وتشير إلى أنه من الخير للإنسان أن يفعل ما يدل على أنه ذو عناية واهتمام بالشأن العام، وتوضح أن العضوية ليست أكثر من التزام شخصي،
وقد استحقت تلك المبادرة البسيطة أن تسجل في (بنك الأفكار العالمية)، وأن تمنح جائزة رؤية العام الفنلندية عام 2001.
الصدقات.. حركات ومؤسسات
لعل أفضل ما توحي به تلك التجربة البسيطة والعظيمة في آن واحد، هو أن الصدقات الجميلة الرقيقة التي تمس شغاف قلب المتصدق
والتي ذكرها لنا الحديث وغيرها مما جاءت بها نصوص الشرع الحنيف تعظم نتائجها إذا تحولت من مجرد سلوك فردي (مندوب)،
إلى حركات ومؤسسات ترى في ذلك المندوب واجبا كفائيا على أقل تقدير في ظل تعاظم المشكلات الناتجة عن اتكال الناس على أن الأمر لا يعدو أن يكون فضلا لا إلزام فيه، والناتجة عن اعتماد الجميع على الجميع حتى تحولت فضاءاتنا العامة إلى مجمعات للأذى.
المصدر: موقع إسلام اون لاين