فقه الاعتكاف خالد بن سعود البليهد
واشترط بعض الفقهاء شروطا لا تثبت شرعا:
1- أن يكون في جامع والصحيح أنه يجزئ في كل مسجد لظاهر الآية. وما روي في ذلك
من حديث عائشة: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع). في سنن أبي داود وغيره من
الأحاديث فموقوف أو ضعيف لا يثبت رفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع مخالفة
متنه للآية. وإن كان الأفضل الاعتكاف في الجامع لئلا يحتاج إلى الخروج لصلاة
الجمعة.
2- أن يكون في المساجد الثلاث الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والأقصى
لحديث حذيفة: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة).رواه البيهقي. والصحيح أنه لا
يشترط لأن هذا الحديث موقوف على حذيفة لا يصح رفعه ولمخالفته لظاهر الآية.
3- أن يكون فيه صوم لحديث عائشة: (ولا اعتكاف إلا بصوم). رواه أبو داود.
والصحيح أنه لا يشترط لأن هذه الجملة مدرجة في الحديث ليست من كلام النبي صلى
الله عليه وسلم ولأن النبي اعتكف في شوال ولم ينقل أنه صام فلا يجب فيه الصوم
إلا إذا نذره كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ليس عليه صوم إلا أن يفرضه هو
على نفسه). رواه ابن أبي شيبة.
ويبطل الاعتكاف بأمور:
1- قطع النية فإذا قطع المعتكف نية الاعتكاف بطل اعتكافه أما إذا تردد فلا
يبطل.
2- الخروج إلى التجارة أو الدنيا أو الزيارة أو غير ذلك مما لا يحتاج إليه
المعتكف في اعتكافه لأن ذلك ينافي حقيقة الاعتكاف. أما حاجة الانسان التي ليس
له بد منها فتباح لأن الشرع رخص فيها. ولا حرج في شراء شيئ يحتاج إليه في طريقه
إلى المسجد.
3- مباشرة المرأة لقوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ
فِي الْمَسَاجِدِ). واتفقوا على بطلانه بالجماع أما الاستمتاع دون الفرج
فالصحيح أنه لا يبطل الاعتكاف به وإن كان منهيا عنه لقول ابن عباس: (إذا جامع
المعتكف أبطل اعتكافه واستأنف). رواه ابن أبي شيبة. وكذلك يبطل أيضا بمباشرته
إذا حصل منه إنزال بإتفاق الفقهاء. وأما مسه للمرأة بلا شهوة فيجوز ولا يؤثر
على صحة الاعتكاف.
4- يبطل اعتكاف المرأة بنزول الحيض عليها لأن الحائض لا يحل لها المكث في
المسجد.
وإذا بطل اعتكاف الانسان فلا شيء عليه ولا يلزمه شيء لأنه سنة في الأصل إلا أن
يكون نذرا فيجب قضاؤه وما روي عن بعض السلف في الكفارة فاجتهاد لا دليل عليه.
ولا يبطل لاعتكاف بإخراج بعض البدن من رأس ويد ونحوه لما ثبت في الصحيحين عن
عائشة: (أنها كانت ترجل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض وهو معتكف في المسجد
وهي في حجرتها يناولها رأسه).
ولا يجوز للمعتكف النوم في بيته فإن فعل بطل اعتكافه ولو كان يسيرا لأن مكثه في
البيت ينافي حقيقة الاعتكاف لكن إن كان يرغب في ذلك لظرفه الخاص أو لمصلحة نوى
الاعتكاف مدة النهار ثم خرج ليلا ثم استأنف الاعتكاف في اليوم الثاني وهكذا
بحيث يكون لكل يوم نية خاصة فهذا فعل حسن موافق لمذهب الجمهور وفضل الله واسع.
أما أن يكون ذلك بنية واحدة عن العشر جميعا فلا يصح لانقطاع الاعتكاف.
ورخص بعض الفقهاء كأحمد وغيره للمعتكف في اشتراطه عيادة المريض وشهود الجنازة
ونحوه عند اعتكافه فإذا اشترط خرج لذلك ولم يبطل اعتكافه والأظهر أنه لا يصح
والشرط لغو لا يثبت به الاستثناء ولا يؤثر في الحكم لأنه هذا الشرط لم يرد في
السنة ولأنه ينافي معنى الاعتكاف وحقيقته ولأن الاعتكاف ورد في الشرع على صفة
مخصوصة وهي لزوم المسجد من غير استثناء وقت معين وهذا مذهب مالك.
ويستحب للمعتكف الاشتغال سائر الوقت بالتلاوة والذكر والدعاء والصلاة والتفكر
ويكره له كثرة الكلام وإضاعة الأوقات فيما لا فائدة فيه من مزاح وغيره. ويتأكد
عليه اعتزال الخلق في معتكفه وعدم الكلام معهم إلا فيما فيه حاجة أو كان عارضا
فلا حرج عليه في الكلام اليسير الذي لا يخالف الشرع.
وكذلك لا يشتغل بطلب العلم والتعليم قال ابن رجب: (ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى
أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن بل الأفضل
له الإنفراد بنفسه والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه) لكن إن احتاج الانسان
لمذاكرة مسألة وكان وقتا عارضا فلا حرج. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
اعتكف ضرب له خباء فاعتزل الناس في غير الصلوات كما ثبت في البخاري.
ولا حرج على المعتكف أن يزوره زوجه في معتكفه ليلا ويحدثه ساعة من الوقت ليتفقد
أحوال أهله ويدخل الأنس عليهم ثم يمشي معه ليوصله لما ثبت في الصحيحين عن صفية
رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا
فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني).
ويباح للمعتكف التطهر وأخذ الشعر والتزين والتطيب ولبس نظيف الثياب ولا كراهة
في ذلك لكن لا ينبغي له المبالغة في ذلك. ويباح له الأكل والشرب في المسجد بشرط
المحافظة على نظافة المسجد. وإن كان يتيسر له فعل ذلك في المسجد من غير ضرر كان
مكثه أولى من خروجه إلى البيت.
وبعض الناس هداهم الله لا يراعون حق الله في الاعتكاف فتراهم يكثرون من اللهو
والمزاح والكلام مع الأصحاب واستعمال الهاتف وتمضية الوقت فيما لا فائدة فيه
ومنهم من يكثر الجدال والمراء مع الغير فهؤلاء تلاعبوا في هذه العبادة واستخفوا
بشعيرة الله وهم مخطئون في تصرفهم فإما أن يلتزموا بالسنة وإما أن يخرجوا من
المعتكف ولا يسيئوا لأنفسهم ويؤذوا الآخرين.
وينبغي للمعتكف في هذه الخلوة الشرعية أن يكثر من محاسبة النفس والتوبة وإطالة
الفكرة والعبرة وعمارة قلبه بالأعمال النافعة من يقين ورجاء وخوف ومحبة وتوكل
وغيره ليحقق حكمة الاعتكاف وثمرته فإن الاعتكاف شرع لإصلاح القلب والجوارح
وتزكيته والانقطاع عن علائق الدنيا وشواغل الخلق وانكسار النفس وصفائها
وتطهيرها من أدران الذنوب والشهوات قال ابن رجب: (فمعنى الاعتكاف قطع العلائق
عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس
به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال).
ويسن للمرأة الاعتكاف في المسجد لما ثبت من اعتكاف أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم بعد موته كما ورد في الصحيحين من حديث عائشة.
ولكن يشترط لذلك شروط:
1- أن يكون اعتكافها في مكان خاص بالنساء لا يطلع عليه الرجال أما إذا حصل
اختلاط فيحرم.
2- أن تأمن على نفسها الفتنة فإن خشيت على نفسها الفتنة لكون المكان غير آمن أو
منعزل أو ليس للمسجد قيم أمين حرم عليها الاعتكاف.
3- أن لا يكون في اعتكافها تضييعا لحق والد أو رعاية ولد أو بر ونحوه فإن أدى
اعتكافها إلى ذلك حرم.
4- أن يكون ذلك بإذن الزوج فإن اعتكفت بغير إذنه كانت عاصية لتفويت حقه في
الخدمة والاستمتاع وله إخراجها من المسجد.
وقل أن تتحقق هذه الشروط للمرأة مما يجعل حصول الاعتكاف فيه صعوبة وحرج ونصيحتي
للمرأة المسلمة المستقيمة على الطاعة الاقتصار في هذا الزمن على التعبد والخلوة
في البيت لأنه أحوط لدينها وأستر لعورتها وأبعد لها عن الشبهات وقد يكون في ذلك
خشوع وتدبر واجتهاد وإخلاص فيفضل على غيره.
وقد رخص الحنفية للمرأة في الاعتكاف في بيتها والصحيح أن الاعتكاف لا بشرع إلا
في المسجد ولا يصح في البيوت لأن هذه العبادة من خصائص المسجد لقوله تعالى:
(وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد). وقد أنكر ابن عباس الاعتكاف في البيت
وقال إنه بدعة. ولو كان جائزا للمرأة لأذن لها الشرع أن تعتكف في بيتها كما
رغبها في صلاتها في بيتها لأنه أستر وأصون للمرأة وأبعد عن الفتنة ولكن لم ينقل
ذلك فدل على عدم شرعيته وهذا قول الأكثر. وكذلك المريض المقعد لا يصح اعتكافه
في البيت.