الاعتكاف وتربية الذات على اتباع الأسلاف محمد بن يحيى اليحيى
قــــال مالك بن دينار ـ رحمه الله ـ: (ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله ـ عز
وجل ـ فليس شيء من الأعمال أقل مؤونة منه ولا أعظم لذة، وأكثر فرحة وابتهاجاً
للقلب)(6).
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (وحضرت شيخ الاسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم
جلس يـذكــــر الله ـ تعالى ـ إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إليّ وقال:
هذه غدوتي ولو لم أتغد سقطت قوتي، (أو كلاماً قريباً من هذا)، وقال لي مرة: (لا
أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وراحتها ولأستعد بتلك الراحة لذكر آخر ـ أو
كلاماً هذا معناه) (7).
وقال شيخ الاسلام ـ رحمه الله ـ مبيناً أهمية بقاء المرء في ذكر دائم: (الذكر
للقلب كالماء للسمك؛ فكيف يكون حال السمك إذا خرج من الماء؟)(8).
لقد جاءت السنة بأذكار كثيرة متنوعة وذكرت فضلها وما أُعد لصاحبها من الثواب..
بل إن الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ عدّ في (الوابل الصيب) ثمانين فائدة في
الذكر.. ولا شك أن الناس ـ إلا من رحم الله ـ على جانب كبير من التفريط في
المداومة على ذكر الله في كل حال.. لذلك لم يصلوا إلى اللذة التي يستشعرها
الذاكرون الله كثيراً.
قال بعض العارفين: (وإنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم
لفي عيش طـيـب)(9). وإن الاعـتـكـاف فرصة عظيمة يحسن بالمرء
استغلالها ليصل إلى مرتبة عالية؛ فـيـكــون لسانه رطباً من ذكر الله ـ تعالى ـ.
ليس للمعتكف شغل عن أذكار الصباح والمساء التي فرط الناس فيها إلا مــن رحــم
الله، ولـيـس له شغل عن أذكار الأذان والنوم والاستيقاظ، والخروج والدخول إلى
المسجد، وأذكار الطـعـــام والشراب، والأذكار المطلقة الكثيرة المتنوعة.
يستطيع المعتكف أن يحرص على كل ذكر منها في وقته ويحاسب نفسه على ما فاته، ولا
يـــدع نَفَساً من أنفاسه يخرج بغير ذكر الله ـ تعالى ـ.. فمن كانت هذه حاله في
عشرة أيام متواليات رُجي له الخير العظيم بفضل الله وتوفيقه.
ألا وإن من أعظم الذكر ـ كما هو معلوم ـ قراءة القرآن الكريم. قيل لأخت مالك بن
أنس: (ما كان يشتغل مالك في بيته؟ قالت: المصحف في بيته). قال أبو بكر الأوسي:
(كان مالك قد أدام النظر في المصحف قبل موته بسنين، وكان كثير القراءة طويل
البكاء)(10).
قال الطحاوي: (سمعت عن أحمد بن أبي عمران يحكي عن بعض أصحاب محمد بن الحسن، أن
محمداً كان حزبه في كل يوم وليلة ثلث القرآن)(11).
فهؤلاء ـ رحمهم الله ـ كانت قراءتهم كثيرة في سائر أيام صيامهم، ووردت عنهم وعن
غيرهم من السلف زيادة الاهتمام بكتاب الله في رمضان.
فعلى العاقـل أن يجعـل من اعتكافه فرصة لتقويـة علاقتـه بكتـاب اللـه ـ تعالـى
ـ قـراءة وتدبراً وخشوعاً وفهماً.. ولا شك أن الاكتفاء باستعراض كتاب الله كله
مرة واحدة فقط في هذه الأيام العشرة يُعد من التفريط؛ إذ فيم سيمضي المعتكف
وقته إن لم يمضه في تلاوة كتاب الله ـ تعالى ـ؟
جاء عن الحسن أنه قال: (أدركت أقواماً كان أحدهم أشحّ على عمره منه على درهمه)(12).
فلو حرص المرء على لحظات اعتكافه ألاّ تنقضي إلا في ذكر وتلاوة لكان لاعتكافه
لذة وحلاوة، ولأصبح من السهل عليه أن يتشبه بالسلف الصالح.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبـه بالكـرام فـلاح
ولعل مما تجدر الإشارة إليه أن من ثمرات المداومة على ذكر الله في الدنيا أنها
تعطي الذاكر قوة تعينه على زيادة عمله خلال يومه.. فقد ثبت أن الرسول علّم
ابنته فاطمة وعلياً ـ رضي الله عنهما ـ أن يُسّبحا ويحمدا ويُكبّرا كل ليلة إذا
أخذا مضجعهما، ذلك لما سألته أن يحضر لهما خادماً، وقال لها: (إنه خير لكما من
خادم)(13).
فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه مغنية عن خادم(14).
والمعكتف بحاجة لهذه القوة حتى يستعين بها على الزيادة من العبادات في هذا
الموسم العظيم.
2- الصلاة:
قال محمد بن عمـران: سمعته ـ أي محمد بن سماعـة (ت233هـ) ـ يقـول: (مكثـت
أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوم ماتت أمي(15).
إن مثل هذا الأثر يحتاج أن يقف المرء معه ليتأمل حال نفسه ومدى اهتمامه بأداء
الصلاة على الوجه الأكمل.. ومتى ما وجد التقصير في نفسه توجب عليه أن يجعل من
اعتكافه فرصة ليصل إلى مثل هذه المراتب العالية في أداء الصلاة.. ومن فرط في
التكبيرة الأولى حاسب نفسه أشد الحساب؛ فكيف يساغ له أن يتأخر عن إدراك
التكبيرة الأولى وهو مقيم في بيت من بيوت الله ـ تعالى ـ؟ كما أن التأخير عن
إدراك التكبيرة الأولى له دلالة على إهمال السّنّة القبلية وفقد أجر انتظار
الصلاة بين الأذانين، ونقص الخشوع، وغير ذلك. والله المستعان.
قال ابن وهب: (رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلى، ثم سجد سجدة فلم يرفع رأسه
حتى نودي للعشاء)(16).
وقال مجاهد ـ رحمه الله ـ: (كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشدّ بصره
إلى شيء أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه في شأن الدنيا
إلا ناسياً ما دام في صلاته)(17).
وهذه مرتبة أخرى عظيمة ينبغي أن يحرص المرء عليها وهي مجاهدة النفس على تعظيم
المولى ـ سبحانه وتعالى ـ في الصلاة، وحسن الاتصال فيها بتحقق الطمأنينة
والخشوع والخشية.. والمعتكف تتهيأ له من الفرص ما لا يتهيأ لغيره بسبب انقطاعه
عن كثير من علائق الدنيا.. فعليه أن يجاهد نفسه للوصول لهذه الغايات وأكثر منها
من خلال أيامه العشرة لتكون بداية انطلاقة جادة له بعد ذلك.
ألا وإن من أعظم وأجلّ القربات التي تتهيأ بالاعتكاف خاصة في رمضان قيام
الليل.. ذلك الشرف العظيم الذي فرط فيه الناس إلا قليلاً.
كان سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: (إذا أصبح مدّ رجله إلى الحائط ورأسه إلى
الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل)(18).
وجاء عن شداد بن أوس أنه كان إذا دخل الفراش يتقلب عليه لا يأتيه النوم فيقول:
(اللهم إن النار أذهبت مني النوم. فيقوم فيصلي حتى يصبح)(19).
وفي ليالي رمضان فرصة عظمى للمعكتف لإطالة القيام بكتاب الله ـ تعالى ـ وتشجيع
نفسه بكثرة القائمين ومنافستهم؛ على ألاّ يجعل لنفسه غاية دون هذه النماذج
العظيمة من السلف ونحوها.
كيف لا وقد قال أبو سليمان: (أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم،
ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا)(20).
كذلك يحسن المحافظة على سنة الفجر والإشراق والنوافل المطلقة والمقيدة حتى
ينوّع المرء من عباداته، ويعتاد ما انشغل عنه في سائر أيامه.
في المباحات:
هناك جوانب أخرى يحسن بالمعكتف أن يخالف ما جرى أكثر الناس عليه فيها.. أذكر
منها ثلاثة أمور لعلها جماع كثير من الخسران:
1-
فضول الكلام.
2-
فضول الأكل.
3-
فضول المخالطة.
1- فضول الكلام:
كتب عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ إلى بعض أصحابه: (أما بعد: فإنه من أكثر
ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما
ينفعه والسلام)(21).
قال عطاء بن أبي رباح: (يا بن أخي! إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام،
وكانوا يعدون فضوله ما عدا كتاب الله ـ عز وجل ـ أن تقرأه، وتأمر بمعروف أو
تنهى عن منكر، أو تنطلق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها. أتنكرون أن عليكم
حافظين كراماً كاتبين؟)(22).
والشباب في هذا الزمان ـ أخص الصالحين منهم ـ أصبح هذا الجانب عند أكثرهم
مفقوداً.. بل ربما هو لا يُفكر فيه ابتداءً إلا من رحم الله ـ تعالى ـ؛ لذلك
نشأ عنه ـ عند كثير من الصالحين والدعاة وطلبة العلم ـ فقدان السمت، ونقص
الحكمة في الكلام، وخلط الجد بالهزل؛ فضلاً عن الوقوع في بعض المحرمات كالغيبة
والكذب والسمعة ونحوها.. ولعل بقاء المرء في معتكفه وسيلة عظيمة لحبس لسانه
ومحاسبة نفسه على كل حرف يخرج منه في غير ذكر الله أو ضرورة..
كما أن المعتكف ينبغي له أن يعوّد نفسه ويعوّد كل من يقطع عليه اعتكافه على عدم
الاسترسال في الكلام الذي لا حاجة له، مع مراعاة الأدب وحسن القصد.
قال إبراهيم بن سليمان: (كنت جالساً مع سفيان، فجعل رجل ينظر إلى ثوب كان على
سفيان ثم قال: يا أبا عبد الله! أي شيء كان هذا الثوب؟ فقال سفيان: كانوا
يكرهون فضول الكلام)(23).
ويُتنبه هنا إلى أنه يُكره للمعتكف الصمت عن الكلام إذا اعتقد أنه عبادة أو
قربة؛ لحديث الرجل الذي نذر أن يقوم في الشمس ولا يتكلم ويصوم، فأمره الرسول أن
يستظل ويتكلم ويقعد ويتم صومه، والحديث في الصحيح(24).
2- فضول الأكل:
قال إبراهيم بن أدهم: (من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق
الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان)(25).