تربية الأبناء
الحمد
لله وحده لا شريك له ولا ضد ولا نديد، شهادة أدخرها لهول يشيب من هوله
الوليد، وأرجوا بها النجاة من نار السعير وأؤمل بها من كرمه الحسنى
والمزيد، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله أفضل داع إلى الإيمان والتوحيد
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم
بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
عباد الله:
اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أن الولد يشب على
دين والديه وما علماه إياه وربياه عليه، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ
عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ
وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ
تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ». ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه :
-(فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ)- [الروم/30].
فقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الطفل حين يولد، يولد على الفطرة
السليمة الإسلام القابلة للخير، فإن بودرت بالخير قبلته من غير صعوبة ولا
كلفة، وتلاءمت معه وألفته لأن الله عز وجل جعل فيها قابلية له، وهو موافق
لأصلها الذي فطرت عليه وإنما تنحرف هذه الفطرة وتتغير عن خلقتها السوية
بسوء التربية والقدوة السيئة.
عباد الله:
وذلك لما لتربية الوالدين لأولادهم التربية النافعة من أثر عظيم على حياة
الأبناء والبنات في الدنيا والآخرة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم
الآباء والأمهات أنهم مسؤولون عمن تحت أيديهم من الأبناء والبنات وغيرهم،
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول:
«أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ
فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ
عَنْهُمْ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أهل بَيْتِ زوجِهَا وَوَلَدِهِ
وَهِىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ وعبد الرجل رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ
وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ
عَنْ رَعِيَّتِهِ» متفق عليه.
فمن علم أن الله سائله يوم القيامة عن رعيته وأهله وخدمه كيف تقر عينه
بإهمالهم وتركهم كالبهائم المرسلة؟، لا يزمّهم بزمام الشرع، ولا يقيدهم
بقيد السنة، ولا يعلمهم ولا يأمرهم بالتعلم، بل لو اشتغل أحدهم بأداء صلاة
وفوته درهم أو أخر حاجته قليلا لاشتغاله بأداء واجبه، لقامت قيامته وقابله
بما أمكنه وليس هذا من الدين في شيء فلينظر كل امرئ بنفسه فرب هالك بإهمال
ذنوب غيره هو لا يشعر.
فرب هالك بإهماله ذنوب غيره وهو لا يشعر.
فرب هالك بإهماله ذنوب غيره وهو لا يشعر.
ولقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية أبناء المسلمين، فكان صلوات
الله وسلامه عليه يعلمهم العقيدة والتقوى والإيمان، يقوي صلتهم بالله
ويحذرهم من الغفلة والعصيان والبعد عن الله تعالى والنشأة على غير طاعة
الله، قال لابن عمه عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: «يا غلام إني أعلمك
كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا
استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم
ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك،
إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف» رواه أحمد والترمذي
وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وكان صلى الله عليه وسلم يحثهم على العلم والفهم والتعليم ويدعوا لهم بذلك،
أتاه عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما بوضوئه ذات ليلة فضمه إليه ودعا له
بقوله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ
وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» رواه البخاري وأحمد، فكان رضي الله عنه حبر
الأمة وترجمان القرآن ببركة دعائه له وحرصه عليه.
وكان صلى الله عليه وسلم حريصاَ على تربيتهم على مكارم الآداب وحميد الخلال
والصفات قال عمر ابن أبي سلمة رضي الله عنه كنت غلاماً في حجر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا
يَلِيكَ». فما زال تلك طعمتي بعد. رواه البخاري ومسلم.
وقال عبد الله ابن عامر رضي الله عنه: دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله
عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطيك. فقال لها رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ» قالت: أعطيه تمرا. فقال
لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ
شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ» رواه أبو داود وأحمد.
عباد الله:
إن تربية الأبناء والبنات ليست مقصورة على التربية الجسمية المادية من
توفير الطعام والشراب والكسوة الجميلة فحسب، فهذا وإن كان واجباً على الأب
أن ينفق على أبنائه وبناته بالمعروف ويؤجر على ذلك، إلا أن التربية
الحقيقية الضرورية هي تربية الدين والأخلاق الفاضلة، وتنميتها في نفوس
الأجيال حتى يكون على قدر كبير وحظ وفير من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم
وصحابته والقرون المفضلة.
بعث هشام ابن عبد الملك ولدا له إلى معلم له اختاره لتعليمه وتدريسه فكتب
إليه قائلا: "أول ما أوصيك به أن تأخذه بكتاب الله ثم أروه من الشعر أحسنه
ثم تخلل به في أحياء العرب فخذ من صالح شعرهم، وبصره بالحلال والحرام وطرف
من الخطب والمغازي".
وذكر الذهبي في سيره أن عبد العزيز ابن مروان والد عمر ابن عبد العزيز رضي
الله عنه بعث ابنه عمر إلى المدينة يتأدب بها، وكتب إلى صالح ابن كيسان وهو
من سادات التابعين أن يتعاهده، وكان صالح يلزمه صلاة الجماعة فأبطأ عمر
يوماً عن الصلاة فقال صالح: ما حبسك قال: "مرجِّلتي تسكن شعري" فقال صالح:
"بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة" وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد
العزيز رسولا إليه فما كلمه حتى حلق شعره.
عباد الله:
لقد أهمل بعض من الآباء والأمهات مسؤولية تربية الأبناء والبنات بسبب
اهتمامهم بالأمور الدنيوية وحرصهم على الشهوات التي أذهبت أوقاتهم وأنهكت
قواهم وأشغلت أفكارهم، فالأب بين وظيفته وعمله وتجارته وكسبه ورفاقه
واجتماعاته، والأم غارقة في أسواقها وزينتها ولهوها وغفلتها وصديقاتها
وجاراتها، ففقد الأبناء والبنات أبوة التوجيه والتربية وسلبوا أمومة
الرعاية والحنان والعطف.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: قال بعض أهل العلم: "إن الله سبحانه
وتعالى يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده فإنه
كما أن للأب على ابنه حقا فللابن على أبيه حقا".
فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى، فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر
الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم وترك تعليمهم فرائض الدين
وسننه، فأضاعوهم صغارا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارا، كما
عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبت إنك عققتني صغيرا فعققتك كبيرا
وأضعتني وليدا فأضعتك شيخا.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه
وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله:
اتقوا الله تعالى، واحرصوا رحمكم الله على تربية أبنائكم وبناتكم على عقيدة
التوحيد الخالص -(أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)- [الزمر/3]،
والإيمان الصادق.
اغرسوا في قلوبهم محبة الله تعالى ومحبة رسوله الأمين محمد عليه الصلاة
والتسليم، ومحبة صحابته الكرام رضوان الله عليهم، فإن ذلك من أهم مقومات
التربية الناجحة، إذ الخير كله في الإيمان والتقوى، فمن كان ذا إيمان
فسيرده إيمانه يوماً ما، وسيقوده صلاحه إلى سبل المعالي وطرق المجد
والفلاح.
ثم التربية على العلم النافع، الذي يهذب النفوس ويقوم الأخلاق، املئوا
أوقات فراغهم بالمفيد النافع من حفظ لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم ودراسة سيرته وسيرة أصحابه الكرام البررة رضي الله عنهم وأرضاهم
قال سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه: "كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن".
وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: "كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار".
وكانت أم سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث رحمه الله تقول له: "يا بني
اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي يا بني إن كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في
نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك فإن لم ترى ذلك فاعلم أنها تضرك ولا
تنفعك".
ولقد آتت هذه التربية الإيمانية أُكلها وأينعت ثمارها فصار ولدها بفضل الله
علَماً شامخا وإماماً جليلا وركناً من أركان العلم أمير المؤمنين في
الحديث.
فاتقوا الله عباد الله:
أيها الآباء: جنبوا أولادكم جلساء السوء، الذين يفسدون في الأرض ولا
يصلحون، فإنهم يجرون من ارتبط بهم من الشباب إلى المغامرات الدنيئة،
والمخدرات المهلكة، والأفعال القبيحة، بل ما يزالون بهم حتى يكونوا أعضاء
فاعلين في سلك الفاحشة والتهريب، ونشر الرذيلة وارتكاب الجرائم والفواحش،
ولذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من صحبة من هذه حاله فقال صلى الله عليه
وسلم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل من يخالط -أو قال-
يخالل» رواه أحمد والترمذي.
علموهم بعض الحرف والصناعات والتجارات المفيدة، التي تحفظ أوقاتهم، وتصون عرضهم، وتدعوهم إلى أشرف الكسب وطرق الحلال.
شوقوهم إلى الذهاب إلى المسجد صغارا، واحملوهم عليها كبارا، اصطحبوهم إلى حلق الذكر ومجالس العلم.
ولا تنسوا في صلواتكم وخلواتكم وأوقات إجابة الدعوات من تعاهدهم بالدعوات
الصالحة التي ينفعهم الله بها، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم للوالد
دعوة مستجابة، وقد تصادف ساعة استجابة، فيسعد بها الولد إن كانت صالحة أو
يشقى بها إن كانت فاسدة، قال صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ
مُسْتَجَابَاتٌ لاَ شَكَّ فِيهِنَّ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ
الْمُسَافِرِ ودَعْوَةُ الْوَالِدِ على ولده» رواه الترمذي وأبو داود
وغيرهما.
ولذا فإن على الوالد الحريص على صلاح أبنائه أن يستغل هذه الدعوة المستجابة
في إصلاحهم وتهذيبهم والدعوة لهم بالهداية والتوفيق والاستقامة، ولا يحرم
ولده وفلذة كبده فضل دعوة صالحة تكون بإذن الله تعالى سبباً إلى هدايته
واستقامته وبركته على نفسه ووالديه وأمته، عن جابر ابن عبد الله رضي الله
عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَدْعُوا عَلَى
أَنْفُسِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ وَلاَ تَدْعُوا عَلَى
أَمْوَالِكُمْ لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا
عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ» رواه مسلم وغيره.
عباد الله:
-(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)-
[الأحزاب/56].
وأكثروا عليه من الصلاة يعظم لكم ربكم بها أجرا فقد قال صلى الله عليه
وسلم: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا
عَشْرًا».
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واحمِ حوزة الدين.
اللهم وآمنا في دورنا وأوطاننا، وأصلح ووفق ولاة أمورنا، اللهم وأصلح قلوبهم وأعمالهم، وسددهم في أقوالهم وأفعالهم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لنا، ولآبائنا ولأمهاتنا، ولأولادنا ولأزواجنا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
-(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ*وَسَلَامٌ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)-
[الصافات/180-182].