مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن المهر في الإسلام من مظاهر امتهان المرأة وظلمها، زاعمين أنه ثمن لشرائها واقتنائها، أو أنه مقابل الاستمتاع الجنسي بها وقضاء الشهوة. ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في أحكام الأسرة في الإسلام وموقفه من المرأة.
وجوه إبطال الشبهة:
1) المهر ليس ثمنا للمرأة، ولا يقترب مفهومه في الإسلام - مطلقا - من فكرة الشراء أو التملك، بل هو مظهر لتكريم المرأة وإعزازها والعناية بها.
2) المهر لا يرتبط - في الشريعة الإسلامية - بمسألة قضاء الشهوة والاستمتاع الجسدي؛ فالزواج علاقة سامية لا يرتبط المهر فيها إلا بالرضا والاتفاق بين الطرفين على العشرة بالمعروف والارتباط.
3) عدم وجود المهر فيه امتهان للمرأة، وهو طريق للغواية والانحراف.
التفصيل:
أولا. المهر ليس ثمنا للمرأة، ولا يقترب مفهومه في الإسلام من فكرة الشراء أو التملك:
يحسن بنا أن نوضح المقصود بالمهر في الشرع، ونبين الحكمة من وجوبه في الإسلام.
أما المراد بالمهر في الشرع فهو: المال الذي تستحقه الزوجة على زوجها بالعقد عليها أو بالدخول بها حقيقة، وهو واجب على الرجل دون المرأة، ويجب - كما يدل تعريفه - بأحد أمرين:
o بمجرد العقد الصحيح على المرأة.
o الدخول الحقيقي بالمرأة.
وأما الحكمة من وجوبه فإظهار خطر هذا العقد ومكانته، وإعزاز المرأة وإكرامها، وهو دليل على أن للمرأة مكانة عالية عند الرجل تستحق أن يضحي من أجلها بالمال الذي كد واجتهد في جمعه وتحصيله والحفاظ عليه، والمهر - كذلك - دليل على الرغبة في بناء حياة زوجية كريمة مع الزوجة، وإبداء لحسن النية على قصد معاشرتها بالمعروف، وفيه تمكين للمرأة من التهيؤ للزواج ومساعدة لها في التجهيز للعرس والاستعداد للمعاونة في تأثيث بيت الزوجية، وإعداد ملابسها، وزينتها وما تحتاج إليه، تطوعا منها وليس فرضا عليها.
إذن فالمهر تكريم للمرأة، وتقديس للحياة الزوجية، ولا يمكن أن يعتقد عاقل أن الإسلام وضعه ثمنا للمرأة وشرطا لتملكها؛ وذلك لسطوع الحقائق الآتية:
1. الشريعة الإسلامية لا تجعل المهر شرطا ولا ركنا في الزواج، وإن كان واجبا في العقد، إنما هو أثر من آثاره المترتبة عليه؛ بدليل قول الله عز وجل: )لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة( (البقرة: ٢٣٦)، فإنه أباح الطلاق قبل الدخول وقبل فرض المهر، والطلاق لا يكون إلا بعد النكاح الصحيح، مما يدل على أن المهر ليس ركنا ولا شرطا في الزواج.
ومما يدل على ذلك أيضا حديث عقبة بن عامر، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوج أحد أصحابه امرأة لم يفرض لها صداقا، ولم يعطها شيئا[1].
وكذلك فإن هناك نوعا من النكاح يسمى "نكاح التفويض"، وصورته أن يعقد النكاح دون صداق، وقد نقل ابن رشد وغيره إجماع الفقهاء على جوازه، استدلالا بقوله عز وجل: )لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة([2].
فرفع الله الجناح عمن طلق في نكاح لا تسمية فيه، والطلاق لا يكون إلا بعد النكاح الصحيح، فدل على جواز النكاح بلا تسمية مهر.
2. أن الإسلام قد جعل المهر - نقدا أو عينا - حقا للمرأة، وألزم الزوج الوفاء به، إلا أنه حرره من عنصر الثمنية المادية، فلم يحدده بقدر محدد أصلا، ولم ينظر إليه بذاته، ولقد كان عرب الجاهلية يرونه ثمنا للمرأة عند زواجها، ويطلقون عليه "النافجة"؛ أي: الزيادة والكثرة، وكان من حق الأب، لا الابنة المخطوبة؛ ولذا كانت العرب في الجاهلية تقول للرجل إذا ولدت له بنت: "هنيئا لك النافجة"؛ أي: المعظمة لمالك، وذلك أنه يزوجها فيأخذ مهرها من الإبل، فيضمها إلى إبله، فينفجها؛ أي: يرفعها، و يكثرها، والمهر في الإسلام عطية محضة فرضها الله - عز وجل - للمرأة، ليست مقابل شيء يجب عليها بذله إلا الوفاء بحقوق الزوجية، كما أنها لا تقبل الإسقاط - ولو رضيت المرأة - إلا بعد العقد، قال عز وجل: )وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (4)( (النساء)؛[3] أي: فإن أعطينكم شيئا من المهر بعد ما قبضنه - من غير إكراه ولا حياء ولا خديعة - فخذوه سائغا حلالا لا إثم فيه.
3. لو كان المهر ثمنا للزوجة لجاز للزوج أن يبيع زوجته؛ لأن حق البيع ناشئ بالضرورة عن الملك؛ وهذا ليس في الإسلام ولا من تعاليمه، بل هو شيء وجد في بعض الثقافات الأخرى كالهند القديمة، وفي بريطانيا كان هناك قانون شائع حتى نهاية القرن العاشر يعطي الزوج حق بيع زوجته وإعارتها، بل وقتلها إذا أصيبت بمرض عضال، بل إن القانون الإنجليزي حتى عام 1805م، كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته، وقد حدد ثمن الزوجة بستة بنسات[4] [5].
هذا - إذن - هو قدر المرأة في هذه الثقافات، أما في الإسلام فإن مجرد الإشارة إلى هذا التصرف يعد نوعا من المداعبات الطريفة أو الأخبار العجيبة التي لا يتصور وقوعها حقيقة، وما يعنينا هنا هو أن نقرر أن المهر في الإسلام لا يمنح الزوج أي حق من حقوق التملك لزوجته، وإلا لجاز له بيعها أو التنازل عنها، وهذا ما لا يجوز أن يقول به عاقل.
ثانيا. المهر في الإسلام لا يرتبط بمسألة قضاء الشهوة والاستمتاع الجسدي:
المهر - كما أسلفنا - إنما هو مظهر من مظاهر تكريم المرأة والعناية بها، فاعتقاد أنه مقابل للاستمتاع، وقضاء الشهوة اعتقاد خاطئ؛ إذ قد يموت أحد الزوجين قبل الدخول، وهنا يجب للزوجة - أو ورثتها - المهر كاملا بالإجماع[6].
وكذلك فإن الزوج لو طلق زوجته بعد العقد وقبل الدخول وقد فرض لها مهرا، فإن لها المتعة ونصف المهر، قال عز وجل: )وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم( (البقرة: ٢٣٧)، فالزواج في الإسلام ليس علاقة جسدية يدفع فيها المال مقابل المتعة، بل هو علاقة راقية لا ترتبط فيها المرأة إلا بالعقد والتراضي بين الطرفين على العشرة والارتباط.
ثم إن الاستمتاع حاصل من كلا الطرفين، فلو كان المهر مقابلا للاستمتاع لوجب على كلا الطرفين لا على الزوج وحده، وهذه حقيقة تدل على أن المهر ليس إلا هدية ونحلة من الزوج لزوجته، ولهذا فإن المفهوم السامي لعلاقة الزواج في الإسلام عندما غاب عن أفهام الغربيين، واستحالت هذه العلاقة عندهم إلى علاقة جنسية محضة صيرت المرأة ممتهنة ذليلة تقدم للرجل المال - الدوطة - لكي يقبلها ويتزوجها؛ لأن شهوتها الجنسية أضعاف شهوة الرجل[sup][7][/sup]، فالزواج في الإسلام ليس علاقة جنسية يدفع فيها المال مقابل المتعة، بل هو علاقة راقية لا يرتبط المهر إلا بالرضا والتوافق بين الطرفين على العشرة والارتباط وهو ما يسمى بـ "العقد".
ثالثا. عدم وجود المهر فيه امتهان للمرأة، وهو طريق سهل إلى الانحراف والغواية:
ليس من العدل ولا من المنطق أن يمنع دفع المهر إلى المرأة عند الزواج؛ لأن في ذلك امتهانا للمرأة وحطا من قدرها، فينظر الرجل إليها باحتقار، فلا تحسن العشرة بينهما ولا يدوم الحب والوئام، مما يؤدي إلى سهولة حل رابطة الزوجية، وسهولة الطلاق والزواج بأخريات، إذ لا يكلف ذلك الرجل شيئا.
وقد أدى هذا المسلك بالأوربيين إلى أن صارت المرأة هناك تقدم بعض المال للرجل لكي يقبلها ويرضى بها زوجة له، وهذا معناه أن المرأة لن تتزوج إلا إذا كانت ذات مال، أو تضطر لمعاناة مشقات الحياة ونكد الدنيا لتحصيل نفقات الزواج، ومعناه أيضا أن نغض من كرامة المرأة، ونضطرها أن تسعى إلى الرجل تطلب يده، فنفرض عليها أن تمزق حجب الحياء والخفر الذي هو زينة أخلاق المرأة، وميزان أصالتها[8].
وهذا الإجراء قد يؤدي - كذلك - إلى شيوع ذلك النوع من العلاقة السرية التي يسميها الناس خطأ "زواجا عرفيا"، وإنما هو نوع من الزنا، والذي يدفع إليه هو سهولة الزواج والطلاق في هذا النوع، وعدم وجود أي تكاليف مادية لهما، وما نراه الآن في الجامعات وغيرها من هذا النوع من العلاقة إنما تم بلا مهر أو بمهر اسمي - 25 قرشا - كان من نتائجه زواج الطالب بأكثر من طالبة في وقت واحد، وقد تزوج بعضهم في خلال سنوات الدراسة الأربع بأكثر من عشرين طالبة[9].
وسبب كل هذا البلاء غياب المهر الحقيقي، فالمهر حماية للمرأة، وضمان لمستقبلها من تأمين لحياتها الزوجية، وليس ثمنا لها، ولا مقابل الاستمتاع الجسدي بها كما يزعم هؤلاء.
الخلاصة:
· المهر ليس ثمنا للمرأة، ولا يقترب مفهومه في الإسلام من فكرة الشراء أو التملك مطلقا، فالمهر في الإسلام نوع من التكريم للمرأة وتوثيق لعقدة النكاح، وليس شرطا أو ركنا في عقد الزواج، ولو كان المهر ثمنا للمرأة لكان من حق أوليائها، ولجاز للزوج بيع زوجته أو هبتها، وهذا كله لا وجود له في الفكر الإسلامي.
· المهر في الشريعة الإسلامية لا يرتبط بمسألة قضاء الشهوة والاستمتاع الجسدي بدليل أنه يجب للمرأة قبل الدخول إذا مات الزوج، ويجب لها نصفه إذا طلقها وقد فرض لها مهرا، كما أنه لو كان المهر مقابلا للاستمتاع لوجب على كلا الطرفين لاشتراكهما في الاستمتاع.
· عدم وجود المهر فيه امتهان للمرأة وإهدار لكرامتها وإنسانيتها، وهو طريق سهل إلى الغواية والانحراف، فهو الذي أدى إلى امتهان المرأة الأوربية التي تقدم الرشاوي المادية لخاطبها لكي تظفر بالزواج، وهو الذي أدى إلى شيوع الانحرافات الخلقية؛ كنحو ما يسميه الناس بـ "الزواج العرفي"، وهو زنا صريح أدى إليه عدم وجود المهر، وسهولة الحصول على المرأة من هذا السبيل، فالمهر حماية للمرأة، وحماية لكيان الأسرة، وحماية لاستقرار المجتمع.
(*) الزواج والطلاق والتعدد بين الأديان والقوانين ودعاة التحرر، زكي علي السيد أبو غضة، طبعة خاصة، ط1، 1425هـ/ 2004م.
[1]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب فيمن تزوج ولم يسم صداقا حتى مات (2119)، وابن حبان في صحيحه، كتاب النكاح، باب الولي (4072)، وصححه الألباني في الإرواء (1940).
[2]. انظر: الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1409هـ/ 1989م، ج7، ص250: 255. عودة الحجاب، د. محمد أحمد إسماعيل المقدم، دار طيبة، الرياض، ط10، 1428هـ/ 2007م، ج2، ص296.
[3]. عودة الحجاب، د. محمد أحمد إسماعيل المقدم، دار طيبة، الرياض، ط10، 1428هـ/ 2007م،ج2، ص297، 298.
[4]. البنس: نصف الشلن.
[5]. عودة الحجاب، د. محمد أحمد إسماعيل المقدم، دار طيبة، الرياض، ط10، 1428هـ/ 2007م،ج2، ص54: 56.
[6]. الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط3، 1409هـ/ 1989م، ج7، ص289. فقه السنة، السيد سابق، دار الفتح للإعلام العربي، القاهرة، ط3، 1419هـ/ 1999م، ج2، ص429.
[7]. الزواج والطلاق والتعدد بين الأديان والقوانين ودعاة التحرر، زكي علي السيد أبو غضة، طبعة خاصة، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص76، 77 بتصرف.
[8]. عودة الحجاب، د. محمد أحمد إسماعيل المقدم، دار طيبة، الرياض، ط10، 1428هـ/ 2007م، ج2، ص311، 312.
[9]. الزواج والطلاق والتعدد بين الأديان والقوانين ودعاة التحرر، زكي علي السيد أبو غضة، طبعة خاصة، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص75.