ماذا يمنعك من الحج؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أخي الحبيب:
ساءني
-والله- أن تمر بك الأعوام، وتتتابع عليك المواسم والأيام، وأنت قاعد عن
إدراك فريضة الحج، تلك الفريصة التي هي ركن عظيم من أركان الإسلام، وقاعدة
ثابتة من قواعده، وقد دل على وجوبها الكتاب والسنة والإجماع..
مع أنك -أخي- فى صحة جيدة، ووفرة في المال -أسأل الله أن يزيدك من فضله- فماذا يمنعك -أخي- من الحج؟، وما الذي يعيقك عن الانتظام في سلك الحجيج؟!
لقد
تأملت الأسباب التي تمنع الناس من أداء فريضة الحج، مع انتفاء الموانع
الشرعية في حقهم، فوجدتها كلها أسبابًا واهية، ترجع فى مجموعها إلى ضعف
الإيمان الناشئ عن فساد القلب وظلمته، فإذا فسد القلب وأظلم، نتج عن ذلك كل
معصية وكل مخالفة تحصل من الجوارح؛ فالقلب هو ملك الأعضاء وقائدها وأميرها
وموجهها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» [رواه البخاري ومسلم].
أما الأسباب المفصلة فهي كالتالي:
1- التسويف وطول الأمل.
يأتي
الشيطان إلى المسلم من هذا الباب ليمنع عنه الخير، ويحرمه ثواب الطاعات،
ويوقعه في إثم عدم المبادرة إلى امتثال الأمر، ولذلك حذر العلماء أشد
التحذير من التسويف وطول الأمل، قال الحسن: "ما أطال أحد الأمل إلا أساء
العمل". وقال شداد بن أوس: "أنذركم (سوف)". وروى ابن المبارك قال: "حدثنا
أن عامة دعاء اهل النار: يا أفً للتسويف"!!
وقال الحارث المحاسبي: "والتسويف قاطع عن العمل".
وقال
ابن الجوزي: "ومن الاعتزار: طول الأمل، وما من آفة أعظم منه؛ فإنه لولا
طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً، وإنما يقدم المعاصي ويؤخر التوبة لطول
الأمل، وتبادر الشهوات وتنسى الإنابة لطول الأمل".
قال ابن رجب:
"فالواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل ألا يقدر عليها، ويحُال
بينه وبينها، إما بمرض أو موت، أو بأن يدركه بعض الآيات التي لا يقبُل
معها عمل" (جامع العلوم والحكم).
وما أدري وإن أملتُ عمرًا *** لعلي حين أصبح لستُ أمسي
ألم تر أن كل صباح يوم *** وعمرك فيه أقصر منه أمسِ
2- الرجاء الكاذب:
فبعض
الناس يتعلق بآيات وأحاديث الرجاء، وعفو الله عز وجل وسعة رحمته، ويجعلها
حُجةً له في ترك الفرائض وفعل المناهي، وقد يزعم أن ذلك من حسن الظن بالله
عز وجل، فإذا ما عاتبته على ترك الحج مع القدرة عليه قال: إن الله غفور
رحيم، أو يقول: ربنا رب قلوب، أو يسرد عليك شيئًا من آيات وأحاديث الرجاء
وسعة الرحمة.
ولا شك أن هذا من تلبيس الشيطان على ابن آدم، فإن
الرجاء وحسن الظن بالله عز وجل لا يكون إلا مع الاجتهاد وحسن العمل كما قال
تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف: 110].
قال
يحيى بن معاذ: "من أعظم الاغترار عندي: التمادي في الذنوب على رجاء العفو
من غير ندامة، وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة
ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني
على الله عز وجل مع الإفراط".
ترجو النجاةَ ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليَبَسِ
3- الكسل:
والكسل نوعان:
أولًا: كسل العقل:
بعدم إعماله في التفكير والتدبر والنظر في عظيم صنع الله وآلائه، وترك النظر فيما يصلح شأن الإنسان فى الدنيا والآخرة.
ثانيا: كسل البدن:
والمؤدي إلى التثاقل عن الطاعات وأداء العبادات على الوجه المشروع.
وهم من صفات أهل النفاق، كما في قوله تعالي: {إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا
إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [سورة النساء: 142].
والكسل عاقبته وخيمة؛ لأنه يصد الإنسان عن طلب المعالي ويمنعه من إدراك المهمات، ويعيقه
عن العمل النافع، والفكر المثمر، والسعي الحميد.
ولذلك قيل :إياك والكسل؛ فإنك أن كسلت لم تؤد حقا.
إن التواني أنكح العجز بنته *** وساق إليها حين أنكحها مهرًا
فراشًا وطيئًا ثم قال لها اتكي *** فقصرا كما لا شك أن يلدا الفقرا
4- البخل:
ومن
الناس من يمنعه عن أداء فريضة الحج البخل وخوف النفقة، وهذا مرض خطير، من
أصيب به فهو على شفا هلكة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأي داء
أدوى من البخل» [البخاري فى الأدب المفرد وصححه الحاكم في المستدرك]، إشارة
إلى خطورة هذا الدواء وعظم آثاره السلبية.
قال تعالى: {هَا
أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم
مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ
وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [سورة محمد: 38].
وعلاج ذلك:
أولًا: أن يعلم المرء أن هذا المال ليس ماله، وإنما هو مال الله عز وجل، ولذلك قال تعالى: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [سورة الحديد: 7].
وقال: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [سورة النور: 33].
فليس من حقه إذًا أن يبخل بمال الله على عباد الله، فضلاً على عن أن يبخل به على نفسه.
ثانيًا: أن يعلم ماله من الأجر والثواب في نفقته على الحج وغيره من الطاعات، وقال تعالى: {مَّثَلُ
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ
وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة: 261].
بل إن المتابعة بين الحج والعمرة من أسباب الغنى وحصول الرزق على كما قال: صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد» [رواه النسائي وصححه الألباني].
5- الخوف على الأهل والأبناء:
ومن
الناس من يترك فريضة الحج تذرعًا بالخوف على الأهل والأبناء، وهذا ليس
بعذر وبخاصة فى هذة الأزمنة التي تقدمت فيها وسائل النقل بشكل مذهل حيث إن
الطائرات تنقل الناس من أقصى الأرض إلى أقصاها في سويعات محدودة، وأيام
الحج لا تجاوز صوابع اليد الواحدة؛ وقد كان السابقون من الناس يتركون
أموالهم وأهليهم شهوراً عديدة في رحلة شاقة يتعرضون خلالها لكافة أنواع
المخاطر والمهالك؛ حيث كانت ظهور الإبل هي أسرع وسائل يومئذ، ومع ذلك كانوا
يتسابقون إلى الحج استجابة لقوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ ﴿٢٧﴾ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ
اللَّـهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [سورة الحج: 27-28].
فإذا كان
هؤلاء لم يجدوا عذرًا لتخلفهم عن الاستجابة لنداء الرحمن مع وعورة الطرق
ومشقة السفر، وبدائية وسائل النقل، فإن من بعدهم جدير بألا يجد عذرًا، فترك
الأهل والأبناء أسبوعا أو أسبوعين لا يمكن أن يكون عائقًا عن أداء هذا
الركن العظيم من أركان الإسلام.
وإذا كان المرء يخشى أن يترك أبناءه
أيامًا قليلة يؤدي خلالها فريضة الله عليه، فماذا سيفعل حينما يأتية ملك
الموت ليقبض روحه ويصرعه، وينتزعه من بين الأهل والأبناء والأموال.. فهل
يتسطيع أن يمنع ملك الموت من ذلك؟!
وإذا كان لا يستطيع منعه من سلب
روحه وانتزاع نفسه وتفرقة شمله؛ فعليه أن يتقي الله عز وجل؛ فإن الله تعالى
يحفظ الأبناء بصلاح الآباء كما قال سبحانه: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [سورة الكهف: 82].
وقال: {وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا
عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّـهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [سورة النساء: ٩]؛ فإن تقوى الله عز وجل هي خير وسيلة لحفظ الذرية فى حال الحياة وبعد الموت.
6- الجهل بشروط وجوب الحج:
ومن
الناس من يمنعه عن أداء الحج جهله بشروط وجوبه؛ فالحج قد يكون واجبا عليه
وهو لا يدري، والواجب على المسلم أن يتعلم أحكام العبادات التي فرضها الله
تعالى عليه ومنها الحج، فيتعلم أن الحج يجب على المسلم البالغ العاقل الحر
المستطيع بماله وبدنه، فإذا توفرت تلك الشروط وانتفت الموانع وجب الحج على
الفور على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ لقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [سورة آل عمران: 133].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «تعجلوا إلى الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» [صححه الألباني].
7- الكبر والتعالي:
وهذا
مرض خطير أصاب بعض الناس، فمنعهم عن كثير من الفضائل التي يرون فيها
انتقاصًا من مكانتهم ومهابتهم فى النفوس، ومن ذلك أداء الصلاة مع الجماعة؛
إذ كيف يشاؤون مع عامة الناس، فيقفون جميعًا على قدم المساواة أمام الله
تعالى.
ولهذا السبب -أيضا- يتركون الحج؛ لأن الحج عبادة يسقط فيها
التمايز بين البشر إلا بالتقوى والعمل الصالح؛ فالكل يلبس إزارًا ورداءً هو
أشبة ما يكون بكفن الموت، لا تستطيع أن تميز بين غنيهم وفقيرهم، أو بين
عزيزهم وذليلهم، أو بين شريفهم ووضيعهم، وهذا -بحد ذاته- لا يرضي أصحاب
النفوس المتكبرة، والقلوب المريضة، والصدور الضيقة وعلى هؤلاء أن يعلموا:
أولاً: أن الرفعة والعزة في التواضع لا في الكبر؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «… وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» [رواه مسلم].
ثانيا: أن الكبر من أسباب دخول النار؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأهل النار: كل عتل، جواظ، مستكبر» [رواه البخاري].
ثالثا: أن الميزان يومئذ بالأعمال؛ قال صلى الله عليه وسلم: «احتجت النار والجنة؛ فقالت هذه: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت هذه: يدخلني الضعفاء والمساكين» [رواه مسلم].
وقال صلى الله علية وسلم: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة» [رواه البخاري].
8- الغفلة عن الله والدار الآخرة:
وهذا
حال كثير من الناس؛ صدتهم الغفلة عن ذكر الله وطاعته، وزينت لهم حب الدنيا
والركون إليها، وحجبتهم عن أداء ما افترض الله عليهم من العبادات.
قال
ابن القيم: "ومن تأمل حال هذا الخلق، وجدهم كلهم إلا أقل القليل ممن غفلت
قلوبهم عن ذكر الله تعالى، واتبعوا أهواءهم، وصارت أمورهم ومصالحهم فرطا؛
أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود بصالحهم، واشتغلوا بما لا ينفعهم، بل يعود
بضررهم عاجلًا وآجلًا".
وعلاج الغفلة:
1- الإكثار من ذكر الله عز وجل؛ قال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّـهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّـهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: ٣٥].
2- صحبة الذاكرين الطائعين؛ قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [سورة الكهف: ٢٨].
3- مجانبة أهل الغفلة، قال تعالى: {وَلَا
تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [سورة الكهف: ٢٨].
4- المسارعة إلى الطاعات؛ قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [سورة البقرة: ١٤٨].
5- الاستعانة بالله عز وجل: بالدعاء والاستغفار واللجوء إليه سبحانه والبكاء من خشيته.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل طاعته وأن يصرف عنا سبُل معصيته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.