مسائل في صيام المحرم وعاشوراء
مسائل في صيام المحرم وعاشوراء
الحمدُ للهِ وبعدُ؛
نحنُ مقبلونَ على شهرٍ من أشهرِ اللهِ الحُرمِ، والتي ورد ذكرها في
كتابِ اللهِ من غيرِ تحديدٍ لأسمائها، قال - تعالى -: " إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ
يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ "
[التوبة: 36].
وجاءتِ السنةُ مبينةً أسمائها.
عَنْ أَبِي بَكْرَة: أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ فِي
حَجَّة الْوَدَاع، فَقَالَ: " أَلَا إِنَّ الزَّمَان قَدْ اِسْتَدَارَ
كَهَيْئَتِهِ يَوْم خَلَقَ اللَّه السَّمَاوَات وَالْأَرْض، السَّنَة
اِثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَة حُرُم، ثَلَاثَة مُتَوَالِيَات:
ذُو الْقَعْدَة، وَذُو الْحِجَّة، وَالْمُحَرَّم، وَرَجَب مُضَر الَّذِي
بَيْن جُمَادَى وَشَعْبَان ".
أخرجهُ البخاري (1741)، ومسلمٌ (1679).
صيامُ شهرِ اللهِ المحرمِ:
ورد الترغيبُ في صيامِ شهرِ اللهِ المحرمِ، وأنهُ من أفضلِ الشهورِ للصومِ بعد رمضانَ.
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَفْضَلُ الصِّيَامِ
بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ
بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ ". أخرجهُ مسلمٌ (1163).
وقد أعل الإمامُ الدارقطني في " الإلزماتِ والتتبعِ " (ص 209) الحديثَ بالإرسالِ، ولكن رجح الإمامُ أبو حاتمٍ في " العللِ " (1/563 564 رقم 751)
تَأْمُرُنِي أَنْ أَصُومَ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ "، قَالَ لَهُ: " مَا
سَمِعْتُ أَحَدًا يَسْأَلُ عَنْ هَذَا إِلَّا رَجُلًا سَمِعْتُهُ يَسْأَلُ
رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَنَا قَاعِدٌ عِنْدَهُ
فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَيُّ شَهْرٍ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصُومَ
بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ " قَالَ: " إِنْ كُنْتَ صَائِمًا بَعْدَ شَهْرِ
رَمَضَانَ فَصُمْ الْمُحَرَّمَ فَإِنَّهُ شَهْرُ اللَّهِ فِيهِ يَوْمٌ
تَابَ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ وَيَتُوبُ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ ".
أخرجهُ الترمذي (741)، وعبدُ اللهِ بنُ الإمامِ أحمدَ في " المسندِ " (1/154) عن غيرِ أبيهِ.
قال الحافظُ ابنُ رجبٍ في " لطائفِ المعارفِ " (ص 77): " وفي إسنادهِ مقالٌ ".
وقال الشيخُ شعيب الأرنؤوط في " تخريجِ المسندِ " (2/441 رقم 1322): "
وإسنادهُ ضعيفٌ لضعفِ عبدِ الرحمن بنِ إسحاق أبي شيبةَ، وجهالةِ النعمان
بنِ سعدٍ ". ا. هـ.
وضعفهُ العلامةُ الألباني في " ضعيفِ الترغيبِ " (1/312 رقم 614).
3 - عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ قَالَ: كَانَ
رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: " أَفْضَلُ الصِّيَامِ
بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ
".
أخرجهُ النسائي في " الكبرى " (2916) متفرداً به عن أصحابِ الكتبِ
الستةِ، والبيهقي في " السننِ الكبرى " (4/291) وأعلهُ البيهقيُّ بمخالفةِ
عبيدِ اللهِ بنِ عمرو الرقي للجماعةِ الذين جعلوهُ من حديثِ أبي هريرةَ
فقال: " رواهُ مسلمٌ في الصحيحِ عن زهيرِ بنِ حربٍ عن جريرٍ وخالفهم في
إسنادهِ عبيدُ اللهِ بنُ عمرو الرقي "، وأشار إلى ذلك العلامةُ الألباني في
" صحيحِ الترغيبِ " (1/592)، وقال المزي في " التحفةِ " (2/445): " وهو
الصحيحُ ".
قال الحافظُ ابنُ رجبٍ في " لطائفِ المعارفِ " (ص 81 82): " وقد سمى
النبي - صلى الله عليه وسلم - المحرمَ شهرَ اللهِ، وإضافتهُ إلى اللهِ
تدلُّ على شرفهِ وفضلهِ، فإن اللهَ - تعالى -لا يضيفُ إليه إلا خواصَّ
مخلوقاتهِ، كما نسبَ محمداً وإبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ وغيرَهم من
الأنبياءِ صلواتُ اللهِ عليهم وسلامهُ إلى عبوديتهِ، ونسبَ إليه بيتهُ
وناقتهُ، ولما كان هذا الشهرُ مختصاً بإضافتهِ إلى اللهِ - تعالى -، وكان
الصيامُ من بين الأعمالِ مضافاً إلى الله - تعالى -، فإنهُ لهُ من بين
الأعمالِ، ناسبَ أن يختصَّ هذا الشهرُ المضافُ إلى اللهِ بالعملِ المضافِ
إليهِ، المختصِّ به، وهو الصيامُ ". ا. هـ.
المَسْأَلَةٌ الأُوْلَى:
1 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ وصلهُ فقال: " والصحيحُ متصلٌ: حميدٌ، عن أبي هريرةَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ".2 - عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: " أَيُّ شَهْرٍ
أجاب الإمامُ النووي عن إكثارِ النبي - صلى الله عليه وسلم - من صومِ شعبان دون المحرم.
قال الإمامُ النوويُّ في " شرحِ مسلم " (8/55): "
الْجَوَاب عَنْ إِكْثَار النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ صَوْم
شَعْبَان دُون الْمُحْرِم، وَذَكَرنَا فِيهِ جَوَابَيْنِ:
أَحَدهمَا: لَعَلَّهُ إِنَّمَا عَلِمَ فَضْلَهُ فِي آخِر حَيَاته.
وَالثَّانِي: لَعَلَّهُ كَانَ يَعْرِض فِيهِ أَعْذَار، مَنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ". ا. هـ.
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
تَصْرِيح بِأَنَّهُ أَفْضَل الشُّهُور لِلصَّوْمِ، وَقَدْ سَبَقَ
ذهب جمهورُ الفقهاءِ من الحنفيةِ والمالكيةِ والشافعيةِ إلى استحبابِ صومِ الأشهرِ الحرمِ.
واستدلوا:
عَنْ مُجِيبَةَ الْبَاهِلِيَّةِ عَنْ أَبِيهَا أَوْ عَمِّهَا أَنَّهُ
أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ انْطَلَقَ فَأَتَاهُ
بَعْدَ سَنَةٍ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالَتُهُ وَهَيْئَتُهُ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا
الْبَاهِلِيُّ الَّذِي جِئْتُكَ عَامَ الْأَوَّلِ، قَالَ: فَمَا غَيَّرَكَ
وَقَدْ كُنْتَ حَسَنَ الْهَيْئَةِ؟ قَالَ: مَا أَكَلْتُ طَعَامًا مُنْذُ
فَارَقْتُكَ إلَّا بِلَيْلٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم
-: لِمَا عَذَّبْتَ نَفْسَكَ؟ ثُمَّ قَالَ: صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ
وَيَوْمًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، قَالَ: زِدْنِي فَإِنَّ بِي قُوَّةً، قَالَ:
صُمْ يَوْمَيْنِ قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَ
زِدْنِي، قَالَ: صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنْ الْحُرُمِ
وَاتْرُكْ، صُمْ مِنْ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ، وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ
الثَّلَاثِ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا. أخرجهُ أبو داود (2428)، وابنُ ماجه (1741)، وأحمدُ (5/28).
قال العلامةُ الألبانيُّ في " تمامِ المنةِ " (ص 413):
" قلت: ليس بجيدِ الإسنادِ؛ لأنهُ اضطرب راويهِ فيه على وجوهٍ ذكرها
الحافظُ في " التهذيبِ "، ومن قبلهِ المنذري في " مختصرِ السننِ "، ثم قال:
" وقد وقع فيه هذا الاختلافُ كما تراهُ، وأشار بعضُ شيوخنا إلى تضعيفهِ
لذلك، وهو متوجهٌ ".
قلتُ: وفيه علةٌ أخرى، وهي الجهالةُ، كما بينتهُ في " ضعيفِ أبي داود " (419) ". ا. هـ.
وقد ثبت عن ابنِ عمرَ أنه كان يصومُ الأشهرَ الحرمَ.
1 عن ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما - أنه كان يصومُ أشهرَ الحرم.
أخرجهُ عبدُ الرزاقِ في " المصنف " (4/292)، وإسنادهُ صحيحٌ.
2 عن نافع أن ابنَ عمرَ كان لا يكادُ يفطرُ في أشهرِ الحرمِ ولا غيرها.
أخرجهُ عبدُ الرزاقِ في " المصنفِ " (4/292)، وإسنادهُ صحيحٌ.
وذهب الحنابلةُ إلى أنهُ يسنُ صومُ شهرِ المحرمِ فقط من الأشهرِ الحرمِ.
واستدلوا بحديثِ أبي هريرة في صحيحِ مسلم الآنف.
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
قال الشيخُ ابنُ عثيمين في " الشرحِ الممتعِ " (6/467): " واختلف العلماءُ - رحمهم الله - أيهما أفضلُ صوم شهر المحرم، أم صوم شعبان؟
فقال بعضُ العلماءِ: شهرُ شعبانَ أفضلُ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم
- كان يصومهُ إلا قليلاً منهُ ولم يُحفظ عنهُ أنه كان يصومُ شهرَ المحرمِ،
لكنهُ حث على صيامهِ بقوله: " إنهُ أفضلُ الصيامِ بعد رمضان ".
قالوا: ولأن صومَ شعبانَ ينزلُ منزلةَ الراتبةِ قبل الفريضةِ، وصومَ
المحرمِ ينزلُ منزلةَ النفلِ المطلقِ، ومنزلةُ الراتبةِ أفضلُ من منزلةِ
المطلقِ، وعلى كلٍ فهذان الشهران يسنُ صومهما، إلا أن شعبانَ لا يكملهُ ".
ا. هـ.
المَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
سُئل الشيخُ ابنُ عثيمين في " فتاويه " (20/22) سؤالاً نصهُ: " صيامُ شهرِ محرم كله هل فيه فضلٌ أم لا؟ وهل أكونُ مبتدعاً بصيامهِ؟
فأجاب - رحمه الله -: " بعضُ الفقهاءِ يقولون: يسنُ صيامُ شهرِ اللهِ
المحرمِ كله، ويستدلون بقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أَفْضَلُ
الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ "، ولكن لم يرد
فيما اعلمُ أنه يصومهُ كله، وأكثر ما يكونُ صيامهُ من الشهورِ بعد رمضان
شهر شعبان، كما جاء في الحديثِ الصحيحِ عن عائشةَ - رضي الله عنها -، ولا
يقالُ لمن صامهُ كلهُ: إنهُ مبتدعٌ؛ لأن الحديثَ المذكورَ قد يحتملُ هذا؛
أعني صيامهُ كله كما ذكرهُ بعضُ الفقهاءِ ". ا. هـ.
المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ:
قال ابنُ رجبٍ في " لطائفِ المعارفِ " (ص 79 80): " وقد اختلف العلماءُ
في أي الأشهرِ أفضلُ، فقال الحسنُ وغيرهُ: أفضلها شهرُ اللهِ المحرمِ،
ورجحهُ طائفةٌ من المتأخرين...وزعم بعضُ الشافعيةِ أن أفضلَ الأشهرِ الحرمِ
رجبٌ، وهو قولٌ مردودٌ.وأفضلُ شهرِ اللهِ المحرمِ عشرُهُ الأوَّلُ. وقد
زعم يمانُ بنُ رئاب أنه العشرُ الذي أقسم الله به في كتابهِ، ولكن الصحيح
أن العشرَ المقسمَ به عشرُ ذي الحجةِ ". ا. هـ.
ورُوي عن ابنِ عباس كما في تفسيرِ ابنِ جريرٍ الطبري (12/560) عند قولهِ
- تعالى -: " وليالِ عشرٍ " [الفجر: 2] قال: ويقالُ: العشرُ أولُ السنةِ
من المحرمِ.
المَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
أشار العلماءُ الذين ألفوا في البدعِ المحدثةِ إلى بدعةِ إحياءِ الليلةِ
الأولى من المحرمِ، وممن ذكر ذلك أبو شامةَ المقدسي في " الباعثِ على
إنكارِ البدعِ والحوادثِ " (ص 121 122) فقال: " ومما هذا جارٍ فيه من
المدارسِ بدمشق مدرسةُ الزكي هبةِ اللهِ بنِ رواحةَ وهو يومئذٍ بيدِ الشيخِ
التقي - رحمه الله -، ثم أشار على واقفِ دارِ الحديثِ الأشرفيةِ بدمشق حين
وقفها، والوقف عليها أن يشترطَ على كلِ من يحفظُ القرآن من أهلها أن يحيوا
خمس ليالٍ من ليالي كل سنةٍ، وهن ليلةُ النصفِ من شعبان، وليلةُ سبعٍ
وعشرين من رمضان، وليلتا العيدين، وليلةُ أول ِ المحرمِ، وصار يقعدُ بنفسهِ
والجماعةُ حولهُ، ويكثرُ الوقيد بالشمعِ والزيتِ زائداً على المعتادِ في
غير هذه الليالي بكثيرٍ، ولا يزال إلى ذلك الفراغِ من الختمِ.
وهذهِ أيضاً بدعةٌ متجددةٌ، يظنُ العامةُ والجهالُ أن هذا الشيخَ المفتي
المقتدى به المُظهرُ من الخشوعِ والسكونِ فوق أضرابهِ لم ينتصب بنفسه لهذه
الليالي مخصصاً لها بذلك إلا ومعتقَدَهُ أن هذه الليالي متساويةٌ في
الفضلِ ومتقاربةٌ، وأن لها فضلاً على غيرها، وأن السنةَ تدلُ على ذلك،
فسيطولُ الأمدُ، ويبعدُ العهدُ، ويُنسى أولُ هذا كيف كان؟ فيتمادى الأمرُ،
فلا يبعدُ أن يوضعَ فيه أحاديث على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، كما
فُعل في صلاتي الرغائبِ ونصفِ شعبان، فليت شعري أي مقاربةٍ بين ليلةِ سبعٍ
وعشرين من رمضان وبين ليلةِ أولِ المحرمِ، وقد فتشتُ فيما نقل من الآثارِ
صحيحاً وضعيفاً، وفي الأحاديث الموضوعة فلم أر أحداً ذكر فيها شيئاً... ".
ا. هـ.