الموضوع:{التباب والتّبار-ما دعا به نوح على قومه}
الموضوع:{التباب والتّبار-ما دعا به نوح على قومه}
اسم السورة : نوح | رقم الآية : 28
{ رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً }
{وقال نوح: رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً. رب اغفر لي ولوالدي، ولمن دخل بيتي مؤمناً، وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً}..
فقد ألهم قلب نوح أن الأرض تحتاج إلى غسل يطهر وجهها من الشر العارم الخالص الذي انتهى إليه القوم في زمانه. وأحياناً لا يصلح أي علاج آخر غير تطهير وجه الأرض من الظالمين، لأن وجودهم يجمد الدعوة إلى الله نهائياً، ويحول بينها وبين الوصول إلى قلوب الآخرين. وهي الحقيقة التي عبر عنها نوح، وهو يطلب الإجهاز على أولئك الظالمين إجهازاً كاملاً لا يبقي منهم دياراً ـ أي صاحب ديار ـ فقال: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك}.. ولفظة {عبادك} توحي بأنهم المؤمنون. فهي تجيء في السياق القرآني في مثل هذا الموضوع بهذا المعنى. وذلك بفتنتهم عن عقيدتهم بالقوة الغاشمة، أو بفتنة قلوبهم بما ترى من سلطان الظالمين وتركهم من الله في عافيه!
ثم إنهم يوجدون بيئة وجواً يولد فيها الكفار، وتوحي بالكفر من الناشئة الصغار، بما يطبعهم به الوسط الذي ينشئه الظالمون، فلا توجد فرصة لترى الناشئة النور، من خلال ما تغمرهم به البيئة الضالة التي صنعوها. وهي الحقيقة التي أشار إليها قول النبي الكريم نوح عليه السلام، وحكاها عنه القرآن: {ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً}.. فهم يطلقون في جو الجماعة أباطيل وأضاليل، وينشئون عادات وأوضاعاً ونظماً وتقاليد، ينشأ معها المواليد فجاراً كفاراً، كما قال نوح..
من أجل هذا دعا نوح ـ عليه السلام ـ دعوته الماحقة الساحقة. ومن أجل هذا استجاب الله دعوته، فغسل وجه الأرض من ذلك الشر؛ وجرف العواثير التي لا تجرفها إلا قوة الجبار القدير.
وإلى جانب الدعوة الساحقة الماحقة التي جعلها خاتمة دعائه وهو يقول: {ولا تزد الظالمين إلا تباراَ} ـ أي هلاكاً ودماراً ـ إلى جانب هذا كان الابتهال الخاشع الودود:
{رب اغفر لي ولوالدي، ولمن دخل بيتي مؤمناً، وللمؤمنين والمؤمنات...}.
ودعاء نوح النبي لربه أن يغفر له.. هو الأدب النبوي الكريم في حضرة الله العلي العظيم.. أدب العبد في حضرة الرب. العبد الذي لا ينسى أنه بشر، وأنه يخطئ، وأنه يقصر، مهما يطع ويعبد، وأنه لا يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله بفضله، كما قال أخوه النبي الكريم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا هو الاستغفار الذي دعا قومه العصاة الخاطئين إليه، فاستكبروا عليه.. وهو هو النبي يستغفر بعد كل هذا الجهد وكل هذا العناء. يستغفر وهو يقدم لربه سجل الحساب!
ودعاؤه لوالديه.. هو بر النبوة بالوالدين المؤمنين ـ كما نفهم من هذا الدعاء ـ ولو لم يكونا مؤمنين لروجع فيهما كما روجع في شأن ولده الكافر الذي أغرق مع المغرقين (كما جاء في سورة هود).
ودعاؤه الخاص لمن دخل بيته مؤمناً.. هو بر المؤمن بالمؤمن؛ وحب الخير لأخيه كما يحبه لنفسه، وتخصيص الذي يدخل بيته مؤمناً، لأن هذه كانت علامة النجاة، وحصر المؤمنين الذين سيصحبهم معه في السفينة.
ودعاؤه العام بعد ذلك للمؤمنين والمؤمنات.. هو بر المؤمن بالمؤمنين كافة في كل زمان ومكان. وشعوره بآصرة القربى على مدار الزمن واختلاف السكن. وهو السر العجيب في هذه العقيدة التي تربط بين أصحابها برباط الحب الوثيق، والشوق العميق، على تباعد الزمان والمكان. السر الذي أودعه الله هذه العقيدة، وأودعه هذه القلوب المربوطة برباط العقيدة..
وفي مقابل هذا الحب للمؤمنين، كان الكره للظالمين.
{ولا تزد الظالمين إلا تباراً}..
وتختم السورة، وقد عرضت تلك الصورة الوضيئة لجهاد النبي الكريم نوح عليه السلام. وتلك الصورة المطموسة لإصرار المعاندين الظالمين.. وقد تركت هذه وتلك في القلب حباً لهذا الروح الكريم وإعجاباً بهذا الجهاد النبيل، وزاداً للسير في هذا الطريق الصاعد، أياً كانت المشاق والمتاعب. وأياً كانت التضحيات والآلام. فهو الطريق الوحيد الذي ينتهي بالبشرية إلى أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض. حين ينتهي بها إلى الله، العلي الأعلى، الجليل العظيم..
في ظلال القرآن