السيف البتارعلى من يوالي الكفار ويتخذهم من دون الله ورسوله والمؤمنين أنصار
الحمد لله الذي أعز دين الإسلام، وحماه بالبيض اللدان، والسمر الخزام ،
وقوى أركانه بالشريعة البيضاء ليلها كنهارها، وجلى وجوه سننها بجلى
منابرها، وأذل الشرق وأهده، وجدع أنف الطغيان وجهله، وقمع طاغوت الطاغي
المغرور، وهدم أحكام بنيانه والزور، وضعضع أمر زخارفه الباطلة العاطلة، {
وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} [الحديد:20] .
أحمده إذ أنقذنا من
الضلال، وجعلنا من أتباع نبيه الناسخ لشرائع من سلف من الرسل في العصور
الخوال، اللهم صل وسلم على هذا النبي العظيم، والرسول الكريم، الذي جعلت
دينه ظاهرا على جميع الأديان، وهو الدين الأقوم الذي هو دين الملك الديان،
وعلى آله وأصحابه الذين أذاقوا الأعداء كؤوس الردا .
اللهم انصر المسلمين ووفقهم للصواب
قاتلوا أعداء الله إن الجنة تحت ظلال السيوف
ومذ جردوا بيض سيوف النصرة ما غمدوها إلا إلى الهدى وعلى التابعين لهم بإحسان إلى انقضاء الدوران، أما بعد:
فقد
وردت علينا مسائل شريفة عزيزة، من سائل أشرب قلبه حب الدين، وتمكن قي
مودته أي تمكين، وكانت الأسئلة واقعة عظيمة، بلي فيها بعض طوائف هذه الأمة
الفخيمة بمجاورة الطوائف الكفرية، فرقت أديانهم التي هي بكل خير حرية، فحق
الجواب عن هذه الأسئلة بمحض السنة والكتاب، وإمحاض النصح بالدين الحق الذي
هو فصل الخطاب.
السؤال الأول:
قال السائل - رعاه الله وحرسه - :
ما
قولكم رضي الله عنكم في بلد من بلدان المسلمين ملكها حربيون من النصارى أو
غيرهم ، فما تقولون فيمن ينتقل إليها من المسلمين ويستوطنونها ويرضون
بأحكامها المخالفة للشريعة - أي شريعة الإسلام - ويحبون تلك البلاد يما
يكتسبونه في جلب البضائع إليها ، ويبنون فيها البنيان كبلادهم ..
فما تقولون في فعلهم ذلك، وفي إيمانهم معاشر العلماء الأعلام.
جواب السؤال الأول:
الجواب : هذا السؤال قد احتوى على أحكام.
أحدها:
حكم البلد التي استولى عليها الكفار من بلاد الإسلام ، وقد حقق المحقق ابن
حجر في التحفة وغيرها أنها باقية على حكمها دار إسلام، وإن كانت دار حرب
صورة، فهي دار إسلام حكما، لقوله صلى الله عليه وسلم : "الإسلام يعلو ولا
يعلى عليه "، ولقوله تعالى : {إن الأرض لله يورثها من يشاء} [الأعراف: 128]
، وإذا كانت دار إسلام كان على أهل الإسلام فرضا وحتما استنقاذها من أيدي
الكفرة بمناضدتهم ومحاصرتهم والتضييق عليهم بكل ممكن .
ثانيها: حكم
من ينتقل إلى هذه البلدة الموجودة التي استولى عليها أهل الذمة، فهو عاص
فاسق مرتكب لكبيرة من كبائر الإثم إن لم يرض بالكفر وأحكامه، فإن رضي بها
فهو كافر مرتد تجري عليه أحكام المرتد .. وليتأمل؛ أنه ما الحامل لهذا
المسلم على النقلة من دار الإسلام الخالية عن الكفار إلى الدار التي أخذها
الكفار وأظهروا فيها كفرهم وقهروا من فيها بأحكامهم الطاغوتية الكفرية، إلا
الزيغ والعياذ بالله تعالى وحب الدنيا، التي هي رأس كل خطيئة، وجمع حطامها
من غير مبالاة بحفظ الدين، وعدم الأنفة من إهانة أهل التوحيد ومحبة جوار
أعداء الله على جوار أوليائه، والله يقول : {قلا تقعد بعد الذكرى مع القوم
الظالمين} [الأنعام: 68] ، ويقول : {فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث
غيره إنكم إذا مثلهم} [النساء: 140] ، فليتأمل قوله عز وجل : {إنكم إذا
مثلهم} ، وهذا حكم من بقي بمجاورتهم أصالة فما بالك بحكم من تكلف النقلة
لجوارهم، فكيف يشك في ضلاله وفساد دينه والعياذ بالله تعالى.
قال ابن
حجر في فتاويه الحديثية على قوله صلى الله عليه وسلم : "أنا بريء من كل
مسلم مقيم بين أظهر المشركين " قالوا يا رسول الله ولم ؟ قال: "لا ترائي
الناران " (حديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي وقبلهم أبو بكر بن أبي
شيبة بأسانيد إلى قيس بن حازم التابعي الكبير) فمنهم من أرسله ومنهم من
أسنده قال البخاري والمرسل أصح .. ومعنى الحديث أنه يلزم المسلم أن يبعد
منزله عن منازل المشركين – أي: الحربين – ولا ينزل بموضع إذا أوقدت فيه
نار، تلوح وتظهر النار التي يوقدونها في منزلهم، لأن النارين متى تراءتا
كان معدودا منهم، وقد تقرر أن الهجرة واجبة من دار الحرب بشروطها. وإسناد
الترائي إلى النارين مجاز، من قولهم داري ينظر إلى دار فلان، أي يقابلها
وسئل ابن حجر- نفعنا الله به- عن قوله صلى الله عليه وسلم : "أنا بريء من
كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين " قالوا: لم قال لا ترائى ناراهما ؟ فأجاب
بقوله: "هذا تعليل للأراءه فحذف لام التعليل، ووجه المناسبة بين العلة
والمعلول أن في إقامته بينهم تكثير سوادهم وأنهم لو قصدهم جيش غزاة ربما
منعهم رؤية نيران المسلمين مع نيرانهم، فإن العرب كانوا عند مقابلة الجيوش
يعرفون كثرتها برؤية النيران كما وقع ذلك في إرسالهم لرؤية جيشه صلى الله
عليه وسلم بمر الظهران عند قصده مكة لفتحها، فلما كان في إقامة المسلمين
بين أظهر المشركين هذا المحذور العظيم، وهو منع المسلمين من غزوهم أو عدم
إدخال مرعب عليهم بريء من المقيم بين أظهرهم لكونه سببا لعدم جهادهم ..
انتهى.
ثالثا: حكم جباية الأموال إلى هذه البلدة وإحيائها وتشييد
البنيان فيها، فهل هذا إلا ضلال مبين وفساد كبير ورضى بأفعال المشركين، فإن
الواجب المقرر المعتبر شرعا في مثل هذه البلدة المأخوذة مقاومة الكفار من
أهل البلد، ومن كان على دون مسافة القصر منها، ومن كان فوقها يلزمه
الموافقة لأهل ذلك المحل بقدر الكفاية إن لم يكف أهلها، ومن دون مسافة
القصر، هذا حكم مثل هذه البلدة، وعبارة المنهاج، مع شرحه التحفة . الثاني
من حال الكفار، يدخلون بلدة لنا كان خطبا عظيما فيلزم أهلها الدفع بالممكن
من أي شيء أطاقوه، فإن أمكن تأهب للقتال وجب الممكن حتى على فقير، وولد،
وعبد، ومدين، وامرأة فيها قوة، وإن لم يمكن قتال فمن قصد منا دفع عن نفسه
بالممكن، ومن هو دون مسافة القصر إلى البلد وإن لم يكن من أهل الجهاد،
كأهلها في تعيين وجوب القتال ، ومن على المسافة المذكورة فما فوقها يلزمهم
إن وجدوا زادا وسلاحا ومركوبا الموافقة بقدر الكفاية، إن لم يكف أهلها. ومن
يليهم دفعا عنهم وإنقاذا … انتهى .
فإذا كان الواجب في حق المسلمين هو
المقاومة للكفار المذكورين وإنقاذ من فيها من المسلمين وإخراجهم منها
بالمحاربة والمحاصرة والمضايقة الشديدة كما أمر الله في كتابه بقوله عز من
قائل : {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل
مرصد } [التوبة : 5] الآية، وهي في الكفار الذين ببلدهم ، فما حكم من أخذوا
بلدتنا وكسروا بيضتنا واستباحوا حرمتنا إلا ذلك بل أهم منه بالأحق الأوجب
الأحرى .. فمن شد الرحال، وزم السفن والأحمال إلى هذه الدار وحمل إليها
الأمتعة والأبزار وأحيا أسواقها بالبيوعات، وشوارعها بالروحات والغدوات،
وعمر فيها البنيان، وشيد فيها العمران، فقد خالف الشريعة المحمدية، ونبذ
العهود الإلهية، ورضي بأحكام الجاهلية. { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من
في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون } [آل عمران: 83] .
هذا
وظاهر النصوص القرآنية التي هي الدلائل اليقينية: عدم إيمان من يوالي
الكفار، ويتولاهم في أموره من دون المسلمين، الذين هم للدين أنصار وهو
المسؤول عنه الذي ترك دار الإسلام الخالية عن الكفار، ورحل إلى دار استولى
عليها الكفر وأربابه، قال تعالى: { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر
يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم .. } [المجادلة: 22] الآية،
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون
إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق } [الممتحنة: 1] الآية، وقال
تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم
أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم .. } [المائدة :51] الآية، وقال
تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} [المائدة: 55] الآية، وقال
تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين}
[المائدة: 57] الآية.
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة المفصحة بعدم
الإيمان ممن ذكر، ممن يواد الكفار، وفسقه، والمناداة عليه بأنه منهم، وهل
بعد بيان الله تعالى بيان، أو بعد حكمه حكم ؟! قال تعالى: { ومن أحسن من
الله حكما} [المائدة: 50] الآية، وما كانت موادة سيدنا حاطب بن أبي بلتعة
الذي نزلت فيه الممتحنة إلا الكتاب الذي كتب به إلى أهل مكة يخبرهم بخروج
رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يفعل ذلك ارتدادا ولا رضاء بالكفر
بعد الإسلام، وهو بدري باتفاق، وقد نزل فيه ما سمع، وعلل سبحانه الزجر عن
موالاتهم بكونهم كفروا بما جاءنا من الحق .. وهل كفر فوق كفر الإفرنج ؟ وقد
سئل ابن سيرين عن رجل يبيع داره من نصراني يتخذها بيعة فتلى : {ومن يتولهم
منكم فإنه منهم} [المائدة: 51] الآية، فكيف حكم من يتولاهم بجلب الميرة
والبضائع والأموال التي تقويهم وتشد شوكتهم على الإسلام، ومن يذل لعزتهم
ويتضعضع لصولتهم ويخضع لأحكامهم فأنى له بعد ذلك التسمي بعنوان الإيمان
والإسلام وقد استسلم لأحكام الكفر {أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله
جميعا} [النساء: 139] ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقال تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما
عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم} [آل عمران: 118] الآية، فالبطانة الدخلاء،
والأخلاء، تصدق على اتخاذهم كتابا، وبوابين، وحسابين، ومؤمنين .. إلى غير
ذلك من أصناف البطانة، علل سبحانه النهي عن ذلك بأنهم يحبون مشقتنا، وقد
ظهرت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر، فلا يعزون بعد إذ أهانهم
الله، ولا يقربون بعد إذ أبعدهم الله، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،
إذ حاصل القرآن مقاطعة الكفار من جميع الوجوه، ومباينتهم في كافة الأحوال،
فلا مواصلة بيننا وبينهم قط والله أعلم.
السؤال الثاني:
قال
السائل: وكذلك قوم في بلاد الإسلام من المسلمين، يدعون بأنهم من رعية
النصارى، ويرضون بذلك، ويفرحون به، فما تقولون في إيمانهم، ومن الجملة أنهم
يتخذون لسفنهم بيارق ، وهي تسمى الرايات، مثل رايات النصارى، إعلاما منهم
بأنهم من رعيتهم.
جواب السؤال الثاني:
الجواب والله سبحانه
وتعالى المسؤول أن يحفظ علينا دين الإسلام، أن هؤلاء قوم قد أشربوا حب
النصارى في قلوبهم، واستحضروا عظمة ملكهم، وصولتهم، ولاحظوا توفر الدنيا
بأيديهم، التي هي حظهم من الدنيا والآخرة، وقصروا نظرهم إلى عمارة الدنيا،
وجمعها، وأن النصارى أقوم لحفظها، ورعايتها، فإن كان القوم المذكورون جهالا
يعتقدون رفعة دين الإسلام، وعلوه على جميع الأديان وأن أحكامه أقوم
الأحكام، وليس في قلوبهم مع ذلك تعظيم الكفر، وأربابه، فهم باقون على أحكام
الإسلام، لكنهم فساق مرتكبون لخطب كبير يجب تعزيرهم عليه وتأديبهم
وتنكيلهم .. وإن كانوا علماء بأحكام الإسلام، ومع ذلك صدر عنهم ما ذكر،
فيستتابوا، فإن رجعوا عن ذلك وتابوا إلى الله تعالى، وإلا فهم مارقون، فإن
اعتقدوا تعظيم الكفر ارتدوا، وجرى عليهم أحكام المرتدين .. وظاهر الآيات
والأحاديث عدم إيمان المذكورين، قال تعالى : {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم
من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجهم من النور إلى
الظلمات} [البقرة: 257]، فالآية تقتضي أن الناس قسمان: الذين آمنوا وليهم
الله تعالى، أي لا غيره فليس لهم مولى دون الله، ورسوله