الموضوع:{الأمانة-إشفاق الكون منها وحمل الإنسان لها}
الموضوع:{الأمانة-إشفاق الكون منها وحمل الإنسان لها}
اسم السورة : الأحزاب | رقم الآية : 72
{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً
يختم السورة بالإيقاع الهائل العميق. عن الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال، وحملها الإنسان، وهي ضخمة هائلة ساحقة. ذلك ليتم تدبير الله في ترتيب الجزاء على العمل، ومحاسبة الإنسان على ما رضي لنفسه واختار: {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيما}..
ولعله فضل نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان، وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه. وإلى حمله للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال. والتي أخذها على عاتقه، وتعهد بحملها وحده، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات، وقصور العلم، وقصر العمر، وحواجز الزمان والمكان، دون المعرفة الكاملة ورؤية ما وراء الحواجز والآماد:
{إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها؛ وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}..
إن السماوات والأرض والجبال ـ التي اختارها القرآن ليحدث عنها ـ هذه الخلائق الضخمة الهائلة، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئاً صغيراً ضئيلاً. هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها؛ وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة. وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءاً من ثانية؛ وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة.
هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبداً. وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله
لها؛ وتجذب توابعها بلا إرادة منها؛ فتؤدي دورها الكوني أداء كاملاً..
وهذه الأرض تدور دورتها، وتخرج زرعها، وتقوت أبناءها، وتواري موتاها، وتتفجر ينابيعها. وفق سنة الله بلا إرادة منها.
وهذا القمر. وهذه النجوم والكواكب. وهذه الرياح والسحب. وهذا الهواء وهذا الماء. وهذه الجبال. وهذه الوهاد.. كلها.. كلها.. تمضي لشأنها، بإذن ربها، وتعرف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة.. لقد أشفقت من أمانة التبعة. أمانة الإرادة. أمانة المعرفة الذاتية. أمانة المحاولة الخاصة.
{وحملها الإنسان}..
الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره. ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره. ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده. ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه، ومقاومة انحرافاته ونزغاته، ومجاهدة ميوله وشهواته.. وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد. مدرك. يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق!
إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، القليل القوة، الضعيف الحول، المحدود العمر؛ الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع..
وإنها لمخاطرة أن يأخذ على عاتقه هذه التبعة الثقيلة. ومن ثم {كان ظلوماً} لنفسه {جهولاً} لطاقته. هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج بنفسه لحمله. فأما حين ينهض بالتبعة. حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه، والاهتداء المباشر لناموسه، والطاعة الكاملة لإرادة ربه. المعرفة والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها وفي آثارها إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال في السماوات والأرض والجبال.. الخلائق التي تعرف مباشرة، وتهتدي مباشرة، وتطيع مباشرة، ولا تحول بينها وبين بارئها وناموسه وإرادته الحوائل. ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء.. حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة، وهو واع مدرك مريد. فإنه يصل حقاً إلى مقام كريم، ومكان بين خلق الله فريد.
إنها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة.. هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله. وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى، وهو يسجد الملائكة لآدم. وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: {لقد كرمنا بني آدم}.. فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله. ولينهض بالأمانة التي اختارها؛ والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها..!
ذلك كان.. {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات. وكان الله غفوراً رحيماً}..