سرور القلب
سرور القلب
إن أفضل الخلقِ وأهداهم؛ أتمُّهم عبوديّةً لله، وسرورُ القلبِ وشَرحُ صدرِه في إنابةِ العَبد إلى الله والإقبالِ عليه والاستعانةِ به، والرجوعُ إلى الله، والإنابةُ إليه عبادةٌ عظيمة من سنَنِ الأنبياء والمرسَلين، قال جلّ وعلا عن داودَ-عليه السلام-: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24]، وقال عَن سليمانَ-عَليه السلام-: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34]، وقال شُعيب-عليه السلام-: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، وقال نبيُّنا محمّد-صلى الله عليه وسلم-: {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10]، وأثنى الله على خليلِه إبراهيم لاتِّصافِه بالإنابةِ إليه والرّجوعِ إليه في كلِّ أمر، قال جلّ وعلا: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75]، ومِن دعاء الخليلِ-عليه السلام-: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4].
والمنيبون إلى اللهِ هم خيرُ مَن يَصحبُهم المرءُ في حياته، يقول سبحانه: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15].
والإنابةُ إلى اللهِ هي مفتاحُ السّعادة والهدايةِ، قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد:27]. والبِشارة لأهل الإنابة: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى} [الزمر:17]. ولا يعتبِر بالآيات ولا يتَّعظ بالعِبَر إلاّ المنيب إلى ربِّه، قال عز وجل: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8]، وهو المتذكِّر بنزولِ النّعم: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13].
والإنابةُ إلى الله مانعةٌ من عذابِ الله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54]، والجنّةُ أعِدَّت نُزُلا للقلبِ الخاشع المنيب، قال جلَّ جلاله: {وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ *هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ *مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:31-33].
وأمَر الله جميعَ الخَلق بالإنابة إليه والرجوع إليه، قال سبحانه: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31].
وحقيقتُها الرجوعُ إلى الله، وهي منزلةٌ أعلى من التوبة، فالتوبةُ إقلاعٌ عنِ الذنب وندَم على ما فات وعَزمٌ على عدَم العودة إليه، والإنابةُ تدلّ على ذلك وتدلّ على الإقبالِ على الله بالعِبادات: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
ومَن أكثرَ الرجوع إلى الله؛ كان الله مفزَعَه عند النوازِلِ والبلايا والفواجِع، يقول الحسن البصري-رحمه الله-: "إنَّ العبدَ لا يزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسِه، وكانَتِ المحاسبَةُ هِمَّتَه، والمؤمِن في الدنيا كالغريبِ؛ لا يجزَع من ذلِّها، ولا ينافِس في عِزِّها، له شأنٌ وللنّاسِ شَأن"، واعمَل بوصيَّةِ المصطفى-صلى الله عليه وسلم-: (كُن في الدنيا كأنّك غريبٌ أو عابرُ سبيل)[1]، ومن كانتِ الآخرة همَّه؛ كانت هِمَّته في تحصيلِ الزاد الصالح، وإذا استيقَظَت القلوب؛ استعدَّت للآخرة، قال بعض السلف: "ما نِمتُ نومًا قطّ فحدّثتُ نفسِي أني أستيقِظُ منه"، ومَن نفسِه ولَجَمها علَى العصيان؛ نجا في الآخرةِ منَ النّدامة والخُسران.
وحقٌّ على الحازِمِ أن لا يغفلَ عَن زلاّت نفسِه وخَطَراتها وخَطَواتها، بل يقودُها إلى ما يقرِّبها إلى ربِّها، فالدعوة إلى الله تنير البصيرةَ، وبِذِكر الله تلينُ القلوب، قال سبحانه: {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
والرّشيدُ مَن خاف على نفسِه الوقوعَ في الزّلَل أو الإقرارَ على الخَلَل، والموفَّق هو المنيب إلى الله بالرجوع إليه من العصيان، المكثِرُ من أنواعِ الطاعاتِ والقُرُبات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].
الشيخ: عبد المحسن بن محمد القاسم-حفظه الله-