تقييم الإنسان من شأن الله وحده:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد
الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم
علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا
أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول
فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تقييم الإنسان من شأن الله وحده:
قال تعالى"
﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ
فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾
فالتوجيه الإلهي هنا لا تقل:
أنا، امرأةٌ قالت لصحابيٍ جليل توفاه الله عزَّ وجل
وكان النبي يزوره، يزوره بعد وفاته، قالت
: رحمة الله عليك أبا السائب،
فشهادتي عليك: لقد أكرمك الله. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(( وما يدريك أن الله أكرمَهُ ؟ فقلت: بأبي أنت وأُمِّي يا رسول الله، فمن
يكرمه الله ؟ فقال: أمّا هو فقد جاءه اليقين. والله إِني لأرجو له الخير.
والله ما أدري - وأنا رسول الله - ما يُفعَلُ بي ؟))
( أخرجه البخاري عن خارجة بن زيد )
اتهام النفس من علامات الإيمان:
فالمؤمن لا يزكي نفسه، سيدنا عمر قال ": ليت أم عمر لم تلد عمر، ليتها كانت عقيماً "، سيدنا حذيفة كانت معه قائمةٌ بأسماء المنافقين، قال له عمر: "بربك اسمي بينهم ؟ " وهو عملاق الإسلام، المؤمن لشدة ورعه وشدة خوفه من الله يتهم نفسه دائماً، وقد
روى بعض التابعين أنه التقى بأربعين صحابياً، ما منهم واحدٌ إلا وهو يظن
نفسه منافقاً، فاتهام النفس من علامات الإيمان، لكن الطمأنينة لخطرات
النفس، وتزكيتها، ومدحها من علامات النفاق.
﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾
أيضاً ولا تُزكِّ على الله أحداً، لا تقل: فلان تقي، نقي، ورع، قل: أظنه كذلك
ولا أزكي على الله أحداً، زكِّه وقل: والله أعلم، زكِّه وقل: ولا أزكي على
الله أحداً، سيدنا الصديق حينما استخلف سيدنا عمر، بعض من حوله قالوا له:
" كيف تولي عمر وهو شديدٌ جداً ألا تخشى أن يعاتبك الله ؟
قال: أتخوفونني بالله، أقول: يا رب لقد ولَّيت عليهم أرحمهم (معنى ذلك أنه زكَّاه)
ثم قال: هذا علمي به، فإن بدّل وغيَّر فلا علم لي بالغيب". لا
تتورط بتزكية إنسان تزكيةً مطلقة، قل: أحسبه مؤمناً ولا أزكي على الله
أحداً، قل: أحسبه صادقاً ولا أزكي على الله أحداً، قل: أحسبه أميناً ولا
أزكي على الله أحداً، قل: أحسبه صالحاً فإن بدّل وغيّر فلا علم لي بالغيب،
هذا موقف علمي، موقف فيه تحفُّظ، موقف فيه أدب مع الله عزَّ وجل، لأن الله
وحده يعلم حقيقة الإنسان، لأن تقييم الإنسان من شأن الله وحده، وتزكية
الإنسان من شأن الله وحده.
﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾
(سورة الإسراء )
وحده يعلم، لذلك لا تزكِّ على الله أحداً، إن زكيت تحفَّظ، قل: هذا علمي به،
ولا علم لي بالغيب، أحسبه أميناً ولا أزكي على الله أحداً، تنفيذاً لهذه
الآية الكريمة..
﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾
على الإنسان ألا يتورط في مديح إنسان لا يعرفه:
سيدنا الصديق مرةً مدحه المادحون فبكى وقال:
" يا رب أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً
مما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون
﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾
فأحياناً يعدُّ المدح كالذبح، لا تمدح أخاك فقد ذبحته، أحياناً يصدق الممدوح أنه كذلك، سيدنا عمر مرةً كان مع أصحابه قال بعضهم: "والله ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله". أحدَّ فيهم النظر، و قسا في نظرته إليهم إلى أن قال أحدهم: " لا والله لقد رأينا من هو خيرٌ منك، قال: ومن هو ؟ قال: الصِدِّيق، فقال لهذا الذي قال: رأينا من هو خيرٌ منك. قال: "لقد كذبتم جميعاً وصدق هذا "، ماذا فعل عمر ؟ عدّ سكوتهم كذباً، قال: " لقد كذبتم جميعاً وصدق، والله كنت أضل من بعيري وكان أبو بكرٍ أطيب من ريح المسك ". هذا الإيمان.
﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾
أحياناً تجد أن المديح يكال جزافاً، في حفلات عقد القران يصفون الأسرتين
المتصاهرتين بالتقى والورع إلى درجة، وليس من هذا شيء، الإنسان إذا كثر
مديحه اتهم بعقله، اتهم بورعه، لا تزكو أنفسكم، حدثنا عن الله فقط، ولا
تحدثنا عن عباد الله لأن عباد الله تقييمهم من شأن الله لا من شأن العباد، الإنسان
لا يتورط في مديح إنسان لا يعرفه، وليس متأكداً من دينه، ولا من استقامته،
ولا من ورعه، دائماً يُكال المدح جزافاً في كل عقود القِران بشكل غير
مقبول، هذا مرض اجتماعي، نحن بحاجة إلى عمل لا إلى المدح.
الإنسان الذي يبحث عن المدح والثناء ليس مخلصاً:
قال الصديق للسيدة عائشة ابنته بعد أن برَّأها الله من حديث الإفك:
" قومي إلى رسول الله فاشكريه، قالت:
والله لا أقوم إلا لله "، فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال:
(( عرفت الحق لأهله))
النبي عليه الصلاة والسلام لعلو مقامه عند الله ما كان يعنيه أن يمدحه المادحون، دخل عليه رجل، أصابته رِعْدَة قال:
(( هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأةٍ تأكل القديد ))
( أخرجه ابن ماجه عن أبي مسعود )
عَرَّف نفسه بأنه ابن امرأةٍ من قريش كانت تأكل القديد، وانتهى الأمر، كان الأعرابي إذا دخل على النبي يقول: "أَيُّكُم محمد ؟ "لا يعرفه، لا توجد له أي ميزة، أيكم محمد ؟ يقول: "قد أصبت " أنا، وأحياناً يقول له أحد الصحابة: " هذا الوضئ الذي أمامك، هو محمد ". فالذي يبحث عن المدح ورفعة القدر والثناء هذا ليس مخلصاً بما فيه الكفاية.
والله أعلم
من دروس سورة النجم
للداعية د محمد راتب النابلسي
http://nabulsi.com/green/ar/art.php?...=347&sssid=348