هل من معتبر
ينبغي أن يوقن العبد أن لهذا الكون إلها عليما ومدبرا حكيما: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:18)
لا يقع شيء في هذا الكون إلا بعلمه، ولا يقضى قضاء إلا بأمره:{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (البقرة:117)
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يّـس:82) ولقد أودع الله كونه الفسيح وكتابه الكريم من الآيات والعبر ما يكفي أولي الألباب والبصائر ليتذكروا ويعتبروا:
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران:137) وقد ذكر الله تعالى في سورة الكهف قصة صاحب الجنتين الذي طغى وتجبر: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} (الكهف:35، 36).
فماذا كانت عاقبته؟ قال الله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً.وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} (الكهف:42،43)
ولقد مد الله تعالى في أعمارنا حتى رأينا من سنن الله ما يتحقق في عباده وكونه، فكم من أفراد كانوا يتقلبون في النعمة والثراء والغنى بدل الله أوالهم إلى الفقر والحاجة حتى إنهم ليتلقون الصدقة، وآخرين منحهم الله الصحة والقوة في البدن فما صانوها بل استعملوها في الظلم والبطش فبدل الله قوتهم ضعفا وصحتهم مرضا، وكم من رجل كان في عز ورياسة ووجاهة أعرض عن أمر ربه وطغى وتجبر واستباح الحرمات والدماء والأموال فتبدل به الحال فأصبح بعد العز ذليلا ، وبعد الأمر والنهي محبوسا مقيدا أسيرا: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت: من الآية46)
والعجب العجاب أن من كان في مثل حالهم لا يتعظ ولا يعتبر ولا ينزجر وصدق الله : {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: من الآية46)
فكأن الأحداث من حوله لا تعنيه ، وكأن ما أصاب غيره لم يكن ليصيبه هو، غفلة مستحكمة : { لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: من الآية179)
بل إنهم لا يزدادون مع مرور الأيام إلا عتوا وضلالا، وكبرا وعنادا، فيعتدون على الحرمات والأموال والأنفس ويسفكون الدماء الزكية ويزهقون الأرواح البريئة.
ألا يعلم هؤلاء الطغاة أن الله تعالى قد نهى عن قتل البهيمة بغير حق ؟فهل يرضى الله بقتل إنسان بغير حق؟ فكيف بمسلم ؟ فكيف بتقي صالح ؟.
والله عز وجل يقول: { مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة: من الآية32)
وهذه الأحاديث الشريفة التي نطق بها النبي صلى الله عليه وسلم تبين خطورة وعظم هذه الجريمة الشنيعة
فيقول: " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق".
ويقول: " لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم امرئ مؤمن لأكبهم الله في النار".
ويقول: " لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما".
وأعجب من ذلك أن بعض هؤلاء يقتل لا ليحافظ على ملكه هو بل ليحافظ على ملك طاغية متجبر، وهذا القاتل المجرم من أكثر الناس غباء وحمقا؛ إذ يبيع دينه وآخرته بدنيا غيره ، ولا ينفعه بين يدي الله أن يقول كنت " عبد المأمور " ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يجيء المقتول يوم القيامة متعلقا بقاتله فيقول الله: فيم قتلت هذا؟ فيقول: في ملك فلان".
فما أعظم خيبته وخسارته في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
والجزاء من جنس العمل
فهذا أبو مسلم الخراساني الذي تفانى في خدمة دولة بني العباس ، لكنه انتهك الحرمات وسفك الدماء البريئة، فلما تولى المنصور الخلافة بايعه أبو مسلم على السمع والطاعة وبعد حين خرج على الخليفة فأرس إليه المنصور يحذره ويأمره بالسمع والطاعة فأبى ففاز به المنصور وأمر بقتله وقطع جسده قطعا صغيرة ورمي بها في نهر دجلة جزاء وفاقا.
وفي زمن الخليفة الواثق انتشرت بدعة القول بخلق القرآن فتصدى لها علماء أهل السنة وعلى رأسهم أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله فجاء به الواثق وسأله عن القرآن فأخبره أنه كلام الله غير مخلوق، وسأله عن رؤية الله فأجابه أن الله تعالى يقول : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(القيامة:23،22) .
فاستشار بعض الحاضرين فأشاروا بقتله، فقتل وقطع رأسه فسمع رأسه يقرأ:{الم.أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت:1،2).
ومات الواثق وتولى الخلافة بعده المتوكل الذي انتصر لمذهب أهل السنة وحارب البدعة وأهلها ، ودخل عليه محمد بن عبد الملك الزيات قفال له المتوكل: في قلبي شيء من قتل محمد بن نصر، فقال ابن الزيات: أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا، ثم دخل عليه هرثمة فقال له المتوكل نفس المقالة، فقال هرثمة: قطعني الله إربا إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا،ثم دخل عليه أحمد بن أبي داود فقال له: ضربني الله بالفالج إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا.
وبعد مدة يسرة قام المتوكل بحرق ابن الزيات، و فازت خزاعة بهرثمة فقتلوه وقطعوه إربا لدوره في قتل أحمد بن نصر الخزاعي، وأما ابن أبي داود فقد حبسه الله في جلده قبل موته بأربع سنين إذ ضربه الفالج( الشلل).
ولا تعجب فإن الجزاء من جنس العمل وما من ذنب أسرع عقوبة من البغي، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".
لكن السؤال المهم هنا هل يعتبر هؤلاء قبل نزول عقاب الله بهم أم يستمرون في طغيانهم وعتوهم أم يصدق فيهم قول ربنا: {ِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً.اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر:الآية42،43).
نسأل الله أن يحفظ المسلمين من كل مكروه وسوء، وأن يرد كيد الكافرين والظالمين إلى نحورهم ، والحمد لله رب العالمين.