س: تزوجت رجلا فيه
طيبة ولكنه كثير الشك. فهو كثيرا ما
يسألني: هل أحب أحدا غيره، فأذكر له
أني مخلصة له، ولا أتطلع إلى رجل
سواه، فيطلب مني أن أحلف على ذلك،
فأحلف بالفعل وأنا مطمئنة.
ولكنه لم يكتف بهذا،
فعاد يسألني: هل أحببت أحدا غيره
قبل زواجي منه؟ فنفيت له ذلك، فطلب
مني أن أقسم على ذلك، وأحلف له أن
قلبي لم يتعلق قبل ذلك بأحد سواه،
قلت له: لا داعي لمثل هذا الكلام،
وقد أكدت لك حبي لك، وإخلاصي لك،
وحرصي على سعادتنا الزوجية، ولكنه
يأبى إلا أن أقسم له اليمين. ولا
أكتمك أن قلبي كان قد تعلق في فترة
ما بشاب ذي قرابة بعيدة من أسرتي،
ولكن لم تساعده الأقدار على التقدم
لزواجي. وكان هذا من سنين، ولم يكن
بيني وبينه غير عاطفة انطفأت
جمرتها بعد زواجي تماما، وأصبحت
مجرد ذكرى.
وأنا في الواقع
حائرة من أمري:
هل أحلف اليمين التي
يطلبها زوجي، فأريح نفسه من هذا
الشك الذي يقلقه؟ وفي هذه الحالة
أخاف على نفسي الإثم، وغضب الله
علي، أني حلفت باسمه كذبا… أم
أمتنع من ذلك وفي هذه الحالة
سيزداد شكه وقلقه، وهذا ما يكدر
حياتنا، وينغص علينا معيشتنا.
ولهذا لجأت إلى
فضيلتكم، لتنقذني من حيرتي،
وتدلني على وجه الصواب، والله
يحفظكم.
ج : الأصل في
الكذب هو الحرمة، لما وراءه من
مضار على الفرد، وعلى الأسرة وعلى
المجتمع كله، ولكن الإسلام أباح
الخروج عن هذا الأصل -كما بينا في
فتوى سابقة- لأسباب خاصة وفي حدود
معينة، ذكرها الحديث النبوي الذي
أخرجه مسلم في صحيحه عن أم كلثوم
رضي الله عنها قالت: "ما سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص
في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل
يقول القول، يريد به الإصلاح (أي
بين الناس)، والرجل يقول القول في
الحرب، والرجل يحدث امرأته،
والمرأة تحدث زوجها".
وهذا
من واقعية هذه الشريعة، وبالغ
حكمتها.
فليس
من المقبول أن ينقل من يريد
الإصلاح ما يسمعه من كلا الخصمين
في حق صاحبه، فيزيد النار اشتعالا،
بل يحاول تلطيف الجو، ولو بشيء من
تزويق الكلام، أو الزيادة فيه،
وإنكارا ما قاله أحدهما في الآخر
من سب أو إهانة.
وليس
من المعقول أن يعطي العدو ما يريد
من معلومات، تكشف عن أسرار الجيش.
أو تدل على عورات البلد، أو تنبئ عن
مواطن الضعف في الجبهة الداخلية،
أو غير ذلك، تحت عنوان "الصدق"
بل الواجب إخفاء ذلك عنه، فإن
الحرب خدعة.
وليس
من الحكمة كذلك أن تصارح المرأة
زوجها بما كان لها من ماض عاطفي عفى
عليه الزمن، ونسخته الأيام، فتدمر
حياتها الزوجية باسم "الصدق"
الواجب. ولهذا كان الحديث النبوي
في غاية الحكمة والصواب، حين
استثنى ما يحدث بين الزوجين من
كلام في هذه النواحي من الكذب
المحرم، رعاية للرباط الزوجي
المقدس.
ولا
شك أن الزوج مخطئ في طلبه من زوجته
أن تحلف له على ما ذكرت، وخطؤه من
وجهين:
الأول: أنه ينبش
ماضيا لا علاقة له به، وقد لا يكون
من صالحه نبشه، واستثارة دفائنه،
فكثيرا ما تمر بالفتاة -ومثلها
الفتى- أيام يهفو قلبها لفتى
"قريب، أو جار أو غير ذلك،
وتعتبره فارس أحلامها، ثم لا يلبث
أن ينشغل عنها أو تنشغل عنه، وخاصة
بالزواج، فليس من الخير إحياء هذه
العواطف التي ماتت مع الزمن، وحسبه
أن الزوجة تخلص له، وتؤدي حقه،
وترعى بيته، ولا تقصر في شأن من
شئونه.
الثاني: أن الحلف
لا يقدم ولا يؤخر في العلاقة
بينهما، لأنها إن لم تكن ذات دين،
تخشى الله، وتخاف حسابه، فلا يهمها
أن تحلف بأغلظ الإيمان وهي كاذبة،
وإن كانت ذات دين، ممن يرجو الله
ويخاف سوء الحساب، فيكفيه دينها
وتقواها، ليطمئن إليها، ويثق
بأمانتها وإخلاصها.
ويخشى
أن يجرها إلحاحه عليها إلى أن تحلف
كاذبة، ويكون الإثم عليه هو لا
عليها، والذي أؤكده هنا بالفعل،
أنه لا حرج على الزوجة إذا ضغط
عليها الزوج بمثل هذه الصورة
المذكورة في السؤال أن تحلف وهي
كاذبة، لأن صدقها يعرض حياتها
الزوجية للانهيار وهو ما يكرهه
الله تعالى، ويقاومه الإسلام،
فالحلف هنا من باب الضرورة.
ومثل
هذا أيضا إذا سألها: هل تحبه أم لا؟
وطلب منها اليمين على ذلك. فمثل هذا
النوع من الرجال لا يرضيه إلا
الحلف، وإن كان كاذبا. فلتحلف إن لم
تجد بدا من الحلف، ولتستغفر الله
تعالى، وهو الغفور الرحيم.
ومما
يذكر هنا ما حدث في عهد عمر رضي
الله عنه من ابن أبي عذرة الدؤلي،
وكان يخلع النساء اللاتي يتزوج
بهن، فطارت له في الناس من ذلك
أحدوثة يكرهها فلما علم بذلك، أخذ
بيد عبد الله بن الأرقم، حتى أتى به
إلى منزله، ثم قال لامرأته: أنشدك
بالله هل تبغضيني؟ قالت: لا تنشدني.
قال: فإني أنشدك الله. قالت: نعم.
فقال لابن الأرقم: أتسمع؟ ثم
انطلقا حتى أتيا عمر رضي الله عنه.
فقال: إنكم لتحدثون أني أظلم
النساء وأخلعهن، فاسأل ابن الأرقم!
فسأله عمر فأخبره، فأرسل إلى امرأة
ابن أبي عذرة، فجاءت هي وعمتها،
فقال: أنت التي تحدثين لزوجك أنك
تبغضينه؟ فقالت: إني أول من ثاب
وراجع أمر الله تعالى. إنه ناشدني
الله، فتحرجت أن أكذب. أفأكذب يا
أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فاكذبي!
فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا
تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت الذي
يبنى على الحب، ولكن الناس
يتعاشرون بالإسلام والأحساب!.
وهذه
والله إحدى الروائع العمرية. فلم
يكن عمر مجرد رئيس دولة، بل كان إلى
جوار ذلك عالما مربيا، وفقيها
ومفتيا.
إنه
يطبق هنا الحديث النبوي في حديث
المرأة مع زوجها، والرجل مع زوجته.
فلا يرى مانعا أن تخبره بالكذب
إبقاء على الزوجية، ثم يلقي حكمته
الخالدة: إن أقل البيوت ما بني على
الحب، وإنما يتعاشر الناس
بالإسلام والأحساب.
فليس
من اللازم أن يكون كل رجل وامرأته
"قيسا وليلى" حبا وغراما،
وعواطف مشبوبة ولعلهما لو كانا
كذلك لانتهى مصيرهما بغير الزواج،
كما انتهى مصير قيس وليلاه، وحسب
الزوجين أن يتعاشرا بالمعروف في ظل
الدين والأخلاق، أو الإسلام
والأحساب كما قال الفاروق رضي الله
عنه وأرضاه