س: لماذا جمع
النبي صلى الله عليه وسلم بين تسع
زوجات في حين حرم على المسلمين
الزواج بأكثر من أربع؟ أرجو إيضاح
الحكمة في هذه القضية، فقد علمتم
ما يروجه المبشرون والمستشرقون
حولها من شبهات وأكاذيب.
ج : جاء الإسلام
والزواج بأكثر من واحدة ليس له
ضابط ولا قيد ولا شرط، فللرجل أن
يتزوج من النساء ما شاء، وكان ذلك
في الأمم قديما. حتى يروى في أسفار
العهد القديم: أن داود كان له مائة
امرأة، وسليمان كان عنده سبعمائة
امرأة، وثلاثمائة سرية.
فلما
جاء الإسلام أبطل الزواج بأكثر من
أربعة، وكان الرجل إذا أسلم وعنده
أكثر من أربع نسوة، قال له النبي
صلى الله عليه وسلم: "اختر منهن
أربعا وطلق سائرهن" فلا يبقى على
ذمته أكثر من أربع نسوة.
فالعدد
محدود بأربع نسوة لا يزيد...
والشرط
الذي لا بد من توفره في التعدد هو
العدل بين نسائه، وإلا اقتصر على
الواحدة كما قال تعالى: (فإن خفتم
ألا تعدلوا فواحدة).
هذا
ما جاء به الإسلام.
ولكن
الله عز وجل خص النبي صلى الله عليه
وسلم بشيء دون المؤمنين وهو أن
أباح له ما عنده من الزوجات اللاتي
تزوجهن، ولم يوجب عليه أن يطلقهن
ولا أن يستبدل بهن من أزواج يبقين
في ذمته، ولا يزيد عليهن، ولا يبدل
واحدة بأخرى: (لا يحل لك النساء من
بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو
أعجبك حسنهن، إلا ما ملكت يمينك).
والسر
في ذلك أن زوجات النبي صلى الله
عليه وسلم لهن مكانة خاصة، وحرمة
متميزة فقد اعتبرهن القرآن
"أمهات" للمؤمنين جميعا. وقال
تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم وأزواجه أمهاتهم).
ومن
فروع هذه الأمومة الروحية
للمؤمنين أن الله حرم عليهن الزواج
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول
الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده
أبدا) ومعنى هذا أن التي طلقها
النبي صلى الله عليه وسلم ستظل
محرومة طول حياتها من الزواج
بغيره، مع حرمانها من الانتساب إلى
بيت النبوة. وهذا يعتبر عقوبة لها
على ذنب لم تجنه يداها.
ثم
لو تصورنا أنه أمر باختيار أربع من
نسائه التسع، وتطليق الباقي، لكان
اختيار الأربع منهن لأمومة
المؤمنين، وحرمان الخمس الأخريات
من هذا الشرف، أمرا في غاية
الصعوبة والحرج. فمن من هؤلاء
الفضليات يحكم عليهم بالإبعاد من
الأسرة النبوية، ويسحب منها هذا
الشرف الذي اكتسبته؟
لهذا
اقتضت الحكمة الإلهية أن يبقين
جميعا زوجات له، خصوصية للرسول
الكريم. واستثناء من القاعدة (إن
الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء
والله واسع عليم).
أما
الزواج من هؤلاء التسع من الأصل،
لماذا كان؟ فسر ذلك معلوم. وحكمته
لم تعد خافية. فإن هذه الزيجات التي
أتمها النبي صلى الله عليه وسلم
كلها ليست لأي غرض مما يتقول
المتقولون ويروج المستشرقون
والمبشرون من إفك وكذب على هذا
النبي العظيم. لم تكن الشهوة ولا
الناحية الجنسية هي التي دفعت
النبي عليه الصلاة والسلام أن
يتزوج واحدة من هؤلاء. ولو كان عند
هذا النبي العظيم ما يقال، وما
يفتري الأفاكون الدجالون عليه،
لما رأيناه وهو في شرخ شبابه وفي
عنفوان حياته ومقتبل عمره يتزوج
امرأة تكبره بخمسة عشر عاما. فقد
كان في الخامسة والعشرين وتزوج
خديجة في سن الأربعين. وقد تزوجت من
قبله مرتين. ولها أولاد من غيره،
وعاش مع هذه المرأة الكبيرة شبابه
كله أسعد ما يكون الأزواج، حتى سمى
العام الذي ماتت فيه "عام
الحزن"، وظل يثني عليها حتى بعد
موتها، ويذكرها بكل حب وتقدير، حتى
غارت منها -وهي في قبرها- عائشة رضي
الله عنها.
وبعد
الثالثة والخمسين من عمره عليه
الصلاة والسلام أي بعد أن توفيت
خديجة وبعد الهجرة بدأ النبي صلى
الله عليه وسلم يتزوج نساءه
الأخريات، فتزوج سودة بنت زمعة وهي
امرأة كبيرة، لتكون ربة بيته.
ثم
أراد أن يوثق الصلة بينه وبين
صديقه ورفيقه أبي بكر (ثاني اثنين
إذ هما في الغار) فتزوج ابنته
عائشة، وكانت صغيرة لا تشتهى ولكن
تطييبا لنفس أبي بكر.
ثم
رأى أن أبا بكر وعمر وزيرا رسول
الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن
يكونا لديه بمنزلة واحدة في ذلك،
فتزوج حفصة بنت عمر، كما كان من قبل
قد زوج علي بن أبي طالب ابنته
فاطمة، وعثمان بن عفان ابنته رقية
ثم ابنته أم كلثوم.
وحفصة
ابنة عمر كانت ثيبا، ولم تكن على
نصيب من الجمال أو الحسن. وكذلك أم
سلمة، تزوجها ثيبا، حيث مات زوجها
أبو سلمة وكانت تظن زوجته أنه ليس
هناك من هو أفضل من أبي سلمة… إذ
هاجرت معه، وأوذي كلاهما من أجل
الإسلام، وأصابها ما أصابها. وكان
زوجها قد علمها مما سمع من النبي
صلى الله عليه وسلم أن تقول حين
تصيبها مصيبة: إنا لله وإنا إليه
راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي،
وأخلفني خيرا منها.
وحين
قالت ذلك بعد وفاة زوجها، تساءلت
في نفسها: من يكون من الناس خيرا من
أبي سلمة؟! ولكن الله عز وجل عوضها
خيرا منه، وهو محمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم. خطبها ليجبر
مصيبتها ويجبر كسرها، ويعوضها عن
زوجها بعد أن هاجرت وتركت أهلها
وعادتهم من أجل الإسلام.
وكذلك
تزوج النبي صلى الله عليه وسلم
جويرية بنت الحارث ليسلم قومها.
ويرغبهم في دين الله. وذلك أن
الصحابة بعد أن أخذوا السبايا في
غزوة بني المصطلق وجويرية منهم،
علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم
قد تزوج منها، فأعتقوا من عندهم من
إماء ومن سبايا، لأنهم أصبحوا
أصهار النبي عليه الصلاة والسلام
ومثلهم لا يسترقون. فكل واحدة من
تلك الزوجات لها حكمة.
وهذه
أم حبيبة بنت أبي سفيان هاجرت مع
زوجها إلى الحبشة، وكتب الله
الشقاء على هذا الرجل فارتد هناك...
هذه
المرأة وهي بنت أبي سفيان، الذي
كان يناوئ المسلمين على رأس
المشركين تركت أباها وآثرت الهجرة
مع زوجها فرارا بدينها، ثم يكون من
أمر زوجها ما يكون، وتجد نفسها
وحيدة في الغربة… فماذا يفعل
النبي عليه الصلاة والسلام هل
يتركها دون رعاية وعناية؟ لا… بل
قام بنفسه ليجبر خاطرها ويهدئ من
روعها… فأرسل إلى النجاشي يوكله
عن نفسه في زواجها ويصدقها عنه،
وتزوجها وبينه وبينها بحار وقفار…
جبرا لحالتها في مثل تلك الغربة…
وحكمة أخرى نذكرها، وهي: أن زواج
النبي صلى الله عليه وسلم من ابنة
أبي سفيان يرجى أن يكون له أثر طيب
في نفس أبي سفيان، قد يكفكف من
عداوته، ويخفف من غلوائه في محاربة
النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن
ربطت بينهما هذه المصاهرة الجديدة.
كل
نسائه، لو بحثنا وراء زواجه منهن،
لوجدنا أن هناك حكمة هدف إليها
النبي صلى الله عليه وسلم من زواجه
بكل واحدة منهن جميعا. فلم يتزوج
لشهوة، ولا للذة، ولا لرغبة
دنيوية، ولكن لحكم ولمصالح،
وليربط الناس بهذا الدين. وبخاصة
أن للمصاهرة وللعصبية قيمة كبيرة
في بلاد العرب، ولها تأثير وأهمية.
ولذا أراد عليه الصلاة والسلام أن
يجمع هؤلاء ويرغبهم في الإسلام،
ويربطهم بهذا الدين، ويحل مشكلات
اجتماعية وإنسانية كثيرة بهذا
الزواج.
ثم
لتكون نساؤه عليه الصلاة والسلام
أمهات المؤمنين، ومعلمات الأمة في
الأمور الأسرية والنسائية من
بعده… يروين عنه حياته البيتية
للناس، حتى أخص الخصائص، إذ أنه
ليس في حياته أسرار تخفى عن الناس.
ليس
في التاريخ واحد إلا له أسرار
يخفيها، ولكن النبي عليه صلاة الله
وسلامه يقول: "حدثوا عني…"
تعليما للأمة وإرشادا لها.
وهناك
حكم لا يتسع المقام لشرحها
وتفصيلها، من أبرزها وأهمها: أنه
عليه الصلاة والسلام قدوة حسنة
للمسلمين في كل ما يتصل بهذه
الحياة، سواء كان من أمور الدين أو
الدنيا… ومن جملة ذلك معاملة
الرجل لزوجه وأهل بيته.
فالمسلم
يرى قدوته الصالحة في رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا كان زوجا
لامرأة ثيب، أو بكر، أو تكبره في
السن أو تصغره، أو كانت جميلة أو
غير جميلة، أو كانت عربية أو غير
عربية، أو كانت بنت صديقه أو بنت
عدوه.
كل
هذه الصور من العلائق الزوجية
يجدها الإنسان في حياة النبي محمد
صلى الله عليه وسلم على أكمل وأفضل
وأجمل صورة.
فهو
قدوة لكل زوج، في حسن العشرة،
والتعامل بالمعروف، مع زوجته
الواحدة، أو مع أكثر من واحدة…
ومهما كانت تلك الزوجة، فلن يعدم
زوجها الإرشاد القويم إلى حسن
معاشرتها في حياة النبي صلى الله
عليه وسلم الزوجية.
ولعل
هذه الحكمة من أجل الحكم التي
تتجلى في تعدد الزوجات نبينا محمد
صلوات الله وسلامه عليه