<blockquote>
س: كان من نصيبي
أن أتزوج برجل يشرب الخمر، وافق
أبي على الزواج منه ووافقت أنا
الأخرى، دون أن يهمنا السؤال عن
دينه وأخلاقه وسلوكه، فقد غرنا منه
أنه ذو ثروة ونفوذ، مع أني متعلمة
إلى درجة لا بأس بها.
والمهم أنني الآن
ذات أولاد منه، وهو رغم مضي السنين
لايزال على حاله. وكلما نصحته سبني
أو سخر مني، وربما تلفظ بالطلاق
غير مبال بما يقول لأن الخمر تكون
تلعب برأسه.
وكنت أظن أن ما يصدر
عنه من طلاق لا قيمة له، لأنه غائب
الوعي بمنزلة المجنون، ولكن بعض
الناس قالوا لي أخيرا: إنك غلطانة
وأن طلاقه واقع وإن كان سكران،
لأنه ضيع عقله باختياره وإرادته،
فعوقب على ذلك بوقوع طلاقه، وبما
أن الطلاق تكرر مرات عديدة منه فقد
انفصل ما بيني وبينه نهائيا.
وهذا معناه خراب
بيتي وتشتيت شمل أسرتي، وتفريق
بيني وبين أولادي، وتركهم مع أب لا
يحسن رعايتهم.
فما قولكم في هذه
القضية؟ وهل هذا الذي قالوه هو حكم
الشرع القاطع في ذلك أم ماذا ترون؟
ج : هناك اتجاهان
في الفقه الإسلامي من قديم:
الأول: يميل إلى
التوسع في إيقاع الطلاق، حتى وجد
من يقول بإيقاع طلاق المعتوه، ومن
يوقع طلاق المكره، والمخطئ
والناسي والهازل، والغضبان أيا
كان غضبه، وحتى قال بعضهم من طلق
امرأته في نفسه طلقت عليه وإن لم
يتلفظ بكلمة، فلا عجب أن يوجد من
يقول بوقوع طلاق السكران، مادام
سكره باختياره.
الثاني: يميل إلى
التضييق في إيقاع الطلاق. فلا يقع
الطلاق إلا مع تمام الوعي به
والقصد إليه مع شروط أخرى.
ومن
أصحاب هذا الاتجاه من المتقدمين
الإمام البخاري صاحب الصحيح فقد
عقد بابا في جامعه، ترجمه بقوله:
باب الطلاق في الإغلاق والمكره
(الإكراه) والسكران والمجنون
وأمرهما، والغلط والنسيان في
الطلاق والشرك وغيره.. ومراده: أن
الطلاق لا يقع في هذه المواطن كلها.
لأن الحكم إنما يتوجه على العاقل
المختار العامد الذاكر. وذكر لذلك
أدلة منها:
</blockquote>
حديث:
"إنما الأعمال بالنيات وإنما
لكل امرئ ما نوى" وغير العاقل
المختار -كالمجنون والسكران
وأشباههما- لا نية له فيما يقول
أو يفعل. وكذلك الغالط والناسي،
والذي يكره على الشيء. (كما قال
الحافظ).
أن
النبي صلى الله عليه وسلم لم
يؤخذ حمزة على فعله وقوله -حينما
سكر- فعقر بعيري ابن أخيه علي.
فلما لامه النبي صلى الله عليه
وسلم قال: وهل أنتم إلا عبيد
لأبي؟ وهي كلمة لو قالها صاحيا
لأفضت به إلى الكفر. ولكن عرف
النبي صلى الله عليه وسلم أنه
ثمل، فلم يصنع به شيئا. فدل هذا
على أن السكران لا يؤاخذ بما يقع
منه في حال سكره من طلاق وغيره..
ما
جاء عن عثمان أنه قال: "ليس
لمجنون ولا لسكران طلاق". رواه
البخاري معلقا. وهو تأييد لما
جاء في قصة حمزة.
<blockquote>
ووصله
ابن أبي شيبة عن الزهري قال: قال
رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقت
امرأتي وأنا سكران. فكان رأي عمر بن
عبد العزيز مع رأينا: أن يجلده
ويفرق بينه وبين امرأته. حتى يحدثه
أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه أنه
قال: ليس على المجنون ولا على
السكران طلاق. فقال عمر: تأمرونني
وهذا يحدثني عن عثمان؟ فجلده ورد
إليه امرأته.
</blockquote>
ما
رواه البخاري معلقا عن ابن عباس:
"أن طلاق السكران والمستكره
ليس بجائز" أي بواقع إذ لا عقل
للسكران ولا اختيار للمستكره،
قال ابن حجر ووصله عنه ابن أبي
شيبة وسعيد بن منصور بلفظ:
"ليس لسكران ولا مضطهد
طلاق" والمضطهد: المغلوب
المقهور.
ما
جاء عن ابن عباس أيضا أنه قال:
"الطلاق عن وطر، والعتاق ما
أريد به وجه الله. والوطر الحاجة.
أي عن غرض من المطلق في وقوعه.
والسكران لا وطر له، لأنه يهذي
بما لا يعرف".
ما
جاء عن علي: "كل الطلاق جائز
إلا طلاق المعتوه" والمعتوه:
الناقص العقل، فيدخل فيه الطفل
والمجنون والسكران، قال الحافظ:
والجمهور على عدم اعتبار ما يصدر
منه.
<blockquote>
هذا
ما استدل به الإمام البخاري لعدم
وقوع طلاق السكران، وإلى هذا ذهب
جماعة من أئمة السلف. منهم أبو
الشعثاء وعطاء، وطاووس، وعكرمة،
والقاسم، وعمر بن عبد العزيز ذكره
عنهم ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة،
وبه قال ربيعة والليث وإسحاق
والمزنى واختاره الطحاوي، واحتج
بأنهم أجمعوا على أن طلاق المعتوه
لا يقع. قال: والسكران معتوه بسكره.
(نقل ذلك الحافظ في الفتح جـ11، ص 308
ط الحلبي).
وهذا
القول هو الذي رجع إليه الإمام
أحمد أخيرا. فقد روى عنه عبد الملك
الميموني قوله: قد كنت أقول: إن
طلاق السكران يجوز (أي يقع) حتى
تبينته، فغلب على أن لا يجوز
طلاقه، لأنه لو أقر لم يلزمه، ولو
باع لم يجز بيعه. قال: وألزمه
الجناية، وما كان غير ذلك فلا
يلزمه.
قال
ابن القيم: هو اختيار الطحاوي وأبي
الحسن الكرخي (من الحنفية) وإمام
الحرمين (من الشافعية) وشيخ
الإسلام ابن تيمية (من الحنابلة)
وأحد قولي الشافعي.
وقال
بوقوع طلاق السكران طائفة من
التابعين كسعيد بن المسيب والحسن
وإبراهيم والزهري والشعبي، وبه
قال الأوزاعي والثوري ومالك وأبو
حنيفة وعن الشافعي قولان، المصحح
منهما وقوعه. وقال ابن المرابط: إذا
تيقنا ذهاب عقل السكران لم يلزمه
طلاق، وإلا لزمه، وقد جعل الله حد
السكر الذي تبطل به الصلاة ألا
يعلم ما يقول.
قال
ابن حجر: وهذا التفضيل لا يأباه من
يقول بعدم طلاقه. أهـ.
وفيه
نظر سنذكره.
واستدل
من قال بوقوع طلاق السكران وصحة
تصرفاته عموما بجملة أمور أهمها
مأخذان:
الأول: إن هذا
عقوبة له على ما جناه باختياره
وإرادته.
وضعف
ابن تيمية هذا المأخذ.
</blockquote>
<blockquote>
(أ) بأن الشريعة لم
تعاقب أحدا بهذا الجنس من إيقاع
الطلاق أو عدم إيقاعه.
</blockquote>
<blockquote>
(ب) ولأن في هذا من
الضرر على زوجته البريئة وغيرها
-كالأولاد إن كان له منها أولاد- ما
لا يجوز، فإنه لا يجوز أن يعاقب
الشخص بذنب غيره.
</blockquote>
<blockquote>
(ج) ولأن السكران
عقوبته ما جاءت به الشريعة من
الجلد وغيره، فعقوبته بغير ذلك
تغيير لحدود الشريعة.
</blockquote>
الثاني: أن حكم
التكليف جار عليه، ليس كالمجنون أو
النائم الذي رفع عنهما القلم، وعبر
عن ذلك بعضهم بأنه عاص بفعله لم يزل
عنه الخطاب بذلك ولا الإثم، لأنه
يؤمر بقضاء الصلوات وغيرها مما وجب
عليه قبل وقوعه في السكر أو فيه.
وأجاب
عن ذلك الطحاوي من أئمة الحنفية
بأن أحكام فاقد العقل لا يختلف بين
أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو
من جهة غيره. إذ لا فرق بين من عجز
عن القيام في الصلاة بسبب من قبل
الله أو من قبل نفسه. كمن كسر رجل
نفسه، فإنه يسقط عنه فرض القيام.
يعني
أنه يكون آثما بإضراره نفسه، ولكن
هذا لا ينفي الأحكام المترتبة على
عجزه الواقع بالفعل، ومثل ذلك لو
شرب شيئا أدى إلى جنونه، فإنه يكون
آثما بشربه في ساعة وعيه، ولكن لا
يمنع من ترتب أحكام المجنون عليه.
وكذلك
قال الإمام ابن قدامة الحنبلي: لو
ضربت امرأة بطنها فنفست سقطت عنها
الصلاة، ولو ضرب رأسه فجن سقط
التكليف.
واستدل
شيخ الإسلام ابن تيمية على عدم صحة
تصرفات السكران -ومنها وقوع
الطلاق- بوجوه:
أحدها: ما رواه
مسلم في صحيحه من حديث جابر بن
سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم
أمر باستنكاه ماعز بن مالك، حين
أقر عنده بالزنى، ومعنى استنكاهه:
شم رائحة فمه، ليعلم هل به سكر أم
لا. ومقتضى هذا أنه لو كان به سكر،
لم يعتبر إقراره.
الثاني: أن عبادته
كالصلاة لا تصح بالنص والإجماع فقد
قال تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم
سكارى حتى تعلموا ما تقولون) وكل من
بطلت عبادته لعدم عقله، فبطلان
عقوده وتصرفاته أولى وأحرى. إذ قد
تصح عبادة من لا يصح تصرفه لنقص
عقله كالصبي والمحجور عليه لسفه.
الثالث: أن جميع
الأقوال والعقود مشروطة بوجود
التمييز والعقل، فمن لا تمييز له
ولا عقل، ليس لكلامه في الشرع
اعتبار أصلا.
وهذا
معلوم بالعقل، مع تقرير الشارع له.
الرابع: أن العقود
وغيرها من التصرفات مشروطة
بالقصد، كما في الحديث: "إنما
الأعمال بالنيات…" فكل لفظ صدر
بغير قصد من المتكلم، لسهو وسبق
لسان أو عدم عقل، فإنه لا يترتب
عليه حكم.
وإذا
أضيفت هذه الأدلة إلى ما نقلناه من
قبل عن الإمام البخاري تبين لنا
بوضوح أن المذهب الصحيح الذي يشهد
له القرآن والسنة وقول اثنين من
الصحابة لا يعرف لهما مخالف من وجه
صحيح -عثمان وابن عباس- وتؤيده أصول
الشرع وقواعده الكلية: أن طلاق
السكران لا يقع، لأن العلم
والتمييز والقصد معدوم فيه.
بقي
هنا شيء أختم به هذه الفتوى، وهو
حقيقة السكر ما هي، فقد أفهم ما
حكاه الحافظ عن ابن المرابط: أن
السكران من زال عقله، وعدم تمييزه
بالكلية، وليس ذلك بلازم عند
الأكثرين كما قال ابن القيم. بل قد
قال الإمام أحمد وغيره: إنه هو الذي
يخلط في كلامه ولا يعرف رداءه من
رداء غيره، وفعله من فعل غيره.
قال
ابن القيم: والسنة الصريحة الصحيحة
تدل عليه، فإن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر أن يستنكه من أقر بالزنى،
مع أنه حاضر العقل والذهن، يتكلم
بكلام مفهوم ومنتظم، صحيح الحركة.
ومع هذا فجوز النبي صلى الله عليه
وسلم أن يكون به سكر يحول بينه وبين
كمال عقله وعلمه، فأمر باستنكاهه.
بعد
هذا كله نطمئن الأخت المسلمة
السائلة إلى أن ما صدر عن زوجها من
طلاق في حال سكره ونشوته غير معتبر
في نظر الشرع، سائلين الله أن يتوب
على الزوج العاصي، وأن يعين الزوجة
المؤمنة في محنتها. وأن يوفق أولى
الأمر في بلاد الإسلام لمنع أم
الخبائث ومعاقبة من شربها أو أعان
عليها بوجه من الوجوه ومنه العون
وبه التوفيق