خطبة جمعة عن نعمة المطر ووجوب شكر الله تعالى عليها ( فلاتنسونا من صالح الدعاء )
(الخطبة الأولى)
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون، أوصيكم ونفسي بوصية الله لكم، ولمن كان قبلكم تقوى الله جل جلاله، فهي وصيته
لخلقه
الأولين والآخرين، يقول سبحانه: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ
الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإياكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ) [النساء:131].
فاتقوا الله يا عباد الله، اجعلوا بينكم وبين عذاب ربكم وقاية، بفعل أوامره، والبعد عن ما نهى عنه، فهو سبحانه
القائل:
{ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ
تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران:102].
اسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من عباده المتقين، الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون.
أيها الأخوة، من النعم التي ينعم بها الرب جل جلاله، على عباده، ما أنعم به علينا في هذه الأيام،
نعمة المطر، فإنزال المطر نعمة من أعظم وأجل نعم الله عز وجل، كيف لا، وقد أشاد الله بها في كتابه، وذكرها
في سياق الامتنان على عباده، أسمعوا ما قال جل جلاله عن هذه النعمة: قال: { يَـأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِى
جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ
السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ
مِنَ الثَّمَرتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21، 22].
ففي هذه الآيات، يأمر جل جلاله خلقه من الأنس والجن، بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ويذكرهم بأنه هو
الذي خلقهم، وهو الذي أوجدهم، وهو الذي جعل لهم الأرض مهدا كالفراش، وجعل لهم السماء بناء،
ثم ذكرهذه نعمة، نعمة إنزال المطر فقال: { وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء } فيالها من نعمة عظيمة، ومنة كريمة.
ومما يدل على عظم قدر هذه النعمة، أن الله عز وجل سماها بالغيث، وجعلها مظهرا من مظاهر رحمته،
يقول سبحانه: { وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ }
وفي سورة الأنبياء يقول: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَـوتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَـهُمَا
وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنبياء:30].
يقول ابن عباس : كانت السماوات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت،
فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات.
أيها الأخوة المؤمنون، ومما يدل على عظم نعمة المطر، الأوصاف التي ذكر الله في كتابه،
فأحيانا يصف الله المطر بالبركة، وأحيانا يصفه بالطهر، وأحيانا بأنه سبب للحياة،
ونحو هذا من الصفات التي لا تليق إلا بهذه النعمة العظيمة، يقول سبحانه:
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَـرَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } [ق:9]،
ويقول: { وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَـحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ
رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً } [الفرقان:48]،
ويقول:
{ وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَآء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [النحل:65]،
وغير ذلك من الآيات. فالبركة والطهر وأحياء الأرض في هذا المطر يا عباد الله.
أيها الأخوة المؤمنون، إننا ـ والله ـ بحاجة لشكر الله عز وجل في كل وقت وفي كل حين،
وعلى كل نعمة ينعم بها الله جل جلاله، وخاصة في هذه الأيام، فمن واجب الله علينا أن نشكره،
فقد سقى البلاد والعباد، وأنزل هذا الماء الذي جعله سبب حياتنا،
فمنه نشرب، ومنه نسقي حرثنا وأشجارنا، منه ـ أيها الأخوة ـ وبسببه ينمو الزرع ويدر الضرع بإذن الله تعالى.
أيها الأخوة، إننا إذا لم نشكر الله على نعمة المطر، فإننا لن ننتفع منه، أسمعوها صريحة:
إننا إذا لم نشكر الله على نعمة المطر، فإننا لن ننتفع منه، بل سوف يجعله الله أجاجا غير صالح للاستعمال،
يقول جل جلاله: { أَفَرَءيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ
لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } [المعارج:68-70]،
معنى أجاجا أي مالحا لا ينتفع به.
إن الله عز وجل ـ والذي نفسي بيده ـ قادر أن يجعله أجاجا، قادر أن يجعله مالحا،
لا ينبت زرعا، ولا يسقي إنسانا، ولا ينتفع به حيوان ولا غيره.
يستطيع الله، أن يجعل هذا الماء بعيدا، لا أحد يستطيع الوصول إليه:
{ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ } [الملك:30].
فلنشكر الله يا عباد الله، نشكره على هذه النعمة التي خصنا بها وأنزلها رحمة بنا.
وليكن شكرنا شكرا حقيقيا، نشكره بألسنتنا، ونشكره بأعمالنا، نعمل شكرا له سبحانه،
أليس هو القائل: { اعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ } [سبأ:13].
ولنحذر من كفران النعم، فإن النعم إذا شكرت زادت ودامت ونفع الله بها، و
أما إذا كفرت فإنها تزول وتنتهي، نسأل الله السلامة.
فالله الله يا عباد الله، اجعلوا ألسنتكم تلهج بشكر الله، وجوارحكم تعمل بطاعة الله شكرا لله.
اسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره، وحسن عبادته إنه سميع مجيب.
اللهم أيقضنا من رقدة الغافلين،
وأغثنا بالإيمان واليقين
واجعلنا من عبادك الصالحين
وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل
لي ولكم من كل ذنب
فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
(الخطبة الثانية)
الحمد لله كما أمر، والشكر له وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الشافع المشفع في المحشر،
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، السادة الغرر، وسلم تسليما كثيرا ما رأت عين وامتد نظر.
أما بعد:
فيا
أيها المسلمون، يقول ربكم تعالى: { وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَـحَ
بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء
طَهُوراً
لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا
أَنْعَـماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَـهُ بَيْنَهُمْ
لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } [الفرقان:48-50].
يقول أبن كثير في تفسيره: وقوله تعالى: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَـهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ } . أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه،
وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقا،
والتي وراءها لم يُنزل فيها قطرة من ماء، وله في ذلك الحجة البالغة، والحكمة القاطعة.
قال ابن عباس وابن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ: ليس عام بأكثر مطرا من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء،
ثم قرأ هذه الآية: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَـهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورا)
أي ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة، أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات،
أو ليذكر من منع المطر إنما أصابه ذلك بذنب أصابه، فيقلع عما هو فيه،
فالذنوب والمعاصي هي سبب كل شر، وهي طريق كل بلاء.
فاالله الله يا عباد الله، لنحذر الذنوب والمعاصي.
أيها الأخوة المؤمنون، وعليكم بكثرة الاستغفار
والتوبة إلى الله تعالى، والإيمان بالله والتقوى.
اسأل الله لي ولكم علما نافعا،
وعملا خالصا وسلامة دائمة.