خطبة جمعة عن منكرات الأفراح(للشيخ/عبدالله بن عبدالعزيزالتميمي)حفظه الله تعالى
الخطبة الأولى
إن
مما يعمر القلب بالفرحة والنفس بالسعادة ما يكثر في هذه الأيام من الأعراس
التي تحصل بها المصالح العظيمة التي شُرع من أجلها النكاح؛ كغض البصر
وإحصان الفرج وإعفاف النفس وحفظ الجنس الإنساني؛ إلى غير ذلك من المصالح
التي يعلمها الناس والتي لا يعلمونها.
لكن ما يحز في النفس ويدمي القلب
ويفطر الكبد ما أحيطت به كثير من حفلات الأعراس من المعاصي والمنكرات التي
أوشك ألا يخلو منها عرس، بل عن بعض حفلات الأعراس منذ أن تبدأ وإلى أن
تنتهي وهي في سلسلة متصلة من المنكرات لا تنفك؛ بل ربما كان في المنكر
الواحد إثمان أو ثلاثة؛ فربما جمع إلى حرمته في ذاته حرمة التشبه بالكفار
ونحوها؛ فهل أَمِن هؤلاء العقوبة؟ ولقد أصبحت كثير من تلك المعاصي مسلَّمات
لا يمكن أن يقوم عرس بدونها، وهذا والله منكر جسيم؛ بل وخطر عظيم، إذ لا
تستغرب بعد هذا أن يظهر لنا جيل يظن مشروعية مثل هذه المنكرات لكثرتها
وفشوها واستسلام كثير من الناس لها.
إن الإنسان ليعجب أشد العجب: كيف
يبدأ الإنسان حياته الزوجية بالمعاصي؟! وكيف يرجو السعادة والبركة؛ وهو
يستهل مشوار الزوجية بالذنوب؟! وكيف يفرح والد أو والدة بزواج ابنهم أو
ابنتهم ويتمنون لهم التوفيق والهناء على أشكال وألوان من المنكرات
والآثام؟! ولذلك فلا تعجب بعدئذ حين تكثر حالات الطلاق على إثر زواجات بدأت
هكذا..
لقد ضاقت المقامات عن ذكر تلك المنكرات لكثرتها وتطورها إلى صور
أشد خطورة وإثماً؛ مع وضوح النصوص في حرمة كثير منها؛ وانتشار فتاوى
العلماء في كل مكان؛ وتحذير الناصحين المخلصين من مغبة مثل هذه المحرمات؛
ولكن لا حياة لمن تنادي؛ إلا من رحم الله وقليل ما هم.
ومن خلال وقفة سريعة مع كثير من هذه الحفلات فإنك ترى قاسماً مشتركاً بينها من القبائح؛ ثم تنفرد بعد ذلك كل واحدة بقبائح مستقلة.
فمن
تلك القبائح: الألبسة المحرمة للنساء والبنات والأطفال؛ كالضيقة والرقيقة
الشفافة والمفتوحة والمشقوقة والعارية.. فأين هؤلاء وأولياؤهن عن حديث
النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما قط:
(وذكر منهما) ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت
المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا
وكذا". وفي رواية لأحمد: "العنوهن فإنهن ملعونات". قال العلماء: ومعنى
(كاسيات عاريات): أن تكتسي المرأة ما لا يسترها، فهي كاسية؛ وفي الحقيقة
عارية؛ مثل من تلبس الثوب الرقيق أو الضيق أو القصير.
ويتعذر كثير ممن
يقع في هذا؛ أن هذا اللباس إنما يكون بين النساء فقط، ويجاب عن مثل هذه
العلة العليلة أن المرأة لا يجوز لها أن تظهر للمرأة إلا ما تبديه لمحارمها
من الرجال مما جرت العادة بظهوره كالوجه والنحر واليدين والقدمين وما أشبه
ذلك؛ بدليل قوله تعالى: "ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء
بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني
أخواتهن أو نسائهن … الآية"، ويضاف إلى هذا أن المرأة من فطرتها وخُلقها
الحياء، وهذا الصنيع ينافي حياءها، فوجب عليها ألا تقربه.
ومن القبائح التي عجت بها حفلات الأعراس: الغناء، الذي يجمع من المنكرات: آلات اللهو، والكلمات الفاحشة الساقطة، والرقص…
وكل واحدة من هذه منكر بذاته.. فمن الذي أباح لهؤلاء الغناء؛ والله تعالى قد حرمه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما
الرقص فقد أفتى فيه العلماء الأجلاء؛ من ذلك ما أفتى به الشيخ الإمام ابن
عثيمين رحمه الله حين قال: وأما الرقص من النساء فقبيح لا نفتي بجوازه لما
بلغنا من الأحداث التي تقع بين النساء بسببه.اهـ.
ومن تلك الأحداث إصابة
كثير من النساء بالعين؛ وتلبس الجن بهذه الراقصة؛ وإثارة الفتنة بين
النساء أنفسهن، إضافة إلى أن كثيراً من صور الرقص تخدش حياء المرأة وربما
أزالته، وإنه لمن المؤسف حقاً أن تربى بنات المسلمين على مثل هذه العادات
التي تقتل الحياء وتذبح الفضيلة..
إن المرأة حينما تفقد حياءها تتدرج من
سيء إلى أسوأ، وتهبط من رذيلة إلى أرذل، ولا تزال تهوي حتى تنحدر إلى
الدركات السفلى، وصدق عمر رضي الله عنه حين يقول: "من قل حياؤه قل ورعه،
ومن قل ورعه مات قلبه".
فالحائل بين كثير من العباد والمحرمات هو الحياء؛ فبقوة الحياء يضعف ارتكاب العبد لهذه المحرمات، ولله در القائل:
ورب قبيحة ما حال بيني وبين ركوبها إلا الحياء
فكان هو الدواء لها ولكن إذا ذهب الحياء فلا دواء
ومن
تلك المنكرات أيضاً: خروج المرأة متعطرة متطيبة، وهذا فيه وعيد شديد
وتحذير أكيد لا يقبل الجدل ولا المناقشة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية" رواه
النسائي وحسنه الألباني.
إذا كان من خرجت إلى بيت من بيوت الله لأداء
شعيرة من شعائر الله تمنع من مس الطيب؛ وإن مسته وجب عليها أن ترجع فتزيله،
فكيف بمن خرجت متعطرة متطيبة إلى تلك الحفلات لتجد في طريقها من يُفتن بها
وبعطرها، بدءاً من السائق وانتهاءً بحارس القصر.
ومن المنكرات العظيمة
التي لها عواقب وخيمة في الدنيا قبل الآخرة: استعمال التصوير داخل حفلات
الأعراس.. وكم من المشاكل وقعت ؟! وكم من المصائب حصلت بسبب التصوير؟! قد
تقع صورة هذه المرأة وهي في أبهى حلتها وأكمل زينتها في أيدي أناس من سقط
المتاع لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة؛ فماذا تظن مثل هؤلاء أن يفعلوا
بها؟
ومن القبائح: زف العروسين أمام النساء، يدخل الزوج بكامل زينته عند
النساء بكامل زينتهن؛ فيجلس على منصة مرتفعة بجوار زوجته أمام النساء؛
وهذا كله من المنكر العظيم؛ وقد صدرت فيه الفتاوى بتحريمه لأنه يجمع مفاسد
عديدة؛ ومن مفاسده العاجلة أنه ربما وقعت عين الزوج على امرأة فتعلق قلبه
بها وزهد في زوجته ولما يدخل بها، وما يصحب هذا المشهد من تقبيل الرجل
امرأته أمام النساء؛ وتصويرهما؛ ثم لو قُدِّر ألا يستمر عقد النكاح هذا؛
فأين تذهب تلك الصور؟
ومن المحرمات العظيمة التأخر إلى ساعة متأخرة من الليل؛ الأمر الذي يترتب عليه ترك صلاة الفجر أو تأخيرها عن وقتها المحدد شرعاً.
هذه
بعض المحرمات التي تحدث أثناء العرس، ناهيك عما يحدث قبله من عدم التخير
في الأزواج والزوجات والمغالاة في المهور وإثقال كاهل الزوج بالمصاريف
والنفقات وحفلات الدبلة والشبكة؛ وما يحدث أثناء العرس من الإسراف والتبذير
في الولائم والعادات المستوردة من الكفار في مظهر العرس والعروس وزفتها..
فأسألكم بالله.. لو كانت كل هذه المنكرات في برنامج يوم واحد؛ هل كان يرجو
من ورائها البركة والتوفيق؟! فكيف بزوج أو ولي يتمنى أن تكون حياته أو حياة
موليته موفقة مباركة هنيئة؛ وقد بدأت بكل هذه المنكرات؟!
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين؛ وأن يردهم إلى الحق رداً جميلاً.
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
لقد
كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح أكمل الهدي وأقومه؛ دعا إلى
تزويج الكفء ذي الدين والخلق واختيار الزوجة ذات الدين، ودعا إلى النظر إلى
ما يرغِّب في المخطوبة لأنه أحرى أن يؤدم بينهما.
وإذا تزوج إنسان دعا
له قائلاً: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما بخير، وقال عليه الصلاة
والسلام: "أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال"يعني الدف، وشرع مع ذلك
الكلام العفيف الذي لا فحش فيه ولا بذاءة، فعن عائشة رضي الله عنها أنها
زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة،
ما كان معكم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو". رواه البخاري، وفي رواية:
"فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟" قلت: تقول ماذا؟ قال "تقول:
أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمراء ما سمنت عذاريكم
وأولم
صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير. رواه البخاري، ولما بنى
بصفية بين المدينة وخيبر دعا الناس إلى وليمته، قال أنس: فما كان فيها من
خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت فألقى عليها التمر
والأقط والسمن. متفق عليه. ودعا عبدالرحمن بن عوف حين تزوج إلى أن يولم؛
فقال: "أولم ولو بشاة". وكان صداقه صلى الله عليه وسلم لنسائه خمسمئة درهم؛
وقال: "خير الصداق أيسره".
هذا هو هدي أكمل الخلق وأفضلهم صلوات الله وسلامه عليه؛ فقارنوا –يا رعاكم الله- بينه وبين حال كثير من الناس اليوم.
فليتق
الله الآباء والأولياء وليخشوا من عقوبة ما قد يرتكبونه أو يرخصون فيه من
تلك المنكرات؛ ولا يفسدوا فرحتهم بأولادهم بالحرام التي أغنى الله عنه
بالحلال.
وأخيراً.. فهذه رسالة إلى من دعي لحضور مثل تلك الحفلات
الموبوءة، سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله سؤالاً نصه: هل يجوز للمرأة أن
تحضر حفل الزواج إذا كان يحدث فيه بعض المنكرات كتشغيل الموسيقى والرقص على
ذلك والتعري في اللباس، وهل يأثم الولي كالزوج والأب إذا أذن لها بحضور
هذا الحفل؟ وما الحكم إذا كانت الدعوة من قريب يُخشى من عدم إجابة دعوته
حصول هجر وقطيعة رحم؟.فأجاب قدس الله روحه: إذا كانت الأعراس على هذا الوجه
الذي ذُكر في السؤال فإنه لا يجوز للإنسان أن يجيب الدعوة؛ إلا إذا كان
قادراً على إزالة المنكر فإنه يجب عليه أن يجيب لإزالة المنكر، وأما إذا
كان عاجزاً فإنه لا يجوز أن يحضر هذه الأفراح التي تشتمل على هذه المنكرات
أو بعضها، ولا يحل لأحد أن يأذن لزوجته أو ابنته أو من له ولاية عليها
بحضور هذه الحفلات وإذا قال أخشى أن يحصل بيني وبين أقاربي شيء من الجفاء
والقطيعة فنقول فليحصل هذا لأنهم هم لما عصوا الله عز وجل في هذه الأفراح
التي هي على هذا الوجه لم يكن لهم نصيب من إجابة الدعوة، وإذا قاطعوا
فالإثم عليهم وليس على من هجر هذه الأفراح شيء من الإثم. اهـ.