خطبة مهمة في إصلاح ذات البين(للشيخ/محمد العريفي)
الخطبة الأولى:
الحمد
لله الذي أمرنا بالاعتصام بحبله المتين، ونهانا عن الفرقة والاختلاف في
الدين، وذكّرنا نعمة علينا إذ كنا أعداءً فألّف بين قلوبنا فأصبحنا بنعمته
إخواناً، وكنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا منها. الحمد لله الذي لم يجعل
لأحد على أحد فضلاً إلاّ بالتقوى فقال عز شأنه: ( يا أيها الناس إنا
خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله
أتقـــاكم ). نحمد الله سبحانه على نعمة الإيمان إذ جعلنا بها أخوة
فقال:(إنما المؤمنون أخوة ) ونثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره ونخلع
ونترك من يكفره، نرجو رحمنه ونخشى عذابه إن عذابه الجد بالكفار ملحق. وأشهد
أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له جل عن الشبيه وعن المثيل والنظر (ليس
كمثله شيء وهو السميع البصير) وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه
وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أيها الأخوة المؤمنون: إن
لهذه الشريعة خصائص وسمات جليلة، وقواعد كلية لا يمكن أن ترى فيها حكماً من
الأحكام أو مسألة من المسائل تخرج عنها، بل لا يمكن أن تنتقص هذه القواعد
في جزئية من جزئيات الشريعة أو مقاصدها وإن من مقاصد هذه الشريعة وسمات هذا
الدين ربط الأواصر وتوثيق العرى وتقوية العلائق بين المؤمنين والحض على
التعاون على البر والتقوى والتآلف والمحبة. ولكننا جهلاً منا لديننا وبعداً
عن الإقامة الدقيقة لشعائر هذا الدين ضيعنا كثيراً من هذه السمات والخصائص
فلا نكاد نراها إلاّ بين طائفة قليلة من المسلمين ، وحل محلها ضدها.
والأمر جلي واضح فإن غابت سنة فمكانها بدعة، وإن غاب المعروف ظهر المنكر
وإن ضعف الحق قوي الباطل. معاشر المؤمنين: إن مما يدمي القلوب أن ترى بين
المؤمنين فرقة واختلافاً، وعصبية جاهلية وليت الأمر وقف عند هذا بل جاوزه
إلى أن أصبح بعض المسلمين لا يرى الأخوة إلاّ في إطار بلده أو قبيلته أو
عائلته. أيها المؤمنون:- إن فساداً في ذات البين قد حلّ بالمسلمين، ففرق
شملهم وشتت جماعتهم، حتى وقعت فيها الحالقة. روى الإمام الترمذي رحمه الله
حدثنا وقال أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي
الجعد عن أم الدرداء رضي الله عنها عن أبي الدرداءرضي الله عنه قال: قال
رسو الله صلى الله عليه وسلم:" ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة
والصدقة " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال:" إصلاح ذات البين فإن فساد ذات
البين هي الحالقة " وروى الترمذي أيضاً وسنده إلى الزبير بن العوام رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"دبّ إليكم داء الأمم قبلكم
الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، والذي
نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أنبئكم
بما يثبت ذلك لكم أفشوا السلام بينكم "وفي خطبة الوداع قال لأصحابه: " إن
الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم ".
إن فساد ذات البين سواء كان بين الرجل وامرأته أو أخ وأخيه أو ابن وأبيه،
أو قريب وقريبه أو جار وجاره، إن فساد ذات البين حالقة، ولا تحلق الشعر
كالمرأة التي تحلق شعرها أو تشق جيبها عن المصيبة وإنما هي حالقة لأمر أعظم
إنها حالقة للدين والعياذ بالله تنتزعه من أصوله. وكل كسر فإن الدين يجبره
وما لكسر قناة الدين جبران وإن من أعظم القربات إلى الله تعالى : إصلاح
ذات البين. نعم ينبغي تتبع هذه الحالقة لإزالتها وربط القلوب وإزالة ما
فيها من شحناء وتباغض قال الله عز وجل:(إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين
أخويكم ) وقال ( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) وقال(والصلح خير ) ولنا
في رسول الله أسوة حسنة ... أخرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كان
بينهم شر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم في أُناس معه ..
وروى البخاري في موضع آخر عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن أهل قباء
اقتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال "
اذهبوا بنا نصلح بينهم " وأخرج البخاري في الأدب المفرد: عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال : والذي نفسي بيده لن تدخلوا الجنة حتى تسلموا حتى تحابوا
وأفشوا السلام بينكم تحابوا وإياكم والبغضاء فإنها هي الحالقة لا أقول لكم
تحلق الشعر ولكن تحلق الدين". وروى الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال :" كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه
الشمس تعدل بين الاثنين صدقة أي تصلح بينهما بالعدل " .. وقال صلى الله
عليه وسلم " سيصيب أمتي داء الأمم: الأشر والبطر والتكاثر والتشاحن في
الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي" أخرجه الحاكم .. وإن من المسلمين
من يرى هذه القضية من القضايا الجانبية العرضية التي لا تستحق أن يفرد لها
الكلام ويشخص لها البصر، وهذا تساهل بخطرها فإن هذه القلوب إذا أصلحت
وسلمت من نيران البغضاء والعداوة والتشاحن وأصبحت نفوسنا خيرة إذا رأت
موحّداً هشت إليه وبشت واطمأنت قبل أن تعرف جنسيته أو قبليته ... ولعظم هذه
المسألة قال صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في
جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم " رواه مسلم عن جابر .. "لا يحل لمسلم
أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي بيدأ
بالسلام " متفق عليه. "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق
ثلاث فمات دخل النار " أخرجه أبو داود. اللهم أصلح ذات بيننا واهدنا سبل
الرشاد، ووفقنا واغفرلنا إنك على كل شيي قدير. أقول قولي هذا ... " لا يحل
يكون لمسلم أن يهجر مسلماً فوق ثلاثة، فإذا لقيه سلم عليه ثلاث مرات كل ذلك
لا يرد عليه فقد باء بإثمه " رواه أبو داود أما إذا كان الهجر بسبب بغي أو
عدوان أو كانت الصلة تجر ظلماً وإثماً والقطيعة تدفع هذه الشرور، فإن هذا
ليس من الهجر الممنوع ما دام أن الهجر كان لما يرضي الله عز وجل. ولقد هجر
النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من خيار الصحابة لما تخلفوا عن ركب الجهاد
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الهجر الجائز هجر الزوجة لتأديبها
:(واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم
فلا تبغوا عليهن سبيلاً )وبوب البخاري في صحيحه "باب ما يجوز من الهجران
لمن عصى" ، قال ابن حجر: أراد بهذه الترجمة بيان الهجران الجائز لأن عموم
النهي بخصوص بمن لم يكن لهجره سبب مشروع". أيها الأحبة في الله:- ولأن
الشريعة جاءت لتجعل المسلمين صفاً واحداً أمام أعداء الله، نهت عن كل ما
يصدع في جوار هذا الصف. فقال صلى الله عليه وسلم:" لا تباغضوا ولا تقاطعوا
ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله " متفق
عليه ولو بحثنا عن أسباب فساد ذات البين التي أورثت الحقد والقطيعة بين
الناس لوجدنا أن من أكبر أسبابها سوء الظن بالمسلمين. قال الله عز وجل :(
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم)وإن الظن لا
يغني من الحق شيئاً. قال صلى الله عليه وسلم :" إياكم والظن فإن الظن أكذب
الحديث ". وقال عمر:" لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءاً وأنت تجد
لها في الخير محملاً ". ولو طبق المسلم ذلك لما وقع بينه وبين أحد شحناء أو
تباغض ولكن إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم فالحذر
الحذر من سوء الظن بالولد أو الزوجة أو الجار أو المسلمين عامة. وإن سوء
الظن يجر إلى التجسس، والتجسس سبب من أسباب فساد ذات البين قال صلى الله
عليه وسلم :" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولاتجسسوا ولا تحسسوا ولا
تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً،
ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك " متفق عليه. وإن من أسباب
فساد ذات البين: تصديق الشائعات، وعدم التثبت مما ينقل من الأخبار. وهم
نقلوا عني الذي لم أفُهْ به وما آفة الأخبار إلاّ رواتها حينما نجد مسلماً
من شدة شغفه بالكلام يتلقاه بلسانه قبل أذنه ( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون
بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم)وبعض الناس
قد ينقل إليك شيئاً أصله صحيح ولكن الزيادات والحواشي والتحليلات التي
يذكرها غير صحيحة، وما أكثر الذين فسدت بينهم ذات البين بسبب النقولات
والأخبار، يأتيه رجل فيقول قال قبله فلان كذا وكذا فيزرع في قلبه حقداً
وضغينة. ولو أنه قال له: يئس ما قلت ولا أظن بأخي إلاّ خيراً ، ثم استقبل
القبلة وقال اللهم اغفر لي ولأخي وتجاوز عني وعنه.فهذا خلق الصالحين ذوي
المروءات. قال صلى الله عليه وسلم:" تجد شر الناس يوم القيامة ذا الوجهين
الذي يأتي هؤلاء يوجه وهؤلاء بوجه " رواه البخاري. وقد قال تعالى:(ولا تطع
كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم)وإن من أسباب هذه الحالقة فساد ذات البين
المنة بالعطايا فإنها من أسباب الفسـاد{يا أيهاالذين آمنوا لا تبطلوا
صدقاتكم بالمن والأذى}والمقصود أصلاً من العطية هو توثيق القلوب وتصفية
النفوس، فإذا وقع ذلك من العطية والامتنان وقعت الحالقة. وعن أبي ذر رضي
الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم
القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" قال أبو ذر:"خابوا
وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف
الكاذب " رواه مسلم" وفقني الله وإياكم لكل خير وجمع قلوبنا جميعاً على
طاعته وجعلنا إخوة في الله متحابين متآلفين.
الخطبة الثانية :
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه وأشهد ألا إله
إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا رب لنا سواه، وأشهد أن سيدنا
ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن
أقام أمره واجتنب نهيه ودعا بدعوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون:- وإن من أسباب الحالقة: التناجي: قال صلى الله عليه
وسلم :" إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث حتى تختلطوا بالناس من
أجل أن ذلك يحزنه " متفق عليه. ومن أسبابها تساهل بعض الناس بالتفحش في
كلامه سباً ولعناً وتحقيراً لإخوانه في المجالس وعلى رؤوس الناس. وتأملوا
قول الله عز وجل(يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله
وأصلحوا ذات بينكم ). وانظروا إلى هذا الإعجاز والجلال. الصحابة يسألون بعد
اختلاف وشجار بينهم عن الأنفال وهو ما يحصل عليه من الغنيمة ونحوها فجاء
الخطاب ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ). ولم يجيء تفصيل
الأنفال إلاّ في آخر السورة(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه
وللرسول ...)الآية . وأخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه
قال:"سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت، حين
اختلفنا في النفل، فساءت أخلاقنا فانتزعه لله من بين أيدينا وجعله إلى
رسوله صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين". وعن ابن عباس رضي الله
عنهماقال، لما التقى الصفان قال صلى الله عليه وسلم:" من صنع كذا وكذا فله
من النفل كذا وكذا" قال : فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات فلم يبرحوها
فلما فتح الله عليهم قال الكبار المشيخه كنا ردءاً لكم وقالوا: جعله رسول
الله لنا فأنزل الله تعالى( يسألونك)ولم يرد تقسيم الأنفال في صدر السورة
وإنما وردت القضية الأعظم وجاء النهي عن الحالقة : ( فاتقوا الله وأصلحوا
ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين )وفي سبيل إصلاح ذات البين
جاز الكذب، قال صلى الله عليه وسلم:"ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس فقال
خيراً أو نما خيراً" . رواه مسلم . ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين
أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر
بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ) . ألا فليعلم المصرون على الحالقة
والتدابر والتشاحن أنهم يفوتهم مغفرة وفضل عظيم وقال صلى الله عليه وسلم:"
تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر فيهما لكل عبد لا يشرك
بالله شيئاً إلاّ رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى
يصطلحا " رواه مسلم .. وإن مما يزيل هذه الحالقة التبسم في وجه المسلم
والهش والبش في وجوه المسلمين