وقفات مع الصيف (خطبة جمعة) للشيخ عبدالله بن عبدالعزيز التميمي (حفظه الله تعالى)
وقفات مع الصيف (خطبة جمعة)
(الخطبة الأولى)
إن
من حكمة الله جل وعلا أن جعل أيام العام متقلبة بين الحر والبرد فتاة ترى
الناس يصطلون بحرارة الشمس ويكتوون بلهيبها، وهم يحاولون اتقاء ذلك بالتخفف
من اللباس وكثرة استخدام المياه والاستفادة من الوسائل الحديثة التي أنعم
الله بها على عباده.
وتارة تراهم يرتعدون من زمهرير الشتاء؛ ويحاولون التحصن منه بالثقيل من اللباس؛ إضافة إلى وسائل التدفئة القديمة والحديثة.
وإن
العاقل اللبيب ليتأمل ويتفكر في مثل هذه الأحوال؛ فيتحصل له من ذلك لزوم
شكر نعمة الله؛ حين أنعم عليه بما لم يكن لغيره من الناس.
أيها المسلمون. وبما أننا نعيش في هذه الأيام أشد أوقات الصيف حرارة؛ فإنه حريٌّ بنا أن نقف معها بعض الوقفات:
ففي
هذه الأيام تتنوع وسائل الناس في التخفيف من شدة الحر؛ حتى إن بعضهم ليفرّ
إلى بعض البلاد المعتدلة أو الباردة إلى حين انقضاء الصيف.
لكن هل تأمل الناس؛ كلُّ الناس؛ وتفكروا في يوم لا يستطيع النجاة فيه من حر الشمس أحد؛ إلا من استثنى الله سبحانه وتعالى؟!
هل
تفكروا وهم لا يطيقون حر الشمس التي تبعد عنهم اليوم أكثر من تسعين مليون
ميل؛ كيف سيطيقون حرّها حين لا يكون بينهم وبينها إلا ميل واحد؟!
هل تفكروا حين يضيق بعضهم ذرعاً بيسير العرق؛ كيف ينجون منه حين يبلغ منهم مبلغاً يتفاوت بحسب أعمالهم؟! بل ربما ألجم بعضهم إلجاماً.
كل
تلك الأمور –عباد الله- بعض من أهوال يوم عظيم؛ يوم يقوم الناس لرب
العالمين: يوم تكوّر فيه الشمس ويخسف القمر؛ وتنكدر النجوم وتتناثر؛ وتتفجر
البحار فتكون ناراً تسجّر؛ وتنفطر السماوات وتنشق؛ وتدكّ الأرض؛ وتُنسف
الجبال فتكون كثيباً مهيلاً؛ وتسعّر النيران؛ وتُزلف للمؤمنين الجنان..
إنه
يوم عبوس قمطرير مشهود؛ يوم القيامة؛ وأوان الحسرة والندامة؛ يوم الجزاء
والحساب والبعث والنشور؛ هو الحاقة والقارعة؛ والغاشية والواقعة؛ يوم
الصاخة والطامة الكبرى؛ يوم تبلى السرائر؛ يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً؛ لكل
امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه..
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث المقداد
بن عمرو t: أن رسول الله e قال: "تُدنى الشمس من الخلق حتى تكون منهم
كمقدار ميل –قال سليم بن عامر الراوي عن المقداد: فوالله ما أدري ما يعني
بالميل؟! أمسافة الأرض أم الميل الذي تُكحل به العين- فيكون الناس على قدر
أعمالهم في العرق؛ فمنهم من يكون إلى كعبيه؛ ومنهم من يكون إلى ركبتيه؛
ومنهم من يكون إلى حقويه؛ ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً" وأشار رسول الله e
بيده إلى فيه.
وروى الشيخان من حديث أبي هريرة t: أن رسول الله e قال:
"إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعاً؛ وإنه ليبلغ إلى أفواه
الناس أو آذانهم".
وعن ابن عمر y قال: سمعت رسول الله e يقول: "يوم يقوم الناس لرب العالمين: يوم يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه" رواه الشيخان.
مواقف
عظيمة وأهوال جسيمة، لكن مع ذلك كله؛ فثَمّة أقوام لا يشكون من ذلك شيئاً؛
بل هم في ظل ظليل ممدود؛ في ظل الله جل وعلا؛ يوم لا ظل إلا ظله.. روى
الشيخان من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله e: "سَبعةٌ يظِلّهم الله
تعالى في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلاّ ظلُّه: إمامٌ عادِل، وشابٌّ نشَأ في
عبادةِ الله، ورجلٌ قلبُه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله
اجتَمَعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجلٌ دعَته امرأةٌ ذاتُ منصِب وجمالٍ فقال:
إني أخاف الله، ورجلٌ تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلَم شمالُه ما تنفِق
يمينه، ورجلٌ ذكَر الله خالِيًا ففاضَت عيناه" والجامع الذي يربط بين هؤلاء
السبعة: خشية الله ومراقبته في السر والعلن؛ وتقديم محابّ الله على شهوات
النفس وهواها.
أيها المسلمون. وهل تذكّر الناس حين يحاولون الفرار من حرّ الصيف؛ كيف سيفرّون من حر نار جهنم أعاذنا الله منها؟!
أو
ما علم الناس أن أشد ما يجدون من الحر إنما هو نفس من أنفاس جهنم؟! روى
الشيخان من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول الله e: "اشتكت النار إلى ربها
فقالت: يا رب؛ أكل بعضي بعضاً. فجعل لها نفسين: نفس في الشتاء ونفس في
الصيف. فأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها؛ وأشد ما تجدون من الحر من
سمومها".
وروى الجماعة عن أبي سعيد t قال: قال رسول الله e: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم".
نار
حرّها شديد؛ وقعرها بعيد؛ ومقامعها حديد.. يقول النبي e: "ناركم التي
توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم". قالوا: يا رسول الله؛ وإن كانت
لكافية! قال: "فإنها فُضّلت بتسعة وستين جزءاً؛ كلها مثل حرها". رواه
الشيخان.
وروى مسلم من حديث أبي هريرة t قال: كنا عند رسول الله e إذ
سمع وجبة؛ فقال: "أتدرون ما هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: "هذاحجر
رُمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار إلى الآن حتى انتهى
إلى قعرها".
نار تُنسي أهلها كل نعيم ذاقوه قبلها؛ روى مسلم في صحيحه من
حديث أنس t قال: قال رسول الله e: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا يوم القيامة من
أهل النار فيُصبغ في النار صبغة؛ ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟
هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب...الحديث"
طعام أهلها الضريع
والزقوم؛ وشرابهم الصديد والحميم؛ وظلهم اليحموم.. روى الترمذي وابن ماجه
من حديث ابن عباس y: أن رسول الله e قال: "لو أن قطرة من الزقوم قُطرت في
الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم؛ فكيف بمن يكون طعامه؟".
"إن شجرة
الزقوم* طعام الأثيم* كالمهل يغلي في البطون* كغلي الحميم"، "لا يذوقون
فيها برداً ولا شراباً* إلا حميماً وغساقاً* جزاء وفاقاً".
لقد أخبر
النبي e -كما في الصحيحين- أن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة: رجل في
أخمص قدميه جمرتان –وفي لفظ: له نعلان من نار- يغلي منهما دماغه، ما يرى أن
أحداً أشد منه عذاباً؛ وإنه لأهونهم عذاباً".
اللهم أجرنا من النار،، اللهم أجرنا من النار،، اللهم أجرنا من النار..
بارك الله لي ولكم..
(الخطبة الثانية)
أيها
المسلمون.. وفي مثل هذه الأيام يكثر استهلاك الناس للمياه وتزداد حاحتهم
إليها أكثر من أي وقت.. فهل يتفكر الناس في هذه النعمة ويقدرونها حق قدرها
ويشكرونها حق شكرها؟
أما علم الناس بأن الذي أجرى لهم هذه المياه بفضله
هو الذي يمنعها منهم أحياناً؛ حتى إن بعضهم ليُضطر إلى الوقوف في طوابير
طويلة أو شراء المياه بأثمان باهظة؟!
أو ما يزال بعض الناس متعلقين بالأسباب المادية؛ تاركين الأسباب الحقيقية التي تسبب ذلك؛ ناسين أو متناسين ذنوبهم وخطاياهم؟!
أليس من تفضل عليهم بالماء؛ هو الذي قال: "قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين"؟!
أليس
الذي أجرى لهم الماء؛ هو القائل: "أفرأيتم الماء الذي تشربون* أأنتم
أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون* لو نشاء جعلنا أجاجاً فلولا تشكرون"؟
أو ليس هو القائل: "وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون"؟
قال
الحافظ ابن كثير: "أي لو شئنا ألا تمطر لفعلنا؛ ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى
السباخ والبراري والبحار والقفار لفعلنا؛ ولو شئنا لجعلناه أجاجاً لا
يُنتفع به لشرب ولا لسقي لفعلنا؛ ولو شئنا لجعلناه لا ينزل في الأرض بل
ينجرّ على وجهها لفعلنا؛ ولو شئنا لجعلناه إذا نزل يغور إلى مدى لا تصلون
إليه ولا تنتفعون به لفعلنا. ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم الماء من السحاب
عذباً فراتاً زلالاً فيُسكنه في الأرض ويسلكه ينابيع في الأرض؛ فيفتح
العيون والأنهار، ويسقي به الزروع والثمار، وتشربون منه ودوابكم وأنعامكم،
وتغتسلون منه وتتطهرون وتتنظفون، فله الحمد والمنة"اهـ.
فهل بعد هذا يظن
ظان من بني الإنسان أن له حولاً أو طولاً في هذه النعمة؟! أيظن أن خزائنها
عنده في الآبار ومحطات تحلية البحار؟. كل ذلك ليس بشيء؛ والله جل وعلا قد
قال: "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم".
والله؛ لو أراد الله لنضبت العيون والآبار وتعطلت محطات تحلية البحار؛ فمن يأتينا بماء معين؟
أيها
المسلمون. ووقفة أخيرة مع الماء؛ نتذكر فيها موقفاً عظيماً من مواقف
القيامة: حين يبلغ العطش من الناس مبلغاً عظيماً؛ يكرم الله نبيه ورسوله
محمداً e في ذلك الموقف العظيم بالحوض الواسع الأرجاء؛ ماؤه أشد بياضاً من
اللبن؛ وأحلى من العسل؛ وريحه أطيب من ريح المسك؛ وكيزانه عدد نجوم السماء،
يصب فيه الماء من نهر الكوثر في الجنة؛ يرد عليه المؤمنون من هذه الأمة
فيسقيهم النبي e منه؛ فمن شرب لم يظمأ بعدها أبداً.
أما من ارتد عن دين
الله؛ أو أحدث فيه مالا يرضاه الله ولم يشرعه رسول الله؛ أو خالف جماعة
المسلمين وفارق سبيلهم؛فهم المطرودون عن الحوض المختلجون دونه.. وكذا يُذاد
عنه الظلمة المسرفون في الجور والبغي؛ والمعلنون بالكبائر المستخفون
بالمعاصي.
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تغنينا بها عن رحمة من سواك. اللهم اسقنا من حوض نبيك شربة لا نظمأ بعدها أبداً..