خطبة عن فضائل مكة المكرمة(البلد الأمين)
(الخطبة الأولى)
أما بعد:
أحبتي في الله: لقد اختار الله نبيه محمداً ليكون خاتم الأنبياء، واختار مكة لتكون البلد الذي يخرج منه هذا الشعاع ليضيء الدنيا، فكان مولده في مكة، وكانت بعثته منها، وبقي فيها يدعو الناس إلى دين الله، فهي بلد الله وحرمه، وهي أم القرى.
ومن حكمة الله سبحانه أن اختار مكة لتكون منطلق خاتم الرسالات السماوية، فيكون لها من الشرف مع الشرف، ومن المكانة مع المكانة التي كانت عليها قبل أن يخلق الله الخلق، ومكة عظمها الله على غيرها من البلاد، وزادها مهابة ورفعة وبراً، ومن تشريف الله لها أن سماها بأسماء عديدة فهي في القرآن مكة وَهُوَ ٱلَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ [الفتح:23].
وهي بكة إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَـٰلَمِينَ فِيهِ ءايَـٰتٌ بَيّـنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً [آل عمران:96]. وهي المسجد الحرام هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح:24]. وهي أم القرى وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وهي البلد لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ [البلد:1].
ومن أسمائها البلد الأمين وَٱلتّينِ وَٱلزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وهذا البلد الأمين) [التين:1-2]. وأضافها سبحانه لنفسه، فقال: طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَـٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ [البقرة:125].
وخصها سبحانه وتعالى بالأمن والأمان والاطمئنان أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67].
وأمن هذا البلد شامل لكل من فيه من إنسان وحيوان ونبات، أخرج البخاري ومسلم: (1353) – واللفظ له – عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله قال: ((إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يُحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضد شوكه، ولا يُنفر صيده، ولا يُلتقط إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها))، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر ؛ فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: ((إلا الإذخر)).
وهي أحب بلاد الله إلى الله وإلى رسوله ، أخرج الترمذي: (9325) بسنده عن رسول الله قال: ((والله، إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت)) [حسن غريب صحيح]. وفي رواية للترمذي: (3926) أن رسول الله قال: ((ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك)).
اللهم اجعل لنا بمكة قراراً، وارزقنا رزقاً حلالاً، وجملنا بالأدب يا أرحم الراحمين.
ومن تشريف الله لها أن شرع الحج إليها، وجعل ذلك الركن الخامس من أركان الإسلام.
ومن تشريف الله لها أن جعلها مهبط وحيه، ومنزل القرآن، ومنبع الإسلام، ففضلُها فضل كبير، وحرمتها عظيمة عند الله تعالى، فحرمة هذا البلد شرعً ودين وطاعة لله ولرسوله إلى قيام الساعة، ولأن مكة حرام فقد اشتُرط الإحرام على من وصلها قاصداً للعمرة أو الحج،
ولهذا جعل الله – تبارك وتعالى – بعضاً من أشهر الحج في الشهر الحرام الذي جعله الله قياماً لعباده يأمنهم من القتال فيه: جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَاماً لّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْىَ وَٱلْقَلَـٰئِدَ [المائدة:97].
فحرمة الحج محاطة بحرم ثلاث: حرمة البلد الحرام، والشهر الحرام، وحرمة نسك الإحرام.
وهكذا عظم الله بلده في قلوب عباده، ولأن مكة حرام فقد حُرم حمل السلاح فيها لغير ضرورة أو حاجة، أخرج مسلم: (1356) بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي يقول: ((لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح))؛ لأن من دخل مكة فهو آمن بأمر الله ورسوله، ويجب على المسلمين تأمينه، لكن من يستحق القتل شرعاً لابد أن يقتل، ومن يستحق العقاب لابد أن يعاقب، وهذا من أسباب الأمان للمسلمين في بيته الحرام وفي كل مكان.
ومن فضل الله على عباده أن ضاعف لهم الحسنات في بلده وحرمه، فالحسنة في مكة أجرها عظيم، أخرج مسلم: (1394) بسنده عن أبي هريرة قال رسول الله : ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام)).
ومع أن الحسنات تضاعف في مكة، فكذلك السيئات تعظم في البلد الحرام، يقول عبد الله بن مسعود : لو أن رجلاً همَّ بقتل مؤمن عند البيت، وهو بعدن، أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم.
وقال مجاهد رحمه الله: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات. وقال الحسن البصري رحمه الله: صوم يوم بمكة بمائة ألف، وصدقة درهم بمكة بمائة ألف، وكل حبة بمائة ألف.
إخوة الإسلام:
فضل مكة عظيم، ولهذا ينبغي أن نعي هذا، وأن نعلم أننا في بلد الله الحرام الذي جعله محرماً إلى قيام الساعة، وأن تكون أعمالنا موافقة لأمر الله وشرعه، وأن نحسن العمل؛ لأن الأجر مضاعف فيها، وأن نشعر الأهل والأبناء بمكانة هذا البلد، وما ينبغي أن يكون عليه أهله، فإن الذين يقدمون من خارج هذه البلاد ينظرون إليكم، أنكم القدوة والأسوة، فأنتم عندهم جيران البيت وأبناء السلف الصالح من هذه الأمة، فالحلال ما فعلتموه، والحرام ما تركتموه،
والحق أن هذه مسئولية عظيمة، قد قصرنا في الاهتمام بها أو رعايتها الرعاية الحقة، والناس في جاهليتهم كانوا للبيت معظمين، أليس من الجدير بأهل الإسلام أن يكونوا أحق بها منهم، فإن الله سائلكم عما منّ به عليكم من مجاورتكم لبيته وإغداقه النعم عليكم من الأمن والأمان والإطعام والخير الكثير، الذي لا نؤدي شكره كما ينبغي.
واعلموا أنكم أهل الحرم وأهل الله، ذكر الأزرقي قال: لما استعمل رسول الله عتاب بن أسيد على مكة قال: ((يا عتاب، أتدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله، فاستوصِ بهم خيراً)) يقولها ثلاثاً.
فاتقوا الله – يا أهل الله – وحققوا في أنفسكم هذا المعنى، وأشعروها أنكم في بلده وعند بيته، فقدروا هذه النعمة، وعظموا شأنها، فأنتم في البلد الحرام، في الشهر الحرام، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لإِيلَـٰفِ قُرَيْشٍ إِيلَـٰفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشّتَاء وَٱلصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [سورة قريش].
اللهم كما مننت علينا بالجوار فمن علينا بالأدب وحسن الأعمال، اللهم ارزقنا كمال الاتباع لسنة حبيبك ، اللهم أحينا على سنته، وتوفنا على ملته، واحشرنا في زمرته،
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
(الخطبة الثانية)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه .وأشهد أن محمدآ عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد:
إخوة الإسلام:
مما ينبغي على أهل البلد الحرام تجاه إخوانهم من الحجاج حسن الوفادة، وإكرامهم، ومساعدتهم، وبذل الإحسان لهم، وتعليمهم ما يحتاجون إليه من أمور الشريعة الإسلامية التي يجهلون أحكامها، كما ينبغي لهم تخفيف المؤونة عليهم بمد يد العون لمحتاجهم، وإطعام جائعهم، والإحسان إليه، فإن أهل الجاهلية في جاهليتهم كانوا يسقون الحجاج الماء مع الزبيب، ويعدون ذلك من مآثرهم،
أفلا يجدر بأهل الإسلام أن يجعلوا ذلك من أعمالهم التي يتقربون بها إلى الله، فينالون عظيم الثواب من الله تعالى، وأن يكونوا متسامحين في المعاملة معهم، ببسط الوجه والشفقة عليهم، وعدم إيذائهم بسباب أو استخفاف أو غير ذلك، فإنهم وفد الله الذي إذا دعوه أجابهم،
فاحذروا – إخوة الإسلام – من الإساءة إليهم، فإن الواحد منا يكرم ضيفه، فكيف بضيف الله، حقه من الإكرام أجل وأعظم، فاحرصوا – رحمكم الله – على ذلك، وأروا الله من أنفسكم خيراً، فالسعيد من وفق لطاعة الله تعالى.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً