أيام في منى وعرفات
ما أحسن الحج إلى بيت الله الحرام، وإجابة
دعوة شيخ الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إذ يقدم الحجاج إلى تلك
البقاع المقدسة راغبين، والعرصات المطهرة ممتثلين، يهتف بهم داعي الشوق
والحنين: هلموا إلى مطاف النبيين، ومتنـزل الملائكة المقربين، ومهوى أفئدة
الصالحين، فوصلوا إلى تلك المزارات العظام الرائعات، حيث يسكبون هنالك
العبرات، ويرجون مغفرة السيئات، ورفعة الدرجات، بالتجاوز عما سلف وكان، من
التقصير في جنب الملك الرحيم الرحمن.
وكان من جملة النعم
الجليلة، والمواهب الجميلة أن يسر الله الطريق إلى الحج في هذا الزمان بعد
أن كان رحلة صعبة محفوفة بالمخاطر العظيمات، مليئة بالعقبات، كثيرة
التبعات، من دخل الحجاز فهو في حكم المفقود، ومن خرج منه فهو مولود، وذلك
ليس على سبيل المبالغة والتهويل بل ما قيل فيه هو أقل من القليل، ويكفي
تصويراً لتلك المخاطر أن عدداً من علماء المسلمين أفتى بسقوط الحج عن
المسلمين الذين يمرون بتلك البوادي المهلكة والأعراب المفسدة، حيث الطريق
غير مأمون والسالك فيه أقرب إلى الهلاك منه إلى سلامة الوصول، لكن الكثرة
الكاثرة من المسلمين لم يلتفتوا إلى تلك الفتاوى، وغامروا بالذهاب إلى ربوع
الطهر والقدس، وهذا يظهر العاطفة العظيمة التي كانت في صدور الحجاج وكيف
كانوا مستعدين لبيع أرواحهم وبذل أموالهم في سبيل رؤية تلك المغاني، وإمتاع
النفوس بتلك المباني، وكان الحاج ينسى تعبه عند رؤية مكة أو المدينة،
ويقبل على تلك المقدسات باكياً مستغفراً، متطهراً تائباً معتبراً، مما كان
له أعظم الأثر في بقاء سلطان الدين في النفوس وبقاء التصورات الإيمانية
العقدية سليمة حية في الأذهان والقلوب، فلا جرم إذاً إن بقي الحجاز منارة
مضيئة، ومتاباً ومثابة للناس خاصة في القرون المتأخرة التي عم فيها العالم
الإسلامي التخلف والجهل والظلام والظلم من أواخر القرن الحادي عشر إلى
القرن الرابع عشر.
هذا وقد من الله علي بالحج مرات عديدة،
وهذا من فضله علي ومنه وتيسيره، وقد شاهدت في حجاتي تلك مشاهد تستحق أن
تذكر وتروى، واستفدت منها من العبر والعظات الشيء الكثير؛ فإني ممن يدور في
تلك العرصات ويعرج على كثير من المخيمات، محاضراً ومرشداً، ومن كان هذا
شأنه فإنه يبصر من الحج ما لا يبصره الملازم لمخيم واحد.
ومما يحضرني من تلك المشاهد، وانطبع في ذهني وقلبي منها هو الآتي وسأسوقه في حلقات، والله المستعان:
في
أيام منى يعتمد بعض القائمين على الحملات إلى شغل وقت الحج بمحاضرات
إيمانية وتربوية، وهذا أمر حسن؛ وذلك لأن الموسم جليل، والنفوس مقبلة،
والعقول مهيأة لتقبل ما يقال ويطرح، فكم من حاج تاب وأقبل على مولاه بعد
الحج، وكم من حاج نزع عن طغيانه وكف عن عدوانه، وكم من حاج حسنت أخلاقه بعد
عسرة، ولانت بعد شدة، وكم من حاج خرج عن المال الحرام، واستقامت منه
الجوارح فكف عن الآثام، والحوادث في هذا الباب كثيرة، والأخبار متواترة.
لكن
بعض القائمين على الحملات يكثرون على الحجاج من المحاضرات فيحشدونها في
سياق واحد متتابع، فلربما استمع الحجاج لأربع أو خمس محاضرات في كل يوم
وليلة، وهذا كثير، وربما جلب لبعض النفوس الملل، نعم إن الوقت جليل،
والزمان عظيم، والمكان قدسي طاهر، والنفوس مهيأة لكن ليس إلى هذا الحد من
الإكثار، ومما أذكره من مواقف الحج اللطيفة أنني جيء بي يوماً إلى حملة بعد
صلاة العشاء، فلما شرعت في الحديث قام رجل ثائراً وقال : اتق الله، نحن
نريد العشاء ونريد النوم وقد أثقلتم علينا بكثرة المحاضرات، فقلت له : وهل
تريدني بكلامك ؟ فقال : نعم، فقلت: إنما أنا ضيف ولا علاقة لي بجدول
المحاضرات، لكن الرجل لم يرض ولم يهدأ إلا بعد حين، مما دفعني لإيجاز
الكلام وانتقاص أطرافه، وخرجت محرجاً من المكان، وما كان ينبغي للإخوة
القائمين على المخيم أن يطيلوا إلى هذا الحد حتى لا يصيبوا الناس بالملل.
ومن
المواقف المحرجة الأخرى أني شرعت في حملة من الحملات في الإجابة على فتاوى
الحجاج ، وصرت آتي بالأحاديث الدالة على المراد: مثل أخرج البخاري عن أبي
هريرة، وأخرج مسلم عن جابر وهكذا، فلما طال الأمر على بعض الحجاج فقام حتى
وقف أمامي فقال: ألم يرو الترمذي عن أبي هريرة أن وقت الطعام قد حان !!
فأحرجت والله وسقط في يدي، واعتذرت مرة أخرى بأن جدول المحاضرات ليس في يدي
وليس لي سلطان عليه، ومن ثم أوجزت وأنهيت ما كنت بدأته وشرعت في إيراده.
ولا
يعني أن ما ووجهت به هو شيء سارٍ في عموم الحجاج، بل أزعم أن أكثر الحجاج
مسرور بتوالي الوعظ عليه، وذلك لأن النفوس في المواسم مهيأة لتقبل ما لا
تتقبله في سائر الأوقات، لكن الضعيف أمير الركب، ولابد من مراعاة سائر
طوائف الحجاج.
ومن الأمور التي أشعر فيها بحرج ما يجري من
اختلاف الفتاوى في المخيم الواحد بحسب المحاضرين واتجاهاتهم الفقهية، وقد
حل بعض القائمين على المخيمات هذه المشكلة بأن جعلوا الفتاوى منوطة بشيخ
المخيم فلا يقدمون للمحاضرين الأسئلة الفقهية، وهذا أمر حسن يقلل الخلاف،
لكن هذا ليس بكائن في كل المخيمات، وكثير من المخيمات ليس فيها شيخ متمكن
مقنع بجودة فتاواه وحسن مأخذه للأدلة الشرعية، وهنا تكمن المشكلة فيأتي
محاضر ما فيُسأل فيجيب، وربما أجاب المحاضر الذي بعده بإجابة مخالفة ولا
يفصل بين الإجابتين سوى ساعتين أو أقل، وهذا يصيب الحجاج بالتشوش والبلبلة،
وكنت أعالج هذا الأمر بمحاولة التبيين للحجاج أن السنة هي كذا وكذا،
والبركة كل البركة باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الحج إلا لذوي
الحاجات والأعذار، أعني أني أحاول قدر الإمكان أن أتجنب سرد الأحكام مجردة
عن سياقها التربوي أو أثرها الإيماني حتى يقتنع الحاج بصواب ما يفعله أو
يتركه، سواء أخذ بالرخصة أو بالعزيمة، ووجدت لهذا أثراً لا بأس به في إزالة
آثار تضارب الفتاوى واختلافها.
وهذا وقد وجدت في صدر شبابي
من بعض العلماء في أثناء إفتائهم عجباً، ولا أنسى يوم ذهبت إلى مخيم أحد
كبار العلماء وقد اجتمع عليه الناس يسألونه، فجاء رجل من المغرب فسأله
فأجابه الشيخ، فقال : يا شيخ لكن مالكاً مذهبه كذا وكذا، فرد عليه الشيخ
بقوله: أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول لي قال مالك، فحار
المغربي ولم يدر ما يقول، وأرى ـ والله أعلم ـ أن رد الشيخ على غير ما كان
ينبغي أن يكون، إذ كان ينبغي له أن يرفق بالعامي ويفهمه ما ذهب إليه من حكم
بغير ما صنع، فإن هذا الجواب من الشيخ كان بعض أعلام السلف يردون به على
من أراد إعلاء مذهب ما ولو كان مخالفاً للسنة، وقد كانوا يردون على طلاب
علم غالباً، أو على عامة قريب عهدهم بالصدر الأول، والزمان غير الزمان، أما
أن يُرد به اليوم على العوام ويلقى على مسامعهم فهذا مما لا ينبغي أن يكون
لأنه يوهم العامي أن منهج مالك وطريقته على خلاف سنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم فكأن مالكاً على طرف نقيض منها، وفي هذا تشويش وخلط على المفتي
أن يتجنبه.
وقد أتيت عند هذا العالم نفسه لأسأله عن مسألة
عرضت لي ـ وقد كان هذا منذ عشرين سنة تقريباً ـ وخلاصة المسألة أني أردت
النـزول قبل اليوم الثاني عشر يوم التعجل ـ لأن عندي رحلة عمل وكنت أعرف
الجواب لكن لم أجترئ على الأخذ به آنذاك فقد كنت في ابتداء الطلب، فسألته
فقال : لا يجوز، فقلت له : يا شيخ لكني الآن لابد لي من النـزول، فإن
قوانين عملنا تشبه القوانين العسكرية، فأجابني بجفاء وحدة غفر الله له: ومن
قال لك أن تأتي إلى الحج !! فقلت : يا شيخ إن المبيت واجب أفلا يجزئ عنه
الدم ؟ فقال لي بجفاء أيضاً: إذا عرفت الجواب فلم تسألني ؟! ففارقته
متحسراً على سوء خلقه ومعاملته، وذلك لأن العالم إذا ساء خلقه قلّت
الاستفادة منه، وضعف اعتماد الناس عليه.