خطبة بعنوان (قيادة المرأة للسيارة وفتاوي العلماء حولها) للشيخ سامي الحمود حفظه الله تعالى
(الخطبة الأولى)
أما بعد .. إننا يوم أن نتحدثَ عن النساء فإننا نتحدث عن نصف الأمة .. بل نتحدث عن الأمة بأسرها لأنه لا يلد النصف الآخر إلا النساء .
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ، إن الله كان عليكم رقيباً)
المرأة .. أم حنونة .. وبنت مصونة .. وزوجة حصونة .. وصدق القائل :
الأم مدرسـةٌ إذا أعددتها *** أعددت شعباً طيـب الأعراق
الأم روض إن تعهده الحيا *** بالرِّي أورق أيمـا إيـراق
الأم أستاذ الأساتذة الألى *** شَغَلَتْ مآثـرُهم مدى الآفاق
ومع تكريم الإسلام للمرأة وحفظه كرامتَها وحقوقَها ، فقد تعرض العالم الإسلامي خلال القرن الماضي للغزو الفكري ، وظهرت دعوات وحركات تحرير المرأة .. تلك الحركات المشبوهة التي ارتبطت بمصالحَ ماديةٍِ وإعلامية ، وتياراتٍ اجتماعيةٍ تعادي الدين والعقائد، وتروّج للإلحاد والإباحية.
ثم تلقى هذه الدعواتِ بعضُ أبناء المسلمين ، ممن استقر في عقولهم أن التقدم العلمي والسباق التقني لن يتحقق إلا على أنقاض الفضيلة والإيمان والالتزام بأحكام الإسلام .
وتلك والله الهزيمة النفسية والانكسار الداخلي ، الذي يفقد الإنسان القدرة على التمييز بين الحق والباطل .
أدعياء تحرير المرأة لا ينفكون عن الدندنة حول قضاياها..والتمسح بهمومها..وسفك دموع التماسيح على حقها المسلوب..وهويتها المفقودة..وكثيراً ما يرددون عباراتٍ براقة ، ومصطلحاتٍ مختزلة.. كقولهم: المرأة نصف المجتمع..نصف المجتمع معطل..المجتمع يتنفس برئة واحدة.
وهذه كلمة حق ناقصة..أريد بها باطل محض..! فالمرأة لم تكن نصف المجتمع الإسلامي.. بل هي المجتمع كله.. وكيف لا تكون المجتمع كله وهي صانعة الرجال..وملهمة الأبطال..والواقفة خلف العظماء.. نعم المرأة هي المجتمع كله.. شريطة أن تؤدي دورها الذي ارتضاه لها مولاها.
يزعم هؤلاء الأدعياء أنهم يدعون إلى تحرير المرأة ، والواقع أنهم يدعون إلى تحرير الوصول إلى المرأة .
والمصيبة أنك لو نظرت في أحوال كثير من هؤلاء الكتاب وجدت أنهم من ذوي الانحراف الفكري أو السلوكي .
ففي قضايا الدين تجد أنهم أعداء كل دعوة خير وداعيها.. وإذا استعرضت كتاباتهم وأحاديثهم ، وجدت أن عدوهم: الحِسبةُ ورجال الهيئة أو العلماء والدعاة والمتدينون .. يتصيدون أخطاءهم .. ويتلمسون هفواتهم بالمجهر.
أيها المؤمنون .. لا يخفى عليكم ما تردد مؤخراً من الدعوة إلى قيادة المرأة للسيارة ، وتقديمِ هذه القضية مقترحاً لمجلس الشورى ، واعتبارِ أن المعارضين لها يمارسون نوعاً من الإرهاب الفكري .
وعلى الرغم من فساد هذه الدعوة الشاذة ، والمفاسدِ المترتبة عليها ، فإن مما يؤسف له أنه قد فرح بها بعض الكتاب ، ووصفوها بالخطوة الجريئة الشجاعة ، حتى إن بعض رسامي ما يسمى بالكاريكاتير تهكموا بالذين يرفضون هذه الفكرة وصوروا اعتراضهم بأنه ضرب من التشدد الذي يرفضه المجتمع .
ونحن في هذا المقام من منبر الفضيلة ، منبر محمد صلى الله عليه وسلم لا نجد بداً ولا عذراً من أن نقول في هذه القضية ما ندين الله تعالى به ، إبراءً للذمة ، ونصحاً للأمة ، وحباً لهذه البلاد ، وحفاظاً على أمنها ، بعيداً عن العنف والتشنج ، أو الخوض في ذوات الأشخاص ، أو الدخول في النوايا والمقاصد .
أيها المؤمنون : يجب أن نعلم أنه من الخطورة والفتنة بالمجتمع أن يفتي في مثل هذه المسائل الحساسة كل من هب ودب ، بل الواجب الرجوع فيها لولاة الأمر من الأمراء والعلماء ، وبهذا تنجو سفينة المجتمع .. قال تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً) .
والذين يستنبطونه هم العلماء الذين تصدر الأمة عن رأيهم .. علماؤنا الراسخون الذين قل أن نجد لهم نظيراً في هذا الزمان، رحم الله الأموات منهم وحفظ الأحياء وبارك فيهم.
وقد أطبقت أقوال علمائنا الكبار وعقلاءِ المجتمع على تحريم قيادة المرأة للسيارة نظراً لما يترتب عليها من مفاسد كثيرة .
قال سماحة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله :((فقد كثر حديث الناس عن قيادة المرأة للسيارة ، ومعلوم أنها تؤدي إلى مفاسد لا تخفى على الداعين إليها ، منها : الخلوة المحرمة بالمرأة ، ومنها : السفور ، ومنها : الاختلاط بالرجال بدون حذر ، ومنها : ارتكاب المحظور الذي من أجله حرمت هذه الأمور ، والشرع المطهر منع الوسائل المؤدية إلى المحرم واعتبرها محرمة ،
وقد أمر الله جل وعلا نساء النبي ونساء المؤمنين بالاستقرار في البيوت ، والحجاب ، وتجنب إظهار الزينة لغير محارمهن لما يؤدي إليه ذلك كله من الإباحية التي تقضي على المجتمع ، قال تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية)) [ثم ساق رحمه الله عدداً من الأدلة] .
وقد ناقش فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله هذه المسألة نقاشاًّ هادئاً شافياً ، ليس بعده مطلب لطالب الحق المتجرد عن الهوى .
فقد سئل الشيخ السؤال التالي : (أرجو توضيح حكم قيادة المرأة للسيارة، وما رأيكم بالقول: إن قيادة المرأة للسيارة أخفُ ضرراً من ركوبها مع السائق الأجنبي؟).
فأجاب الشيخ بما مفاده : الجواب على هذا السؤال ينبني على قاعدتين مشهورتين بين علماء المسلمين:
القاعدة الأولى : أن ما أفضى إلى المحرم فهو محرم.
القاعدة الثانية : أن درء المفاسد - إذا كانت مكافئة للمصالح أو أعظم - مقدمٌ على جلب المصالح.
ثم قال الشيخ (وبناء على هاتين القاعدتين يتبين حكم قيادة المرأة للسيارة . فإن قيادة المرأة للسيارة تتضمن مفاسد كثيرة .
فمن مفاسدها: نزع الحجاب ، لأن قيادة السيارة سيكون بها كشف الوجه الذي هو محل الفتنة ومحط أنظار الرجال) .
وربما يقول قائل: إنه يمكن أن تقود المرأة السيارة بدون نزع الحجاب بأن تتلثمَ المرأة وتلبسَ في عينيها نظارتين سوداوين.
والجواب على ذلك أن يقال: هذا خلاف الواقع من عاشقات قيادة السيارة، واسأل من شاهدهن في البلاد الأخرى، وعلى فرض أنه يمكن تطبيقه في ابتداء الأمر فلن يدوم طويلاً، بل سيتحول - في المدى القريب - إلى ما عليه النساء في البلاد الأخرى .
ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة : نزع الحياء منها، والحياء من الإيمان - كما صح ذلك عن النبي .
ومن مفاسدها: أنها سبب للفتنة في مواقف عديدة:
في الوقوف عند إشارات الطريق. . في الوقوف عند محطات البنزين. . في الوقوف عند نقطة التفتيش. . في الوقوف عند رجال المرور عند التحقيق في مخالفة أو حادث. . في الوقوف لملء إطار السيارة بالهواء .. في الوقوف عند خلل يقع في السيارة في أثناء الطريق .
ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة: كثرة ازدحام الشوارع .
ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة :كثرة الحوادث؛ لأن المرأة بمقتضى طبيعتها أقلُ من الرجل حزماً. وأقصرُ نظراً وأعجزُ قدرة، فإذا داهمها الخطر عجزت عن التصرف.
وأما قول السائل: (وما رأيكم بالقول: إن قيادة المرأة للسيارة أخف ضرراً من ركوبها مع السائق الأجنبي؟ ) فالذي أرى أن كل واحد منهما فيه ضرر، وأحدهما أضر من الثاني من وجه، ولكن ليس هناك ضرورة توجب ارتكاب أحدهما.
قال الشيخ : واعلم أنني بسطت القول في هذا الجواب لما حصل من المعمعة والضجة حول قيادة المرأة للسيارة والضغطِ المكثف على المجتمع السعودي المحافظ على دينه وأخلاقه ليستمريء قيادة المرأة للسيارة ويستسيغَها.
وهذا ليس بعجيب لو وقع من عدو متربص بهذا البلد الذي هو آخرُ معقل للإسلام يريد أعداء الإسلام أن يقضوا عليه، ولكنّ هذا من أعجب العجب إذا وقع من قوم من مواطنينا ومن أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، ويستظلون برايتنا، قوم انبهروا بما عليه دول الكفر من تقدم مادي دنيوي ، فأعجبوا بما هم عليه من أخلاق تحرروا بها من قيود الفضيلة إلى قيود الرذيلة وصاروا كما قال ابن القيم في نونيته:
هربوا من الرق الذي خلقوا له وبلو برق النفس والشيطان
وظن هؤلاء أن دول الكفر وصلوا إلى ما وصلوا إليه من تقدم مادي بسبب تحررهم هذا التحرر؛ وما ذلك إلا لجهلهم أو جهلِ الكثير منهم بأحكام الشريعة وأدلتها الأثرية والنظرية، وما تنطوي عليه من حكم وأسرار تتضمن مصالح الخلق في معاشهم ومعادهم ودفعِ المفاسد .
فنسأل الله تعالى لنا ولهم الهداية والتوفيق لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والآخرة . انتهى ملخص كلام العالم الناصح محمد بن عثيمين رحمه الله .
ألا فليتق الله كل مسلم غيورٍ على دينه ، غيورٍ على هذه البلاد المباركة ، وأمنها ، وصلاح أهلها .
وعلينا جميعاً ، عامةً وخاصة ، أن ننطلق في إصلاح أحوالنا من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم .. ولنعلم أنه لا خيار لنا في ذلك .. (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلالاً مبيناً) .
وأسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويقيَنا شر أنفسنا ، ويهديَنا سبل السلام ، ويجنبَنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن .. إنه جواد كريم .
أقول ماتسمعون وأستغفرالله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فأستغفروه إنه هوالغفور الرحيم
(الخطبة الثانية)
الحمد لله الذي خلق فسوى .. وقدر فهدى .. والصلاة والسلام على عبده المصطفى ، ورسوله المجتبى ، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى .
أما بعد .. فقد ذكر بعض الناس هداهم الله بعض المبررات الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ لقيادة المرأة السيارة ، كقولهم : إن منع المرأة من قيادة السيارة يكلف المجتمعَ مبالغَ مالية تدفع للسائقين المستقدمين ، علاوة على ما يسببه السائقون من كثرة وقوع الحوادث ، وأن المرأة تقود السيارة في الدول الأخرى ولم تتعرض للأذى ... الخ ما ذكروا .
والجواب على هذه الكلام من وجوه :
1) إن من الخطأ الظاهر ما يذكره بعض الناس من المنافع والمبررات لهذا الأمر، لكنهم ينسون أو يتناسون المفاسد المترتبة على هذا الأمر ، وقد قال الله تعالى في الخمر والميسر (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وإثمهما أكبر من نفعهما).
2) إن قياس هذه البلاد على غيرها من البلدان قياس مع الفارق ، فالعاقل يدرك ما تتمتع به هذه البلاد من خصوصية ومحافظة ، ويدرك أحوال مجتمعها ، وما يعيشه نساؤها وشبابها ، فلا يمكن أن يقال فيها ما يقال في غيرها من البلاد .
3) إن قيادة المرأة للسيارة لا تعني بالضرورة إلغاء السائقين، وواقع المرأة في دول الخليج يؤكد ذلك، حيث بقي السائق في كثير من البيوت التي تقود فيها المرأة السيارة .
4) لو سلمنا بأن منع المرأة من قيادة السيارة يكلف المجتمع مبالغ مالية تدفع للسائقين المستقدمين ، فهل خسارة المال أشد من خسارة الأعراض والإخلال بأمن الأسرة والمجتمع ؟
ولله در القائل:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمال
5) إن كثرة وقوع الحوادث لا يدفعها قيادة المرأة للسيارة ، بل ربما تزيدها أضعافاً ، لضعف المرأة وشدة خوفها لاسيما في المواطن المزدحمة أو الخطيرة . وفيما ذكره الله تعالى من قصة ابنتي شعيب اللتين كانتا لا تسقيان حتى يصدر الرعاء أكبرُ شاهد على ضعف المرأة ، ولو كان معها امرأة أخرى ، وأنها لا غنى لها عن الرجل .
6) إن الادعاء بوجود ضوابط لتقنين قيادة المرآة للسيارة يبطله الواقع، وما نراه في الشارع ، وما نعانيه من قيادة الشباب للسيارات ، وتسببهم في المآسي والحوادث خير دليل ذلك.
وأخيراً : هل في عدم قيادة المرأة للسيارة احتقارٌ لها أو حطٌ من قدرها؟ سبحان الله .
من هم الذين لا يقودون السيارة .. بل ويجلسون في الخلف .. ويخصص لهم سائق وسيارة؟
نعم .. إنهم الملوك والرؤساء ، والقادة والأمراء ، والشخصيات الهامة ، وقد شاركتهم المرأة السعودية ..لأنها مكرمة ..أكرمها دينها..وأعزها ورفع شأنها...وجعل والدها وأخاها..وزوجها وابنها يخدمونها.. ويرافقونها.. وستظل المرأة السعودية بإذن الله ، عزيزةً مكرمة ، متى ما حافظت على دينها ، وتمسكت بأخلاقها .
نسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا وولاة أمورنا للبر والتقوى ، ويريَنا وإياهم الحق حقاً ويرزقَنا اتباعه ، ويريَنا الباطل باطلاً ويرزقَنا اجتنابه ، وأن يرد ضالنا إليه رداً جميلاً ، وأن يهدي كل من أراد منا الحق فلم يوفق إليه .
وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية ...