أمام الكعبة
محمد جاد الله يكتب: أمام الكعبة
دمعت عيناه وهو ينظر إلى الكعبة المشرفة، كانت تقف شامخة، كثابت متفرد وكل ما حولها يتحرك كأنه يدور فى فلكها.
عشرات آلاف من الحجيج من كل لون وجنسية وهوية، يسبحون حولها فى غلالة من الإضاءة البيضاء الملائكية.
ولأنه يعلم أن أول دعاء أمامها مستجاب، فقد تأمل قبل سفره طويلاً كى يعد فى
ذهنه أهم دعاء يحتاجه فى الدنيا والآخرة، ومنى نفسه باستجابة له، قبل أن
يبدأ بالطواف ويذوب وسط الطائفين فى البيت الحرام.
وعلى الرغم من أنه اعتمر كثيراً من قبل، إلا أن المشهد المهيب للكعبة فى
وقت الحج ذهب بذهنه تلك المرة، فثبت فى مكانه فوق الدرج المؤدى للصحن وبدا
عليه اضطراباً عظيماً وهو يحاول أن يتذكر الدعاء الذى أعده فلم يستطع.
جلس متأملاًً على الدرج بجسده العارى، الذى لا يستره إلا قطعة كبيرة من
النسيج الأبيض، وتسارعت دقات قلبه عندما حاول أن يتذكر أى شئ عن حياته،
فأجفل وارتاع حينما لم يستطع حتى أن يتذكر بعد جهد مجرد اسمه أو حتى من أين
أتى؟ وكيف أتى؟
مرت أمام عينيه صور لآلاف الوجوه التى ظن أنه قابلها ويعرفها، فتذكر أغلبهم، لكنه لم يتذكر نفسه.
كانت جلسته وهو يرتجف قد طالت، حين جلس إلى جانبه شيخ مهيب الطلعة، ثابت النظرات، شديد سواد العين، يرتدى عباءة سوداء موشاة بخيوط ذهبية، تشبه الكسوة القماشية للكعبة.
بادره الشيخ قائلاً بصوت عميق:
أراقبك منذ فترة طويلة، لم تفعل مثل الآخرين الذين يدخلون إلى الصحن بملابس الإحرام، لم ترفع يدك بالدعاء لربك، لم تقرأ فى كتيب "الدعاء المستجاب" الذى فى يدك، لم تبدأ عمرتك بالطواف كالآخرين.. ماذا ألم بك؟
رد عليه قائلاً بلهفة: أتعرفني؟ هلا ساعدتنى
فى أن أعرف من أنا؟ لا أتذكر أى شئ عن نفسى قبل تلك اللحظة، أبحث فى رأسى
عن أى إجابة فأتذكر فقط أنى نسيت السؤال ذاته.
قال الشيخ: نعم أعرفك.. إنك إنسان من نسل
آدم، مثلك مثل كل من تراهم عينيك فى هذا المكان، لكنك لست كأحد منهم، ولا
أحد منهم مثل الآخر، كل إنسان منكم يحمل كونا صغيرا فى ذاته.
لن تجد ذاتك مرة أخرى إلا بينهم، اذهب وطف وابحث عن الإجابات بنفسك.
ذاب بين الطائفين يدور معهم فى كتلة الأجساد المتلاحمة حول الكعبة، وبدأ فى
عد أشواط الطواف السبعة، وقد تداخلت فى سمعه الأصوات المتعالية بالدعاء
والرجاء بكل اللغات، فسرح محاولاً تفسير ما يسمعه، وشغلته المجموعات التى
تطوف متلاحمة تردد نفس عبارات الدعاء.
دفعته الأجساد بعيداً عن مساره، فبقى بين اقتراب من مركز العبادة وبين بعد،
يتحرك فى مسار بيضاوى الشكل، وقد زكمت الروائح الطيبة أنفه وهو ينظر
ذاهلاً للكعبة، التى ألجمت لسانه هيبتها التى أضفاها ربها عليها.
وكان فى بداية كل شوط يقول لنفسه: يجب أن أمعن فى التركيز حتى أتذكر ما
نسيته عن نفسى، أو حتى كى أستطيع عد الأشواط بدقة كى أنهى ما بدأته.
أحس بيد حانية تربت على كتفه، فإذا بالشيخ المهيب بجانبه يهمس فى أذنه قائلاً:
هل تذكرت؟
هز رأسه بالنفى، فأردف الشيخ قائلاً:
لا تنشغل إلا بنفسك، ابذل وكافح فى التركيز كى تسمع صوت نفسك من داخلك
وتميزه، ولا تلتفت عيناك إلا لمركز عبادتك، وإلا فسوف تستمر فى الطواف إلى
ما لا نهاية.
ألا تعلم أن سبعة هو منتهى العدد فى العربية؟ إنه اللانهائية ذاتها.
ادع الله أن تعرف نفسك أولاً، فلن ينفعك الآن دعاء آخر.
حين دفعته الكتل البشرية بعيداً عن الشيخ المهيب، آثر ألا يشغل فكره بحقيقة
كونه بشراً أم ملكاً كريماً، وأن لا ينشغل إلا بكلماته التى وعاها جيداً.
فاستجمع كل تركيزه ودعا الله مخلصاً أن يعرف نفسه جيداً، ثم سأل نفسه: من أنا؟
فأتاه صوت من أعماقه يقول:أول ما يجب أن
تعرفه عن نفسك: أنك إنسان من نسل آدم، مثلك مثل كل من تراهم عيناك فى هذا
المكان، لكنك لست كأحد منهم، ولا أحد منهم مثل الآخر.
كل منكم هو كون صغير فى ذاته.
شكر الله على إلهامه بالحقيقة البديهية التى نساها كأول ما نسى عن نفسه منذ الصغر.
واستمر فى الطواف والسعى باحثا عن أجوبة لباقى أسئلته.
اللهم أرزقنا بزيارة بيتك الشريف وزيارة رسولك الكريم