رشيد رضا.. رائد العقلانية وعَلم العروبة والإسلام
رشيد رضا.. رائد العقلانية وعَلم العروبة والإسلام
أحمد عزيز
من لا يعرف الشمس في
وضح النهار؟.. من لا يعرف أكبر تلامذة الإمام محمد عبده؟ وخليفته من بعده،
حمل راية الإصلاح والتجديد، وبعث في الأمة روحًا جديدة، هو محمد رشيد بن
علي رضا بن شمس الدين بن بهاء الدين القلموني الحسيني.. يرجع نسبه لآل
البيت، ولد في 27/5/1282هـ في قرية قلمون جنوب طرابلس الشام، وبدأ طلب
العلم بحفظ القرآن والخط والحساب، ثم درس في مدرسة "الرشدية"، وكان
التعليم بها بالتركية، ولكن ما لبث أن تركها بعد سنة ليلتحق بالمدرسة
الوطنية الإسلامية، التي أسسها ويدرس بها شيخه حسين الجسر، ودرس بها سبع
سنوات، أثرت وغيرت في مجرى حياته، وبدأت مرحلة تصوفه.
اُعتبر رشيد رضا، من رواد النهضة والصحوة
الإسلامية المعاصرة، بما له من إسهامات كبيرة في تقويمها، وهو صاحب مدرسة
كبري، تسمي بمدرسة المنار، التي مزجت بين عقلانية جمال الدين الأفغاني
ومحمد عبده، وبين المدرسة النصية، المتمثلة في دعوة الشيخ محمد بن
عبدالوهاب ومدرسة الحديث، ومن هاتين المدرستين بلور رضا فكرته، وعمل علي
تطويرها وإحكامها.
ونجح رشيد رضا بعقلانيته، في تخفيف حدة الخلاف
القائمة، بين أهل الرأي وأهل الحديث، وبين العقلانيين" المعتزلة -
والنصوصيين – السلفيين"، وقد خاطب في كتبه ومصنفاته ومناره، النخبة
الإسلامية، ثم ألقى بهذه البذرة إلي تلميذه الوفي، الإمام الشهيد حسن
البنا.
كان "رحمه الله" متعدد الجوانب والمواهب، فكان
مفكرًا إسلاميًا غيورًا على دينه، وصحفيًا نابهًا، ينشئ مجلة "المنار"،
ذات الأثر العميق في الفكر الإسلامي، وكاتبًا بليغًا في كثير من الصحف،
ومفسرًا نابغًا، ومحدثًا متقنًا، في طليعة محدثي العصر، وأديبًا لغويًا،
وخطيبًا مفوهًا، تهتز له أعواد المنابر، وسياسيًا يشغل نفسه بهموم أمته
وقضاياه، ومربيًا ومعلمًا يبغي التقدم لأمته.
لقاؤه بالشيخ
في الفترة التي كان يتلقى فيها رشيد رضا دروسه
في طرابلس، كان الشيخ محمد عبده، قد نزل بيروت للإقامة بها، وكان محكومًا
عليه بالنفي، بتهمة الاشتراك في الثورة العرابية، وقام بالتدريس في
المدرسة السلطانية ببيروت، وإلقاء دروسه التي جذبت طلبة العلم، بأفكاره
الجديدة ولمحاتة الذكية، وكان الشيخ محمد عبده، قد أعرض عن السياسة، ورأى
في التربية والتعليم، سبيل الإصلاح وطريق الرقي، فركز جهده في هذا
الميدان.
وعلى الرغم من طول المدة، التي مكثها الشيخ محمد
عبده في بيروت، فإن الظروف لم تسمح لرشيد رضا، بالانتقال إلى المدرسة
السلطانية، فالتقى بالأستاذ الإمام مرتين في طرابلس، حين جاء إلى زيارتها؛
تلبية لدعوة كبار رجالها، وتوثقت الصلة بين الرجلين، وازداد تعلق رشيد
رضا بأستاذه، وقوي إيمانه به، وبقدرته على أنه خير من يخلف "جمال الدين
الأفغاني"، في ميدان الإصلاح وإيقاظ الشرق من سباته.
وحاول رشيد رضا، الاتصال بجمال الدين الأفغاني
والالتقاء به، لكن جهوده توقفت، عند حدود تبادل الرسائل وإبداء الإعجاب،
وكان جمال الدين في الأستانة، يعيش تحت رقابة الدولة وبصرها، حتى لقي ربه
سنة (1314هـ = 1897م)، دون أن تتحقق أمنية رشيد رضا في رؤيته، والتلمذة
على يديه.
يقول الشيخ الغزالي، في كتابه "دستور الوحدة
الثقافية بين المسلمين": وقف حسن البنا على منهج محمد عبده، وتلميذه صاحب
المنار الشيخ محمد رشيد رضا، ووقع بينه وبين الأخير حوار مهذب، ومع إعجابه
بالقدرة العلمية للشيخ رشيد، وإفادته منها، فقد أبى التورط فيما تورط
فيه.
ويجلي الشيخ الغزالي اللثام، عن علاقة الإمام
الشهيد حسن البنا رضي الله عنه، بمدرسة المنار في موضع آخر من كتبه، فيقول
في كتابه "علل وأدوية": "إن الرجال الثلاثة: جمال الدين الأفغاني ومحمد
عبده ورشيد رضا، هم قادة الفكر الواعي الذكي في القرن الأخير".
رضا والديمقراطية
كان للسيد رشيد رضا رحمه الله، رؤية باصرة بسبل
النهضة وطرائق التقدم، وكان رحمه الله خبيرا بالفلسفات المعاصرة
والأيدلوجيات الحديثة، ولم يقبلها بالكلية من غير وعي، وكذلك لم يرفضها من
غير تبصر وفهم.
فقد كان رحمه الله، يؤمن بأن الإسلام أتي بالقواعد
الكلية، التي تبين ماهية الحكم الإسلامي، من إقامة العدل، ونشر الأمن،
ورعاية الضعفاء، وعمارة الأرض.. هذه هي وظيفة الحاكم في الأمة، وترك
الجزئيات الدقيقة، كي تتجاوب الأمة مع زمنها، وتتفاعل مع مستجدات عصورها،
وكي يبقى عمل للمجتهدين وأولي الأمر، فيقول صلي الله عليه وسلم "أنتم أدري
بشئون دنياكم".
رضا والعلمانية
كان الشيخ رشيد رضا رحمه الله، من أول علماء
الإسلام، الذين خاضوا المعارك الشرسة ضد التيار العلماني، وأقاموا معارك
فكرية طاحنة، ضد أولئك المتغربين المبشرين، الذين جاءوا مع الاحتلال،
بأفكارهم التي صارت بذرة ومنبتا خصيبا، لنشأة الفكرة العلمانية الملوثة في
أرض أمة الإسلام، والتي لم تعرف الديار الإسلامية من قبل، نظرا لطبيعة
الدين الإسلامي، الذي جاء بالكليات والملامح العامة للحياة بأكملها.
وفي ذلك، كتب المفكر الإسلامي، الدكتور محمد عمارة،
مقالا بعنوان "الشيخ رشيد رضا وأولى المعارك ضد العلمانية"، قال فيه: قبل
صدور "المنار" أواخر القرن التاسع عشر الميلادي سنة 1898م، كانت أوروبا
الاستعمارية – ممثلة في فرنسا- صاحبة العلمانية المتوحشة في بلادها،
والنزعة الصليبية ضد الإسلام، في مستعمراتها المسلمة.
كانت قد نجحت في جعل لبنان، بواسطة مدارس
الإرساليات النصرانية الفرنسية، معمل تفريخ لكتيبة من المثقفين الموارنة،
الذين ضربت عقولهم، وصيغت وجداناتهم، وفق المناهج التغريبية.. المعادية
للحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي.
فلقد كانت رسالة هذه المدارس الفرنسية بلبنان ـ وفق
عبارات القناصل الفرنسيين في بيروت ـ هي تكوين جيش ثقافي، متفان في خدمة
فرنسا والحضارة الأوربية المسيحية، وتأمين سيطرة فرنسا علي منطقة خصبة
ومنتجة، وهي المشرق العربي.
مؤلفاته
بارك الله في عمر الشيخ الجليل، وفي وقته رغم
انشغاله بالمجلة، التي أخذت معظم وقته، وهي بلا شك أعظم أعماله، فقد
استمرت من سنة (1316هـ = 1899م) إلى سنة (1354 = 1935م)، واستغرقت ثلاثة
وثلاثين مجلدًا، ضمت 160 ألف صفحة، فضلاً عن رحلاته التي قام بها إلى
أوروبا والاستانة والهند والحجاز، ومشاركته في ميادين أخرى، من ميادين
العمل الإسلامي.
ومن أهم مؤلفاته "تفسير المنار"، الذي استكمل فيه
ما بدأه شيخه محمد عبده، الذي توقف عند الآية (125) من سورة النساء، وواصل
رشيد رضا تفسيره حتى بلغ سورة يوسف، وحالت وفاته دون إتمام تفسيره، وهو
من أجل التفاسير.
وله أيضًا: الوحي المحمدي، ونداء للجنس اللطيف، وتاريخ الأستاذ الإمام والخلافة، والسنة والشيعة، وحقيقة الربا، ومناسك الحج.
وفاته
كان للشيخ رشيد روابط قوية بالمملكة العربية
السعودية، فسافر بالسيارة إلى السويس، لتوديع الأمير سعود بن عبد العزيز،
وزوده بنصائحه، وعاد في اليوم نفسه، وكان قد سهر أكثر الليل، فلم يتحمل
جسده الواهن مشقة الطريق، ورفض المبيت في السويس للراحة، وأصر على الرجوع،
وكان طول الطريق يقرأ القرآن كعادته، ثم أصابه دوار من ارتجاج السيارة،
وطلب من رفيقيه أن يستريح داخل السيارة، ثم لم يلبث أن خرجت روحه الطاهرة،
في يوم الخميس الموافق (23 من جمادى الأولى 1354هـ ، 22 من أغسطس 1935م)،
وكانت آخر عبارة قالها في تفسيره: "فنسأله تعالى أن يجعل لنا خير حظ منه
بالموت على الإسلام".