المداهنة .. وخطرها على الدعوة والدعاة
المداهنة .. وخطرها على الدعوة والدعاة
المداهنة معناها: المصانعة واللين.
وقد
يكون معناها: إظهار المرء خلاف ما يضمر، كما ذكره ابن منظور في لسان
العرب، وهو ما أشار إليه ابن العربي في أحكام القرآن بقوله: "وحقيقة
الإدهان ؛ إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة، فإن كانت المقاربة باللين
فهي مداهنة، وإن كانت مع سلامة الدين فهي مداراة، أي مدافعة.
وقد تكون المداهنة معاملة للناس بما يحبون من
القول، والثناء عليهم بما ليس فيهم، ولو كانوا على باطل، وقد تحمل بين
طياتها معنى النزلف طلبا لرفعة أو مكانة أو رضا مرغوب أو مرهوب، ويزيد
البلاء حين يكون ذلك على حساب الدين فيمتنع المداهن عن إنكار منكر أو نصرة
مظلوم رعاية لحق فاعل المنكر أو الظالم كما جاء في "التوقيف على مهمات
التعاريف": "المداهنة أن ترى منكراً تقدر على دفعه فلا تدفعه، حفظا لجانب
مرتكبه، أو لقلة مبالاة بالدين".
والذي يظهر من معنى الكلام أن المداهنة تقترب كثيرا من النفاق، وربما كانت كفرا إذا كانت المداهنة لصاحب الكفر كما في قوله تعالى: "ودوا لو تدهن فيدهنون". قال ابن عباس: "ودوا لو تكفر فيكفرون".
فالمداهنة خلق قذر، لا ينحط فيه إلا من خف في العلم وزنه، أو من نشأ نشأة صغار ومهانة.
بين المداهنة والمداراة
وفارق
بين هذا وبين المداراة، فإن المداراة معناها: إظهار الحَسَن في مقابلة
القبيح لاستدعاء الحسن.. مع سلامة الدين. ومنه قوله تعالى: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34)
ومنه أيضا الحديث الذي ورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: (ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة). فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له: يارسول الله، قلت ما قلت: ثم ألنت له في القول؟ فقال:(أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه، أو ودعه الناس، اتقاء فحشه.
وعلى مثل ذلك يحمل قول أبي الدرداء رضي الله عنه : إنا لنكشر (نبتسم) في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم.
قال ابن مفلح: وقول أبي الدرداء هذا ليس فيه موافقة على محرم ولا مداهنة في كلام، وإنما طلاقة وجه خاصة للمصلحة.
والمصلحة والله تعالى أعلم هي دفع شر من يداريه.
وقد روي عن ابن عمر قوله: "التودد إلى الناس نصف العقل".
ويروى عن الشافعي أنه قال:
لما عفوت ولم أحقد على أحدٍ*****أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيته*******لأدفع الشر عنـي بالتحيـات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه******كأنه قد حشى قلبي محبات
ولست أسلم ممن لست أعرفه*****فكيف أسلم من أهل المودات
الناس داء ودواء الناس قربهم******وفي الجفاء بهم قطع المـودات
فجامل الناس واجمل ما استطعت وكن *** أصم أبكم أعمى ذا تقيات
وقال الخطابي:
مادمت حيا فدار الناس كلهم ***** فإنما أنت في دار المداراة
من يدر دارى ومن لم يدر سوف يرى *** عما قليل نديما للندامات
وقال زهير بن أبي سلمى:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة ****** يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
والفارق واضح بين المداهنة والمداراة فليس في المداراة تنازل في الدين ولا غض طرف عن محرم بعكس المداهنة.
بواعث المداهنة وآثارها
وقد
يكون الباعث على المداهنة متابعة بعض المتصدرين لأهواء ذوي السلطان، أو
طلبا لتحصيل مال، أو رضا صاحب أو قريب، أو نصرة لولاءات حزبية، أو رغبة في
إرضاء مرهوب أو مرغوب.
ومتى اتصف الداعية بهذا الوصف فسدت دعوته
وسقطت من أعين الناس وجاهته، وظهرت آثار مداهنته من خلال فتاويه وأقواله
وأعماله، وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن حبنكه بعض أفعال هؤلاء وأمثالهم ممن
يتبعون أهواءهم فذكر من أعمالهم:
"لي أعناق النصوص، وتفسيرها تفسيرات باطلات لتزيين وتدعيم الفتاوى المخالفة لحكم الله عز وجل."
"إباحة
بعض الأعمال الربوية المحرمة بلا شك، وإيجاد تخريجات باطلات لها إرضاء
للحكام، حتى يظفر منهم بمنصب أو يظفر بتثبيت فيه، أو بتيسير مصالح مادية له
أو لذويه"
"ومنهم من يتحايل على نصوص حجاب المرأة للتهوين من أمره"
"ومنهم من يجعل الاشتراكية والديمقراطية من الإسلام متحايلا باستخدام النصوص الإسلامية التي تأمر بالشورى ".
"ومنهم
من ينقض بعض أصول الدين أو فروعه، ويطلق عبارات تخرج من الإسلام إرضاء
للحكام واستجابة لأهوائهم، ولما يبذلونه له من مال أو منصب أو جاه أو كلام
معسول، أو تمجيد وتبجيل وتعظيم.
إلى غير ذلك من تهوك في الضلالة ، وعبث في أحكام الإسلام وشرائعه."اهـ.
وفي كتاب "الدعوة إلى الإصلاح" كتب شيخ الأزهر السابق الشيخ محمد الخضر حسين يذم أخلاق المداهنين وأفعالهم فيقول رحمة الله:
"فمن
أهل العلم من يرى ذا جاه أو رياسة يهتك ستر الأدب، أو يعيث في الأرض
فسادا، فيتغابى عن سفهه أو بغيه، ويطوي دونه التذكرة والموعظة، ابتغاء
مرضاته أو حرصا على مكانة أو غنيمة ينالها لديه.
ومن البلية (والكلام ما يزال لشيخ الأزهر) أن
المترفين ومن ينحو نحوهم في الزيغ والغرور، لا يكتفون ممن يسوقهم الزمن إلى
نواديهم أن يسكت عن جهلهم، ويتركهم وشأنهم، وإنما يرضيهم منه أن يزين لهم
سوء عملهم، أو يرمقهم بعين مكحولة بتبسم الاستحسان، وهو أقل شيء يستحق به
في نظرهم لقب "كيس ظريف".اهـ.
إن هذا الصنف من الناس يسيئون لأنفسهم، ويسعون
في هدم دينهم ودعوتهم، بل يكونون حجر عثرة في طريق تعظيم الناس للعلم
والعلماء، ويقفون في طريقهم لاتباع الحق بتنفيرهم بسوء خلقهم وفساد عملهم
عن اتباع دعوة الحق فهم (كما يقول ابن القيم رحمه الله تعالى) في الصورة
أدلاء وفي الحقيقة قطاع طريق. نعوذ بالله من فعلتهم ونسأله أن يحفظنا من
اتباع طريقتهم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.