طرائف القضاه والفقهاء ج3
- طرائف من تجارب الحكيم :
دوَن الحكيم فى روايته يوميات نائب فى الأرياف أنه تنقل بين كثير من
الأقاليم إبان عمله كوكيل نيابة فى المحاكم الأهلية فبدأها فى طنطا ثم دسوق
إلى بلدة فارسكور القريبة من دمياط ، وسعد الحكيم بهذا النقل لأنه سيتيح
له قضاء فترة من الصيف على شاطىء البحر ، إلا أن أمله وظنه خاب إذ إن مقر
عمله فى حوارى البلدة بعيداً عن البحر ومسكنه غير مريح . فسمح له النائب
العام بالإقامه فى دمياط أو رأس البر على أن يحضر إلى بلدة فارسكور كل صباح
– وهو ما أتاح له وللمصيفين تمضية الصيف على شاطىء البحر فكان يأتى بهم
مقيدين بالسلاسل لاستجوابهم والتحقيق معهم على الشاطىء فسعد المتهمون بذلك
أشد سعادة .
وذات مرة طلب من عساكر الأمن تشديد الحراسة جيداً عليهم خوفاً من الهرب فإذا به يسمع أحدهم يقول له :
نهرب ليه ؟ ربنا يخليك لينا ياسعادة البيه ، حد يهرب من الجنة !
فيرد عليهم – اتمتعوا بالهوا المنعش . اتمتعوا .
وإذا به يسمع أحدهم يهمس قائلا
إحنا جعنا .... الهوا جوعنا
فيقول – ماشاء الله . إيه ده إنتم جايين تغيروا هوا ولاً يتحقق معاكوا
فيعطف عليهم وكيل النيابة الأديب والوافد من الحياة الباريسية ويدفع بعشرة
قروش إلى أحد الحراس قائلا له – خد إشترى عيش وحلاوة طحينية لحضرات
المجرمين المصيفين .
ولذلك كان كلما أصدر قراراً بالإفراج عن متهم يسمعه يصرخ وهو يملأ رئتيه من الهواء قائلا ده ظلم يا بيه أنا لسه مقبوض على النهاردة .
2 - سارق الدجاجة :
كما يتنقل بنا الحكيم أيضا فى كتابه " أنا والقانون والفن " إلى طرفة أخرى
إبان عمله كوكيل نيابة وحدثت له أثناء حضوره لإحدى جلسات الجنح والمخالفات
قائلا عنها :-
ما من شىء أستطاع أن يضىء لى معنى كلمة الفن فى مراميها الحقيقية مثل ذلك
الموقف البسيط من مواقف " العدالة " فكنت أثنائها فى مقعد النيابة العامة
فى محكمة صغيرة من محاكم الأقاليم استمع فى نصف ضجر ونصف وعى إلى صوت
القاضى ينطق فى رتابة مملة عن أحكام الغرامات على من تعاطى مهنة شيال بدون
ترخيص – أو باع عجلاً مذبوحاً خارج السلخانه – أو ذبح أنثى جاموس أو بقر
.... الخ
إلى أن جاءت قضية سرقة استرعت انتباهى إنها جنحة سرقة عادية أى أن المناقشة بين القاضى والمتهم هو أمرٌ يستحق الإصغاء والمشاهدة !!
فأعترف المتهم أنه استخدم خيطا طويلاً متيناً ربط فى طرفه حبة قمح وجعل
يتربص بدجاجه مارة فى أحد الأزقة . فما أن أبتلعت الدجاجة حبة القمح حتى
صارت فى يده بدون مشقة .
نظر القاضى إلى المتهم وقال معقباً
- يعنى إصطدت الفرخة بطعم وشبه سنارة كأنها سمكة ؟
- وهل صيد السمك حرام يا سعادة القاضى ؟
- صيد السمك مش حرام – لكن صيد الفراخ حرام !
- إزاى ؟
- لأن السمك فى البحر ليس له صاحب ، لكن الفرخة لها صاحب !!
- ما كانش لها صاحب ، كانت ماشية تايهة فى الحارة ، يعنى يا سعادة البيه لو
لقيت من غير مؤاخذه كلب تايه فى الحارة وأخذته أبقى حرامى ؟
- الكلاب غير الفراخ ، إنت ياراجل متهم بسرقة فرخه !
- أنا يا حضرة القاضى ماسرقتهاش ، هى اللى بلعت قمحتى من جوعها ، ولو كان لها صاحب ما كانش يسيبها فى السكة تلقط قمح الناس .
وأصدر القاضى حكمه على سارق الدجاجة بالحبس ثلاثة أشهر مع الشغل وأنا أذكر
فى حجج سارق الدجاجة . وأرى على رغم ما فيها من السفسطة براعة فنية تشكك فى
إنطباق وصف السرقة .
3 - الحاوي :
وسجل الحكيم أيضا تلك الطرفة فى كتابه " أنا والقانون والفن " بعنوان الحاوى فكتب يقول عنها
كانت جنحة تشرد وقال القضى للمتهم :
- أنت متهم بالتشرد ، على الرغم من إنذار البوليس لك .
فقال الرجل بنبرة استنكار واحتجاج
- أنا متشرد ؟ عيب !!
وقلب القاضى صفحات الملف الذى الذى أمامه وقال
- وارد فى محضر البوليس أنه ليست لك وسيلة مشروعة للتعيش فقال الرجل باعتزاز
- أنا حاوى ياسعادة البيه
- والحاوى يعتبر صاحب صنعة مشروعة ؟
- طبعا ياسعادة البيه – هو كل واحد يقدر يكون حاوى ؟ أنا ضيعت عمرى كله
فيها. اتعلمتها وأنا صغير يادوبك ابن عشر سنين – تحب أفرج سعادتك ؟
- تفرجنى على إيه ياراجل إنت
- يمكن لما تشوف الشغل يا بيه ، تحكم بأنها صنعة ولا كل صنعة . صنعة شطارة وحداقه وفن طبعا
وقبل أن ينتظر الحاوى رأى القاضى شمر عن كم ساعده الأيمن على الفور وفى عجلة وخفة متناهيه اقترب من المنصة قائلاً
- " بسم الله الرحمن الرحيم " ثم مدّ أصابعه إلى ذقن القاضى فأخرج منه
كتكوتاً أصفر – وإذا بالكتكوت يقفز أمام أعيننا المندهشة فوق منصة القاضى ،
فضج جمهور الحاضرين بأصوات يختلط فيها الإعجاب بالضحك وعلا التهليل
والتكبير " الله أكبر "
، ولم يدر القاضى أيضحك هو أيضا أم يعجب أم يغضب وعندئذ فطن الحاوى إلى الموقف فمد يده ، وسرعان ما أختفى كتكوته . وقال له القاضى
- أقتنعنا أنك بارع ، وأن براعتك فى خفة اليد ، لكن هل كل خفة يد تعتبر صنعة شريفة ؟ النشال أيضا بارع فى خفة اليد ،
فقال له الحاوى محتجاً بقوة .
- وأنا نشال لا سمح الله ؟ النشال خفة يده فى جيوب الناس ، لكن أنا يا
سعادة البيه رغم خفة يدى عمرى ما سرقت حد ولا حطيتها فى جيب حد خفة إيدى
بتبسط الناس وتدهشهم وكل واحد بعدها بيدفع لى القسمة عن طيب خاطر وصاح
قائلا أنا فنان يابيه أنا فنان .
4 - عصا الحكيم تتحدث :
ذكر الحكيم فى كتابه " إبنة من الخشب " تعليقاً على عصاه الخشبية الملازمة
له من حق هذه العصا ومن العرفان لها ببعض الجميل أن أصمت وأقدمها هى
وأدعوها للكلام " فتحدثت عنه تقول :
" كانت معرفتى به مرتبطة بعمله فى القضاء – فعندما عينوه وكيلاً للنيابة فى
الأرياف كان يقوم لتحقيق الجرائم ، ومعه سكرتير كهل أبيَض شعره وجعل له
وقاراً فكان رجال الأمن فى الريف من عمد ومشايخ وخفر يستقبلون السكرتير
بالاحترام – على أنه وكيل النيابه ، ويهملون الوكيل الأصلى لمظهره الشاب
الصغير يحسبونه هو المرؤوس .
فأشار بعض المجرمين على صاحبنا أن يحمل عصا لتوحى بأنه هو الرئيس . إذ لا
يعقل فى الريف أن يكون المرؤوس هو الذى يحمل العصا فى حضرة رئيسه .
واشترانى وحملنى فى يده فلم يخطئه بعد ذلك العمد والخفراء . فما أن حل فى مكان حتى يهرع إليه الجميع ، موقنين أنه هو وكيل النيابة .
ومنذ ذلك الوقت الذى يزيد عن نصف قرن ، وأنا ألازمه ملازمة ذراعه فقد أصبحت
عادة من عاداته الراسخة ، بغير مصاحبتى له وإتكائه على يتعثر فى طريقه
وخاصة اليوم فى شيخوخته .