خطبة بعنوان : أحكام اليمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ][أحكام اليمين.. صلاح البدير.. خطبة][
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي حَكَمَ فَأَحْكَمَ، وحلَّل وحرَّم، أحمده على ما عرَّف وعلَّم، وفقَّه في دينه وفهَّم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مهَّد قواعد الدين بكتابه المُحْكَم، وأنزله هدايةً لجميع الأمم، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث رحمةً للعالمين من عربٍ وعَجَم، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم على ذلك السبيل، وسائر المنتمين إلى ذلك القبيل، وأما بعد،،، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله حق التقوى؛ فقد فاز المطيع المتَّقي، وخسر المسرف الشقي، وهلك الظالم المعتدي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. أيها المسلمون: كثر على ألسنة الناس اليوم الأَيْمان والإقْسَام والنُّذُور؛ فوجب بيان فقهنا، وتوظيف أحكامنا، موعظةً وتذكرةً، وتنبيهًا وتبصرةً، {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]. أيها المسلمون: اليمين عظيمة في الدين، يركن إليها القضاة عند عدم البيِّنة، ويتراضى بها الناس عند الخصومة، وتتردَّد في معاشرات الناس ومعاملاتهم، وهي توكيد الشيء بذكر اسم الله، أو صفة من صفاته على وجهٍ مخصوص، ولا يجوز الحَلْف بغير الله تعالى، كالحلف بالأمانة والنبي والملائكة ورأس فلان؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ حلف بغير الله فقد كفر وأشرك))؛ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي. ويُكره الإسراف في الحلف والإكثار منه في أمور الدنيا وتافه الأسباب، قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10]، وقال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89].وعن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إياكم وكثرة الحلف في البيع؛ فإنه ينفق ثم يمحق))؛ أخرجه مسلم. وأما الإكثار من الحلف في أمور الدين لتأكيدها ودفع الشك عن سامعها؛ فهو محمودٌ غير مكروه، كما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم. ومَنْ حَلَفَ يمينًا قاصدًا عقدها على مستقبلٍ ممكن، ففعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله مختارًا ذاكرًا - فقد حنث، ووجبت عليه كفَّارة اليمين، وهي إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين كيلو ونصف تقريبًا من بُرٍّ أو أرز أو تمر، أو من غالب قوت البلد، ولا يجزئ إطعام واحد عشر مرات، أو اثنين خمس مرات؛ بل لا يخرج الحالف من العهدة إلا بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، وتُتَقَبَّل الكسوة بما يُجزئ في الصلاة، وهو ثوبٌ للرجل يستر عورته، وللمرأة درعٌ وخمارٌ يستر جميعها، ولا يجزئ السراويل ولا إزار وحده، وتجزؤه كسوته من القطن والصوف وسائر ما يسمَّى كسوة، والأولى كسوة من الجديد لا من اللبيس، أو تحرير رقبة مؤمنة، فإنْ لم يستطع صامَ ثلاثة أيام، واشترط جمهور العلماء أن تكون متتابِعات. ولا يجزئ إخراج النقود في كفَّارة اليمين، ومن فعل خلاف يمينه ناسيًا فلا حنث ولا كفَّارة؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]. ومَنْ كرَّر الأَيْمان قبل الحنث والمحلوف عليه واحد؛ فلا تجب عليه إلا كفارة واحدة، ومَنْ حلف ثم حنث، ثم حلف ثم حنث، والمحنوث عليه واحدٌ؛ فعليه كفارات بعدد المرات التي حنث فيها، ومتى تعدَّدت الأيمان والمحلوف عليه أكثر من واحد؛ وجب عن كل يمين حنث بها كفَّارة. ومَنْ حرَّم على نفسه مباحُا سوى زوجته؛ كفَّر عن يمينه وأتى ما أُبيح له. وعلى المسلم ألا يحرِّم على نفسه شيئًا أباحه الله له؛ من طعام أو شراب أو ملبس أو مال له حقٌّ شرعيٌّ فيه، ومَنْ حلف لا يفعل برًّا ولا تقوى ولا صلةً ولا إصلاحًا بين الناس، حُرِّم عليه أن يعتل بالله، ووجب عليه أن يكفر ويبر؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها؛ فليأتها وليكفِّر عن يمينه))؛ أخرجه مسلم. وما جرى على اللسان من الأيمان والأقسام بلا قصد من الحالف ولا نيَّة؛ كقول الرجل: لا والله، وبلا والله؛ فهو لغوٌ لا كفَّارة فيه. ومَنْ حلف على شيءٍ جازمًا بصَّحة ما قال، فظهر بخلاف ما حلف - فلا كفارة عليه، ومن حلف فقال عقب يمينه - إن شاء الله - فقد استثنى؛ فإن شاء فعل، وإن شاء تَرَكَ، ولا حنث عليه ولا كفَّارة؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ حلف فاستثنى؛ فإن شاء رجع، وإن شاء ترك غير حنث))؛ أخرجه أبو داود. ويُشترَط أن يستثنيَ بلسانه، ولا ينفعه الاستثناء بالقلب في قول عامَّة أهل العلم. ومَنْ عَقَدَ يمينًا على الكذب والخديعة والفجور، لإضاعة حقِّ امرئٍ مسلمٍ وأكل ماله بالباطل - فقد حلف الغموس المُرْدِيَة واليمين المُوبِقَة؛ فعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف على يمين صبر، يقتطع بها مال امرئٍ مسلم، هو فيها فاجرٌ؛ لقي الله وهو عليه غضبان))؛ متفق عليه. أيها المسلمون: لا يقع في الكون شيءٌ لم يكن الله قدره وأراده، بيد أن الكثير من الناس يظنون أنهم يدركون بالنذر شيئًا لم يقدِّره الله لهم، أو يتبعون به شيئًا قد قدَّره الله عليهم؛ فيعلِّقون فعل الطاعة على تحصيل منفعة أو دفع مضرَّة؛ كقول ناذرٍ: إن شفاني الله من علَّتي، أو شفا فلانًا، أو سلَّم مالي الغائب - لأصومنًّ شهرًا، أو لأتصدقنَّ بكذا وكذا، وهو ما يسمَّى بـ(نذر المجازاة والمعاوضة)، أو بـ(نذر التبرُّر المعلَّق بشرط)، وهو من العادات المكروهة والأعمال المنهي عنها في الشريعة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تنذروا؛ فإن النذر لا يغني من القَدَر شيئًا، وإنما يُستخرج به من البخيل))؛ أخرجه مسلم. فالنذر لا يجرُّ للناذر في العاجل نفعًا، ولا يصرف عنه ضرًّا، ولا يغيِّر قضاءًا، ولا يردُّ قَدَرًا، لكن متى أدرك الناذر ما أمَّنه لغةً، لزمه الوفاء بما نذر. ومَنْ ألزم نفسه قربةً على وجه التبرر، بلا شرط ولا صفة، مثل أن يقول: لله عليَّ أن أصوم شهر كذا - وَجَبَ عليه الوفاء بنذره؛ لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، ولقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]، ولحديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ نَذَرَ أن يطيع الله فليُطِعْه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصي))؛ أخرجه البخاري. ومَنْ نذر نذرًا مطلقًا ولم يسمِّ شيئًا؛ لزمته كفارة يمين؛ لحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كفَّارةُ النَّذْر كفَّارةُ اليمين))؛ أخرجه مسلم. ومَنْ نذر عبادةً مكروهةً في الشرع؛ مثل: قيام الليل كله، وصيام الدهر كله، وصيام سنة متوالية - لم يَجِبْ عليه الوفاء بهذا النذر، وعليه كفَّارة يمين. ومَنْ نذر فِعْل معصية؛ مثل أن يقول: والله لا أكلِّم والدي، والله لأشربنَّ الخمر، أو نحو ذلك من الأعمال الممنوعة - حرم عليه فعل المحلوف عليه؛ لأنه معصية، ولزمته كفَّارة يمين في أصحِّ قول العلماء؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا نذر في معصية، وكفَّارته كفَّارة يمين))؛ أخرجه أبو داود، وله شواهد. ومَنْ نذر نذرًا علَّقه على شرط قصد به المنع أو الحظر؛ نحو: إن لم أحضر مجلسكم فعليَّ كذا - خُيِّرَ بين فعل ما نذر وبين كفَّارة يمين، وكذا مَنْ نذر فِعْل مباح؛ خُيِّرَ بين فعل ما نذر وبين كفَّارة يمين. ومَنْ نذر ما يعجز عن فعله، وليس في مقدوره - لم يجب عليه الوفاء بنذره، وعليه كفَّارة يمين؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رأى شيخًا يهادى بين ابنيه؛ فقال: ((ما بال هذا؟))، قالوا: نذر أن يمشي - يعني أن يحجَّ ماشيًا - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عن تعذيب هذا نفسَه لغنيٌّ))، وأمره أن يركب؛ متفقٌ عليه. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ((مَنْ نذر نذرًا لا يطيقه؛ فكفَّارته كفَّارة يمين))؛ أخرجه أبو داود. فاتقوا الله أيها المسلمون، واحفظوا أيمانكم، واحذروا النذور التي تكلِّفكم ما لا تطيقون، واجعلوا نشاطكم فيما أوجب الله عليكم، واستجلِبوا النِّعم واستدفعوا النقم بالعمل الصالح والدعاء؛ فلا يردُّ القَدَر إلا الدُّعاء. بارك الله لي ولكم في القرآن والسنَّة، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من البيِّنات والحكمة، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه كان للأوَّابين غفارا
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد،،، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]. أيها المسلمون: النَّذْر عبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، وصرف النذور للقبور والأضرحة والموتى من أعظم الشرك وأكبر الإثم؛ فلا يحلُّ لمسلم أن ينذر للمشاهد والقبور والأضرحة بناءًا أو زيتًا أو شمعًا أو دراهم أو طعامًا أو ذبحًا، ومَنْ نذر شيئًا من ذلك وجب عليه التوبة، وحَرُم عليه الوفاء بنذره.ومَنْ ذبح عند قبر فالذبيحة مَيْتَة يحرم الأكل منها أو توزيعها على الناس، ولو ذكر ذابحها اسم الله عليها، ويجب طرحها أو إطعامها للحيوانات؛ فعن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم -: ((لا عقر في الإسلام))؛ أخرجه أبو داود؛ قال عبدالرزاق: "كانوا يعقرون عند القبر ببقرة أو شاة"؛ قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270]. ثم صلُّوا وسلِّموا على أحمد الهادي شفيع الورى، ومَنْ صلَّى عليه صلاةً واحدةً؛ صلَّى الله عليه بها عشرًا. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك المصطفى ونبيِّك المرتضى؛ نبينا وسيدنا محمد، وارضَ اللهم عن آله الأطهار، وصحابته الأخيار، المهاجرين منهم والأنصار، وعنَّا معهم بمنِّك وجُودك يا عزيز يا غفَّار. اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشِّرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق وليَّ أمرنا لما تحب وترضى، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى، وأصلح له بطانته يا رب العالمين. اللهم ادفع عنا الغلاء، اللهم ادفع عنا الغلاء، اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصةً، وعن سائر بلاد المسلمين عامةً يا رب العالمين. اللهم ارحمْ موتانا، واشفِِ مرضانا، وعافِِ مُبتَلانا، وفكَّ أسرانا، وانصرنا على مَنْ عادانا. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسْقِنا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقِِ عبادك وبهائمك، اللهم اسقِِ عبادك وبهائمك، اللهم اسقِ عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيِ بلدك الميت. اللهم إنَّا خَلْقٌ من خَلْقِكَ؛ فلا تمنع عنَّا بذنوبنا فضلَك. اللهمَّ جُدْ علينا برحمتك وإحسانك، وتفضَّل علينا بغيثك ورزقك وامتنانك. إليك مَدَدْنَا بالرجاء أَكُفَّنا؛ فحاشاك مِنْ ردِّ الفتى فارغ اليد. عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.