ادعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكيل الشتائم صاعا بصاع حتى لأولي قرباه
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
ادعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكيل الشتائم صاعا بصاع حتى لأولي قرباه
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكيل السباب واللعنات لكل من قاومه، ويستدلون على ذلك بأنه لما مات ابن لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من خديجة - رضي الله عنها - وقال العاص بن وائل: إن محمدا أبتر،[sup][1][/sup] رد - صلى الله عليه وسلم - هذه السبة قائلا: )إن شانئك هو الأبتر (3)( (الكوثر)، وأنه قد شتم عمه أبا لهب عندما قال له: تبا لك، ألهذا جمعتنا؟! قائلا: )تبت يدا أبي لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب (2) سيصلى نارا ذات لهب (3) وامرأته حمالة الحطب (4) في جيدها حبل من مسد (5)( (المسد). ويرمون من وراء ذلك إلى نسبة ما لم يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم - له؛ تمهيدا للطعن في أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
وجها إبطال الشبهة:
1) الزعم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكيل الشتائم صاعا بصاع، لا يتفق وما عرف به - صلى الله عليه وسلم - بين الجميع ـ بشهادة الأعداء قبل الأتباع ـ من الحلم، والصبر، وحسن الخلق عموما.
2) ما سب النبي - صلى الله عليه وسلم - العاص بن وائل ولا عمه أبا لهب، على الرغم من عدائهما الصارخ لدعوة الحق، بل إن الله - عز وجل - هو الذي تولى الدفاع عن نبيه، وأنزل هذه الآيات تهديدا وتحذيرا، لهذين الكافرين المعاندين، وما الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا مبلغ عن الله - عز وجل - فحسب.
التفصيل:
أولا. الزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكيل الشتائم لا يتفق مع ما عرف عنه - صلى الله عليه وسلم - من حسن الخلق:
القول بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكيل الشتائم لمن يشتمه، لا يتفق مع ما عرف عنه - صلى الله عليه وسلم - من حسن الخلق والعفو العظيم عمن ظلمه، فإنه - صلى الله عليه وسلم ـلم يكن فاحشا في القول؛ فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قيل له وهو في القتال: «لو لعنتهم يا رسول الله؟ فقال: إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة»[sup][2][/sup] وكان إذا سئل أن يدعو على أحد، مسلم أو كافر، عدل عن الدعاء عليه إلى الدعاء له، وما ضرب بيده أحدا قط، إلا أن تنتهك حرمة الله[sup][3][/sup]، وهناك الكثير من المواقف التي يظهر فيها عفوه - صلى الله عليه وسلم - ومقابلته الإساءة بالإحسان، ومن هذه المواقف الكثيرة، أنه "تصدى غورث بن الحارث ليفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم تحت شجرة قائلا[sup][4][/sup] والناس قائلون، فلم ينتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو قائم، والسيف مصلت على رأسه في يد الرجل، وهو يقول: من يمنعك مني؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - بقلب مؤمن ولسان صادق: "الله"، فسقط السيف من يد الرجل، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "من يمنعك مني"، قال: كن خير آخذ، فتركه وعفا عنه، فدنا قلب الرجل بعد نفور، وصار داعية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كان يريد قتله" [sup][5][/sup].
ومما يدل على عفوه - صلى الله عليه وسلم - وعلى حرصه على أن لا يظلم أحدا، موقفه في غزوة بدر، عندما كان يعدل الصفوف بقدح في يده، فمر بسواد بن غزية حليف بني النجار، وهو مستنتل من الصف[6] فطعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقدح في بطنه، وقال: «استو يا سواد، فقال: يا رسول الله، أوجعتني، وقد بعثك الله بالعدل، فأقدني[7] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقد"، قال: يا رسول الله، إنك طعنتني وليس علي قميص، قال: فكشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بطنه، وقال: "استقد"، فاعتنقه وقبل بطنه...»[8] [sup][9][/sup] إلى آخر هذه القصة التي توضح مدى عفوه - صلى الله عليه وسلم - إلى درجة أنه كان لا يقبل على نفسه مجرد الإحساس بالظلم لأي أحد.
وهناك الكثير من شهادات المنصفين من غير المسلمين الدالة على عفوه - صلى الله عليه وسلم - وحسن خلقه، ومن ذلك: "يقول ردونسن: بظهور عدد من المؤرخين الأوربيين المستنيرين في القرن الثامن عشر بدأت تكتمل صورة هي صورة محمد - صلى الله عليه وسلم - الحاكم المتسامح والمشرع" [sup][10][/sup].
ومن ذلك - أيضا - قول مونته: "كان محمد - صلى الله عليه وسلم - كريم الأخلاق حسن العشرة عذب الحديث، صحيح الحكم، صادق اللفظ، وقد كانت الصفات الغالبة عليه هي صحة الحكم، وصراحة اللفظ، والاقتناع التام بما يعمله ويقوله" [sup][11][/sup].
ومن ذلك - أيضا - قول نهرو: "فاقت أخلاق نبي الإسلام كل الحدود، ونحن نعتبره قدوة لكل مصلح يود أن يسير بالعالم إلى سلام حقيقي" [sup][12][/sup].
وبذلك يتأكد لنا حسن أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان منزها عن العيوب والنقائص، وذلك كله باعتراف وإقرار من المنصفين الذين لا ينتمون إلى دينه صلى الله عليه وسلم، وإليك هذا الموقف الذي إن دل على شيء، فإنما يدل على حلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى مقابلته الإساءة بالإحسان:
ففي إحدى المرات التي ذهب فيها إلى الكعبة للصلاة "ذهب رجل - بأمر أبي جهل - يبحث عن أمعاء شاة، فأتى بأمعاء دابة مضى على ذبحها أيام كثيرة، ثم ترقب الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى سجد في صلاته، وإذ ذاك رمى بما في يده على عنقه، وأكتافه، فانتفض القوم ضاحكين، حتى انقلبوا على قفاهم تتخبط أجسامهم.
أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يظهر عليه أي أثر لهذه الإهانة الشنيعة، وظل يزاول عبادته، ولم يخلصه من تلك القاذورات إلا ابنته فاطمة التي أقبلت بعد ذلك بقليل، وجعلت تسب هؤلاء الطغاة الذين لا يردهم أي وازع من شرف أو قرابة عن فعلة شنيعة مثل هذه" [sup][13][/sup].
فلم يرد - صلى الله عليه وسلم - على هذه الإهانة بإهانة مثلها، بل صبر واحتسب، وكان يردد دائما: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» [14].
ثانيا. لم يسب النبي - صلى الله عليه وسلم - العاص بن وائل ولا عمه أبا لهب، ولكن الله - عز وجل - هو الذي تولى الدفاع عنه:
أما سبب نزول قوله عز وجل: )إن شانئك هو الأبتر (3)( (الكوثر)، فقد نزلت في العاص بن وائل، وهو أحد أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - الألداء، فهو طاغوت آخر من طواغيت قريش، ورأس من رءوس الكفر المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله مثل أبي جهل وأبي لهب.
يقول القرطبي: "شانئك، أي: مبغضك، وهو العاص بن وائل، وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات، ثم مات البنون، وبقي البنات: أبتر، فيقال: إن العاص وقف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يكلمه، فقال له جمع من صناديد قريش، مع من كنت واقفا؟ فقال: مع ذلك الأبتر، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان من خديجة، فأنزل - عز وجل - في شأنه: )إن شانئك هو الأبتر (3)( (الكوثر)، أي: المقطوع ذكره من خير الدنيا والآخرة" [sup][15][/sup].
وظاهر من هذا التفسير أن القرآن الكريم قد استعمل لفظ العاص بن وائل بغير المعنى الذي أراده، فليس في الآية - على هذا - أصل لادعاء السب الذي بدا أنه يقوم على فهم خطأ لمورد اللفظة في القولين، وفي هذا يقول الإمام الطاهر ابن عاشور: "ومعنى الأبتر في الآية: الذي لا خير فيه، وهو رد لقول العاص بن وائل أو غيره في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فبهذا المعنى استقام وصف العاص أو غيره بـ "الأبتر"، دون المعنى الذي عناه هو؛ حيث لـمز النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه أبتر، أي: لا عقب له؛ لأن العاص بن وائل له عقب" [sup][16][/sup].
ويسوغ - بعد هذا التصحيح - أن تعد الآية مثالا للرد الرفيع على إساءة مبتذلة، وهو رد رفيع بتفسير أنه جاد في أدب وتنزه، ولا يشكل هذا ومثله إلا على من يخلطون بين التأدب في القول وبين الميوعة الناعمة التي لا تليق بدعوة تؤدى باليد واللسان.
وأما سورة المسد فيقول صاحب "الظلال": "نزلت هذه السورة ترد على الحرب المعلنة من أبي لهب وامرأته، وتولى الله - عز وجل - عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - أمر المعركة: )تبت يدا أبي لهب وتب (1)( (المسد)، والتباب: الهلاك والبوار والقطع، و )تبت( الأولى دعاء، )وتب( الثانية تقرير لوقوع هذا الدعاء، ففي آية قصيرة واحدة في مطلع السورة تصدر الدعوة وتتحقق، وتنتهي المعركة ويسدل الستار" [sup][17][/sup]!
فليس في الآيات إذن شيء مما يفهمه الناس من لفظة الشتم أو السباب، بل الذي تقوله شيء آخر، هو الوعيد لمن يواجهون الدعوة ويقولون: "تبا" لرسولها صلى الله عليه وسلم، فنقول لهم: بل التباب لمكذبي هذا الرسول وجاحدي دعوته والحق الذي معه.
على أن مطالع الأناجيل كثيرا ما يجد المسيح يخاطب طائفة الفريسيين بأنهم مراءون وجهلة وعميان، بل حين قال له قوم منهم: "يا معلم، نريد أن نرى منك آية، فأجاب وقال لهم: جيل شرير فاسق يطلب آية؟! ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي". (متى 12: 38، 39)، وهو جواب شديد على مطلب ينبغي أن ينتظره كل نبي.
والأمر هنا يستدعي أن نجلي حقيقة شخصية أبي لهب هذا الذي أفرد القرآن له ولزوجه سورة كاملة، فلقد تفرد من بين إخوته وسائر قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمزيد عداء للدعوة وحنق على رسولها.
لقد كانت لأبي لهب طبيعة غير طبيعة إخوته، فإخوته يطلبون السيادة والشرف والعزة بالخلق العربي الصميم، وهو يطلب المال والدنيا، وفيه أثرة، وحب للذات، ومن يكون كذلك يميل دائما إلى الابتعاد عما يثير المتاعب، ويؤثر في المال ويوجد اضطرابا، وبذكائه الشديد أدرك أن دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - تقدمة لمتاعب لمن يعتنقها أو يحميها، فقاومها، وشدد في المقاومة، وطبيعته المادية جعلته لا يفكر في أي أمر معنوي، ولا في رجاء لنصرتها، وطبيعة الأثرة فيه جعلته لا يفكر في إحساس غيره، ولا في معاونة من يحتاج إلى معاونة طويلة مديدة من أسرته.
وتلك الطبيعة التي لا تريد إلا استقرارا لأجل المال، وما يتصل به من متع تكره تغيير ما كان عليه الآباء، بل ترغب في أن تسير الحياة نمطية، لا تغيير فيها ولا اضطراب.
ولعل هذه الطبيعة هي التي جعلته لا يخرج مع قريش في غزوة بدر الكبرى، وخرج العباس وإن كان كارها محرجا، وهناك عامل ثان فوق ذلك العامل النفسي؛ وهو أن زوجه أم جميل الأموية أخت أبي سفيان كانت عاملا مذكيا لتلك الطبيعة المعاندة، كانت تكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكره زوجه أم المؤمنين خديجة، والتقى كرههما في قرن رجل واحد من يوم زواجهما الميمون الطاهر، ولا ندري أكان الزواج هو السبب أم كان غيره.
ولقد كانت أخت أبي سفيان لا تتردد في أن تقرض الشعر ذما للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتسميه مذمـما ولا تسميه محمدا، ومما قالت في ذلك:
مذمـما قلينا
ودينه أبينا
وأمره عصينا
ولقد تلقى - صلى الله عليه وسلم - شعرها هذا بالاستضحاك، ولم يعتبر ذلك شتما له؛ لأنها لم تذكر اسمه في شتمها، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا تعجبون كيف يصرف الله - سبحانه وتعالى - عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمما، ويلعنون مذمما، وأنا محمد».[sup][18][/sup] وكان فيها مع ذلك صفة السفيهات من النساء، إنها كانت تمشي بالنميمة، فتوقد نيران العداوة.
هذا هو أبو لهب، وهذا هو السر في عداوته للحق، ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - مع قرب رحمه، ومع أنه سر لولادته وقت أن ولد.
هذا أبو لهب، وذلك موقفه من دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كرهته فيه بعد ود، أو إن شئت فقل محبته له في صباه حتى بدا ما يتخالف فيه الطبعان، طبع العم المادي، وطبع ابن أخيه الروحي الذي لا يحرص على المال" [sup][19][/sup].
هذا عن موقف أبي لهب العدائي الذي إن كان مقبولا من بعض كفار قريش، كأبي جهل، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف، وغيرهم، فهو غير مقبول تماما من أبي لهب، وذلك لقرابة النسب التي بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما إذا علمنا أن هذا العداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - كان منذ أن كان - صلى الله عليه وسلم - صبيا.
لقد بدأ العداء منذ أن أبدى محمد - صلى الله عليه وسلم - حبه لعمه أبي طالب، وفي ذلك أخرج ابن عساكر عن أبي الزناد قال: اصطرع أبو طالب وأبو لهب، فصرع أبو لهب أبا طالب وجلس على صدره، فمد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذؤابة[sup][20][/sup] أبي لهب - والنبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ غلام - فقال له أبو لهب: أنا عمك وهو عمك، فلم أعنته علي؟ قال: "لأنه أحب إلي منك"، فمن يومئذ عادى أبو لهب النبي - صلى الله عليه وسلم - واختبأ له هذا الكلام في نفسه[sup][21][/sup].
فمنذ ذلك الحين وأبو لهب يضمر عداءه للنبي صلى الله عليه وسلم، وظهر كرهه في مكائد للنبي - صلى الله عليه وسلم - منذ أول يوم ظهرت فيه الدعوة، وفيما يأتي تفصيل لذلك:
· بعد ثلاث سنوات من نزول الوحي - على الأرجح - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجهر بالدعوة، ونزل قوله عز وجل: )وأنذر عشيرتك الأقربين (214)( (الشعراء)، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصفا فصعد عليه، ثم نادى "يا صباحاه" وهي عادة العرب إن أرادوا تبليغ أمر هام، فاجتمع الناس إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني فهر، يا بني عدي.. أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل [22] تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي"، قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».[23] فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله عز وجل: )تبت يدا أبي لهب وتب (1)( (المسد).
وفي رواية أخرى أيضا أنه أمر عليا أن يصنع طعاما، ويجمع له بني عبد المطلب - وكانوا قرابة أربعين رجلا -، فلما انتهوا من الطعام والشراب، أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكلمهم فبدره أبو لهب يحذرهم من أن يسحرهم محمد بكلامه؛ فتفرقوا ولم يكلمهم صلى الله عليه وسلم، فكرر الدعوة ثانية، ففعل أبو لهب مثل ذلك، فكررها ثالثة، فقال لهم بعد الطعام: "يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة" [sup][24][/sup].
وهكذا نجد أن أبا لهب قد عادى النبي من أول يوم بدأ يجهر فيه بالدعوة، وهذا يدل على حقده الدفين، وسنكمل سرد ما بدر منه من مكائد تأكيدا لذلك.
· ومن ذلك ما روي عن ربيعة بن عباد من بني الديل - وكان مشركا فأسلم - قال: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية، في سوق ذي المجاز، وهو يقول: "يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين[25]، يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فذكروا لي نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذا عمه أبو لهب» [sup][26][/sup] [sup][27][/sup].
· ومن إساءته للرسول أنه كان قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشدة حتى طلقاهما، وذلك ظنا منه أن هذا سيثقل كاهل النبي - صلى الله عليه وسلم - بهما، هذا ولما مات عبد الله - الابن الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم - استبشر أبو لهب، وذهب إلى المشركين يبشرهم بأن محمدا صار أبترا" [sup][28][/sup].
ومن جملة ما سبق يتبين لنا أن أبا لهب كان يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - العداء منذ صباه، ويضمره في قلبه، وبدأ بإظهاره عندما بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ الدعوة في كثير من المواقف، ورغم ذلك لم يتعرض له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأذى والقسوة كما يزعم المشككون.
لكن الذي تولى الدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ربه الذي أرسله، وتكفل بعصمته من الناس، فحينما قال أبو لهب للرسول صلى الله عليه وسلم: "تبا لك"، وقام ينفض يديه - كما سلف أن أشرنا - نزلت تلك السورة ترد على هذه الحرب المعلنة من أبي لهب وامرأته، وتولى الله - سبحانه وتعالى - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر المعركة.
فلننظر "مثلما أرادا أن ينغصا عيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتطليق ابنتيه، وتتبعه في المجالس بتكذيبه، مثلما أثارا حربا شعواء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى الدعوة، لا هوادة فيها ولا هدنة، انظر إلى وقع السورة في نفس أم جميل، التي ذعرت لها، وجن جنونها، وحسبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد هجاها بشعر، وبخاصة حين انتشرت هذه السورة، وما تحمله من تهديد ومذمة، وتصوير زري لأم جميل خاصة، وتصوير يثير السخرية من امرأة معجبة بنفسها، مدلة بحسبها ونسبها، ثم ترتسم لها هذه الصورة )سيصلى نارا ذات لهب (3) وامرأته حمالة الحطب (4)( (المسد)، في هذا الأسلوب القوي الذي يشيع عند العرب" [sup][29][/sup].
وها هي أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - تروي لنا كيف كان حال أم جميل حينما سمعت بهذه السورة، تقول: «لما نزلت: )تبت يدا أبي لهب وتب (1)( أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر[sup][30][/sup] وهي تقول:
مذمـما قلينا
ودينه أبينا
وأمره عصينا
والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها لن تراني"، وقرأ قرآنا فاعتصم به، وقرأ: )وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا (45)( (الإسراء)، فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا أبا بكر، إني أخبرت أن صاحبك هجاني، فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها» [sup][31][/sup].
وهكذا دافع الله عن نبيه، ونافح عنه، ورد عنه كيد عدوه، ومن ثم يتبين لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينتقم لنفسه، ولم يسئ إلى عمه أبي لهب بالقول، ولا بالفعل على الرغم من إيذاء عمه له، بل تولى الله الدفاع عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وكان جزاء الظالم من جنس عمله، فالله لا يحابي أحدا مهما كان حسبه ونسبه، إذ لم تنفع أبا لهب قرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تغن عنه من الله شيئا.
ومن ثم فليس صحيحا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكيل الشتائم صاعا بصاع، كما يزعمون، بل كان صبورا حليما عفوا، يجازي السيئة بالحسنة، فلا عجب أن يغضب له ربه ويرد عنه الإساءة، وينتقم ممن سبه وأساء إليه.
الخلاصة:
· لقد بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذروة في حسن الخلق والعفو، والصفح عمن ظلمه، فلم يكن أبدا فاحشا في القول، لم يتعد أبدا على أحد بلسانه أو بيده، حتى في أشد اللحظات التي تعرض فيها للإيذاء، فكان يدعو لقومه لا عليهم، ولقد أجاب من قال له: «لو لعنتهم يا رسول الله؟ فقال: "إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة»[sup][32][/sup].
· ليس صحيحا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بادل من سبه الشتائم صاعا بصاع، بل كان - صلى الله عليه وسلم - لا يقابل الإساءة بالإساءة، بل يصبر ويحتسب ويعفو عمن ظلمه، ويحسن لمن أساء له، ولكن الله - عز وجل - هو الذي غضب لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، ورد على شانئيه كلمة بكلمة، ووعيدا بوعيد.
(*) هل القرآن معصوم، عبد الله عبد الفادي، موقع إسلاميات.
[1]. الأبتر: الذي لا ذرية له.
[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها (6778).
[3]. حياة وأخلاق الأنبياء، أحمد الصباحي عوض الله، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص415 بتصرف يسير.
[4]. القائل: الذي ينام وقت الظهيرة.
[5]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، مصر، 1425هـ/ 2004م، ج1، ص 176.
[6]. مستنتل من الصف: خارج منه.
[7]. أقدني: مكني من نفسك حتى أقتص.
[8]. صـحـيـح: أخـرجـه أبـو نـعيـم في مـعـرفـة الصـحـابـة، بـاب السـين، مـن اسمـه سـفـيـان (3133)، والبيهقي في سننه الكبرى، كتاب النفقات، باب ما جاء في قتل الإمام وجروحه (15799)، وصـحـحـه الألبـاني في السـلـسـلـة الصـحـيـحـة (2835).
[9]. السيرة النبوية، د. محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ج2، ص 139.
[10]. الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عيون غربية منصفة، الحسيني الحسيني معدي، دار الكتاب العربي، دمشق، القاهرة، ط1، 2006م، ص 129.
[11]. الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عيون غربية منصفة، الحسيني الحسيني معدي، دار الكتاب العربي، دمشق، القاهرة، ط1، 2006م، ص 159.
[12]. الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عيون غربية منصفة، الحسيني الحسيني معدي، دار الكتاب العربي، دمشق، القاهرة، ط1، 2006م، ص 168.
[13]. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتيين دينيه، ترجمة: د. عبد الحليم محمود، الشركة العربية للطباعة، القاهرة، د. ت، ص 125.
[14]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ( (الكهف: ٩) (3290)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد (4747).
[15]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج20، ص 222.
[16]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج15، ج30، ص576.
[17]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج6، ص4000.
[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم (3340).
[19]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، مصر، 1425هـ/ 2004م، ج1، ص302، 303.
[20]. الذؤابة: هي الشعر المضفور من شعر الرأس، وذؤابة الشيء: أعلاه.
[21]. الخصائص الكبرى، جلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ / 1985م، ج1، ص 147.
[22]. سفح الجبل: أسفله.
[23]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة الشعراء (4492)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قوله عز وجل: ) وأنذر عشيرتك الأقربين (214) ( (الشعراء) (529).
[24]. هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي، حنان اللحام، دار الفكر، دمشق، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص 38، 39.
[25]. الغديرة: شعر المرأة المضفور.
[26]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه (19026)، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب الوضوء، باب مسح باطن الأذنين وظاهرهما (159)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية (1/ 143).
[27]. وامحمداه، د. سيد حسين العفاني، دار العفاني، مصر، ط1، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص250.
[28]. وإنك لعلى خلق عظيم، صفي الرحمن المباركفوري، دار كندة للإعلام والنشر، القاهرة، ط1، 1427هـ، ج1، ص 55.
[29]. وامحمداه، د. سيد حسين العفاني، دار العفاني، مصر، ط1، 1427هـ/ 2006م، ج1، ص 159، 260.
[30]. الفهر: الحجر.
[31]. صحيح: أخرجه أبو يعلى في مسنده، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه (53)، والحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، تفسير سورة بني إسرائيل (3376)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية (1/ 138).
[32]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب النهي عن لعن الدواب وغيرها (6778).
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]