العلوم عند العرب والمسلمين
الحمد لله الذي فكهنا بثمار أوراق العلماء والصلاة والسلام
على نبيه شجرة العلم التي أصلها ثابت وفرعها في السماء وعلى اله واصحابه
الاتقياء وبعد . نواصل الحديث بعون الله عن الطب النفسي عند العرب
والمسلمين
الطب النفسي. لم يقتصر الطب عند العرب والمسلمين على العلاج العضوي فحسب،
بل تعدّاه إلى العلاج النفسي. وكانوا يرون الوهم والأحداث النفسية من العلل
التي تؤثر في البدن. لذا نجد أن إخوان الصفا أشاروا إلى إعطاء المريض
الفرصة ليسرد أحوال علّته وأسبابها كما يشعر بها هو، ثم يشرع الطبيب بعد
ذلك في محاولة إزالتها ورفع الوهم المسيطر على المريض والتقليل من شأن
المرض. وقد خصص الأطباء جناحًا في كل مستشفى كبير للأمراض العصبية
والعقلية. وأشار الرازي إلى أهمية العامل النفسي في العلاج، وكان أول طبيب
يتوصل إلى الأصول النفسية لالتهاب المفاصل الروماتيزمي. وقد فرق بينه وبين
مرض النقرس. انظر: النقرس. وقرر أنه مرض جسدي في ظاهره إلا أنه ناشئ عن
الاضطرابات النفسية، وأن أكثر من تظهر عليهم هذه الأعراض من أولئك الذين
يكظمون الغيط؛ وبتراكمه يتعرضون لهزات نفسية كبيرة. بل إن الرازي رأى أن
بعض أنواع سوء الهضم تنشأ عن أسباب نفسية؛ فقد "يكون لسوء الهضم أسباب
بخلاف رداءة الكبد والطحال، منها حال الهواء والاستحمام ونقصان الشرب،
وكثرة إخراج الدم والجماع والهموم النفسانية. وينبغي للطبيب أن يوهم المريض
بالصحة ويُرجّيه بها، وإن كان غير واثق بذلك. فمزاج الجسم تابع لأخلاق
النفس". وكتب بعض الأطباء رسائل ومؤلفات في الصحة النفسية، فكتب ابن عمران
كتابًا عن المالنخوليا، كما كتب ابن ميمون (ت 415هـ، 1024م) رسالة سماها
الرسالة الأفضلية تبحث في الحالات النفسية المختلفة كالغضب والسرور والحزن
وأثرها في الصحة، وأشار إلى أن علاجها يتم برياضة النفس وتقويتها. وتدل هذه
الرسالة على أنه قد أدرك فائدة تسخير قوى النفس في علاج أمراض البدن. وقد
كان المجال الذي سلكه أبوعمران موسى بن ميمون في الطب النفسي نقلة نوعية
نستشفها من قول الشاعر:
أرى طب جالينوس للجسم وحده وطب أبي عمران للعقل والجسم
كما أدلى ابن الهيثم بدلوه في هذا الشأن عند حديثه عن الموسيقى، فقد كتب عن
تأثير الموسيقى في الإنسان والحيوان. ومما يُسجَّل للطبيب العربي في هذا
المجال سبقه في استخدام الموسيقى والإيحاء في علاج الأمراض النفسية، وليس
بعيدًا أن يكون هناك أطباء عرفوا مبادئ التحليل النفسي ووقفوا من خلاله على
عدد من الحقائق المرضية. فنجد أن ابن سينا قد عالج في جرجان أحد أبناء
الأمراء بعد أن استعصى علاجه على جميع الأطباء. وتوصل عن طريق الاستقصاء
إلى أن الفتى لم يكن به أي مرض عضوي وأنه مشغوف بإحدى فتيات حي معين.
وبملاحظة اضطراب نبض الفتى توصل ابن سينا لمعرفة اسم الحي واسم الفتاة.
ونظير ذلك ما تردد من قصة علاجه أحد أمراء بني بويه الذي كان قد أصيب بمرض
عصبي امتنع معه عن تناول الطعام، وتوهم أنه صار بقرة وينبغي ذبحه. فلما
عُرِض عليه أخذ شفرة حادة، وتقدم نحو الأمير وأضجعه موهمًا إياه أنه يريد
ذبحه وهو مستسلم. وعند لحظة معينة صاح ابن سينا بصوت مرتفع "هذه بقرة نحيفة
هزيلة، أعلفها أولاً حتى تسمن". وهنا بدأ الأمير في الأكل بشراهة، وكان
ابن سينا يدسّ في طعامه الدواء حتى تم له الشفاء. وقد عزا ابن سينا بعض
حالات العقم إلى عدم التوافق النفسي بين الزوج والزوجة. وممن اهتموا بالبحث
في الأمراض النفسية أبوالبركات هبة الله ابن ملكا (ت 561هـ، 1165م). وقد
حاول جادًا استحداث علاج لها، ونجح في ذلك إلى حد أدهش علماء الطب في القرن
السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، وصارت نظرياته في هذا الميدان
متداولة بين أطباء العالم في زمانه. وغدا ان شاء الله ناتي على ذكر طب
التشريح