تبرئة الله تعالى للسيدة عائشة رضي الله عنها
تبرئة الله تعالى للسيدة عائشة رضي الله عنها
من فوق سبع سماوات
حادثة الإفك([1])
وذلك أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خَرَجَ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها، وكانت تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة، نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشةُ لحاجتها ثم رجعت، ففقدت عِقداً لأختها كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسُه في الموضع الذي فقدتهُ فيه، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هودجها، فظنوها فيه، فحملوا الهودج، ولا ينكرون خِفته، لأنها رضي الله عنها كانت فتية السِّن، لم يغشها اللحم الذي كان يثقلها، وأيضاً، فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج، لم يُنكروا خِفته، ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين، لم يخف عليهما الحالُ، فرجعت عائشةُ إلى منازلهم، وقد أصابت العِقد، فإذا ليس بها داعٍ ولا مُجيب، فقعدت في المنـزل، وظنَّت أنهم سيفقدونها، فيرجعون في طلبها، واللهُ غالبٌ على أمرهِ، يُدبِّرُ الأمرَ فوقَ عرشه كما يشاءُ، فغلبتها عيناها، فنامت، فلم تستيقِظْ إلا بقول صفوانَ بن المعَطِّل: إنا للهِ وإنا إليه راجعونَ، زوجة رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم. وكان صفوان قد عرَّسَ في أُخريات الجيش، لأنه كان كثيرَ النوم، كما جاء عنه في "صحيح أبي حاتم" وفي "السنن".
فلما رآها عَرفها، وكانَ يراها قبلَ نزولِ الحِجابِ، فاسترجع،وأناخَ راحلته، فقربها إليها، فركبتها، وما كلَّمَها كلمة واحدة، ولم تَسمَعْ منه إلا استرجاعَه، ثم سار بها يَقُودُها حتى قَدِمَ بها، وقد نزل الجيشُ في نحرِ الظهيرة، فلما رأى ذلك الناسُ، تكلَّم كُلٌ منهم بِشاكِلته، وما يَليقُ به، ووجد الخبيثُ عدوُّ اللهِ ابن أُبي متنفَّساً، فتنفَّس مِن كَربِ النفاق والحسدِ الذي بين ضُلوعه، فجعل يستحكي الإفكَ، ويستوشِيه، ويُشيعه، ويُذيعه، ويَجمعُه، ويُفرِّقه، وكان أصحابُه، يتقرَّبونَ به إليه، فلما قَدِموا المدينةَ، أفاضَ أهلُ الإفكِ في الحديثِ،ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكِتٌ لا يتكلَّم، ثم استشار أصحابَه في فراقها، فأشار عليه عليٌ رضي الله عنه أن يُفارِقَهَا، ويأخُذَ غيرها تلويحاً لا تصريحاً، وأشار عليه
أُسامةُ وغيرهُ بإمساكِها، وألا يلتفتَ إلى كلام الأعداء .([2])
فعلي لما رأى أن ما قيل مشكوكٌ فيه، أشار بترك الشَّكِّ والرِّيبة إلى اليقين ليتخلَّص رسول الله من الهمِّ والغمِّ الذي لحقه مِن كلام الناس، فأشار بحسم الداء، لما عَلِمَ حُبَّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لها ولأبيها، وعلم مِن عِفتها وبراءتها، وحصانتها وديانتها ما هي فوقَ ذلك، وأعظم منه، وعرفَ مِن كرامةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم على ربِّه ومنـزلته عنده، ودفاعِه عنه، أنه لا يجعلُ ربةَ بيته وحبيبته من النساء، وبنت صِدِّقه بالمنـزلة التي أنزلها بهِ أربابُ الإفك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم على ربه، وأعزُّ عليه من أن يجعل تحته امرأة بغيَّاً، وعلم أنَّ الصِّدِّيقةَ حبيبةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرمُ على ربها مِن أن يَبْتَلِيهَا بالفاحِشَةِ، وهي تحتَ رسوله.
قوة ثبات السيدة عائشة رضي الله عنها
وتبرئتها من فوق سبع سموات
ومن تأمل قولَ الصديقة وقد نزلت براءتها([3]) ، فقال لها أبواها : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله . علم معرفتها ، وقوة إيمانها ، وتوليتها النعمة لربها ، وإفراده بالحمد في ذلك المقام ، وتجريدها التوحيد ، وقوة جأشها ، وإدلالها ببراءة ساحتها ، وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح ، الطالب له وثقتها بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها قالت ما قالت ، إدلالا للحبيب على حبيبة ، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي هو أحسن مقامات الإدلال ، فوضعته موضعه ، ولله ما كان أحبها إليه حين قالت : لا أحمد إلا الله ، فإنه هو الذي أنزل براءتي ، ولله ذلك الثباتُ والرزانة منها ، وهو أحب شيء إليها ، ولا صبر لها عنه ، وقد تنكر قلب حبيبها لها شهرا ثم صادفت الرضى منه والإقبال ، فلم تبادر إلى القيام إليه ، والسرور برضاه ، وقربه مع شدة محبتها له ، وهذا غاية الثبات والقوة .اهـ .([4])
قال ابن كثير في تفسير قول الله تعالى : ]إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ[الآيات العشر من سورة النور ، قال : هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله تعالى لها ولنبيه صلوات الله وسلامه عليه ، فأنزل الله تعالى براءتها صيانة لعرض الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ، فقال : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة ، أي جماعة منكم يعني ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة ، فكان المقدم في هذه اللعنة عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين فإنه كان يجمعه ويستوشيه حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين فتكلموا به وجوزه آخرون منهم، وبقي الأمر كذلك قريبا من شهر حتى نزل القرآن ، وسياق ذلك في الأحاديث الصحيحة .([5])
الفوائــد من هذه الحادثة :
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
ومَنْ قَويتْ معرفته لله ومعرفته لرسوله وقدره عندَ اللهِ في قلبه، قال كما قال أبو أيوب وغيره مِن سادات الصحابة، لما سمعوا ذلك: ]سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ[.([6])
وتأمل ما في تسبيحهم للهِ، وتنـزيههم له في هذا المقامِ مِن المعرفةِ به، وتنـزيهه عما لا يليقُ به، أن يجعلَ لِرسوله وخليلهِ وأكرمِ الخلق عليه إمرأةً خبيثةً بغيَّا فمن ظنَّ به سُبحانه هذا الظَّنَّ، فقد ظَنَّ به ظنَّ السوءِ،وعرف أهلُ المعرفة باللهِ ورسوله أن المرأة الخبيثةَ لا تليقُ إلا بمثلها ، كما قال تعالى : ]الخَبِيثات لِلخَبِيِثينَ[ .([7])،
فقطعوا قطعاً لا يشُكُّونَ فيهِ أن هذا بُهتان عظيم ، وفِريةٌ ظاهرة.
فإن قيل: فما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في أمرها وسأل عنها وبحث واستشار وهو أعرف بالله وبمنـزلته عنده وبما يليق به قال ]سبحانك هذا بهتان عظيم[.
فالجواب: إن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سبباً لها وامتحاناً وابتلاءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إلى يوم القيامة ليرفع بهذه القصة أقواماً ويضع بها آخرين. ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا ولا يزيد الظالمين إلا خساراً.
واقتضى تمامُ الامتحان والابتلاء أن حُبِسَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيُ شهراً في شأنها، ولا يُوحى إليه في ذلك شيء لتتم حِكمتُهُ التي قدَّرها وقضَاهَا، وتظهرَ على أكمل الوجوه، ويزدادَ المؤمنونَ الصادِقُونَ إيماناً وثباتاً على العدل والصدق، وحُسْنِ الظنِّ باللهِ ورسولهِ، وأهل بيتهِ، والصِّدِّقينَ مِن عباده، ويزدادَ المنافقون إفكاً ونفاقاً، ويُظهِرَ لرسوله وللمؤمنين سرائرهم، ولتتم العبوديةُ المرادة مِن الصِّدِّيقةِ وأبويها، وتتمَ نعمةُ اللهِ عليهم، ولتشتد الفاقةُ والرغبةُ منها ومِن أبويها، والافتقارُ إلى اللهِ والذلُّ له، وحُسن الظن به، والرجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين، وتيأسَ مِن حصول النُّصرةِ والفرح على يد أحد من الخلق، ولهذا وفّت هذا المقَام حقَّه، لما قال لها أبوها، قُومي إليه، وقد أنزلَ اللهُ عليه براءتَها، فقالت: واللهِ لا أَقومُ إليهِ، ولا أَحْمَدُ إلا اللهَ، وهُو الذي أَنزَلَ براءَتِي.
وأيضاً فكان من حكمهِ حَبْسِ الوحي شهراً، أن القضية مًحِّصَتْ وتمحَّضتْ، واستشرفت قلوبُ المؤمنين أعظمَ استشرافٍ إلى ما يُوحيه اللهُ إلى رسوله فيها، وتطلَّعت إلى ذلك غايةَ التطلُّع، فوافى الوحيُ أحوجَ ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأهلُ بيته، والصِّدِّيقُ وأهلُه، وأصحابه والمؤمنون، فورد عليهم ورودَ الغيثِ على الأرضِ أحوجَ ما كانت إليه، فوقع منهم أعظمَ موقع وألطَفَه، وسرُّوا به أتمَّ السُّرورِ، وحصل لهم به غايةُ الهناء، فلو أطلع اللهُ رسولَه على حقيقة الحالِ مِن أوَّلِ وَهلة، وأنزل الوحيَ على الفور بذلك، لفاتت هذه الحِكمُ وأضعافُها بل أضعافُ أضعافها.
وأيضاً فإن الله سبحانه أحبَّ أن يُظْهِرَ منـزلَةَ رسوله وأهلِ بيته عنده، وكرامتهم عليه.
وأيضاً فإن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان هو المقصودَ بالأذى، والتي رُميَتْ زوجتُه، فلم يكن يليقُ به أن يشهد ببراءتها مع علمه، أو ظنه الظنَّ المقاربَ للعلم ببراءتها، ولم يظنَّ بها سُوءاً قطُّ، وحاشاه، وحاشاها.
ولما جاء الوحي ببراءتها، أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرَّح بالإفك، فَحُدُّوا ثمانين ثمانين، ولم يُحد الخبيثُ عبد الله بن أبي، مع أنه رأسُ أهل الإفك، فقيل: لأن الحدودَ تخفيفٌ عن أهلها وكفارة، والخبيث ليس أهلاً لذلك، وقد وعَدَهُ الله بالعذابِ العظيم في الآخرةِ، فيكفيه ذلك عن الحد.
فبعد هذا البيان وتبرأت الله تعالى لها من فوق سبع سموات فهل بقي لمن في قلبه مرض ، أو نفاق أدنى كلام .
[1]) ) زاد المعاد للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى .
(1) حادثة الإفك، رواها البخاري في تفسير سورة النور برقم (4750) باب (6) عن عائشة رضي الله عنها.
الإفك: يقال: إفكهم أفكهم وأفكهم فمن قال أفكهم يقول: حرضهم على الإيمان وكذبهم كما قال تعالى ]يؤفك عنه من أفك[ يصرف عنه من صرف0
والإفك : الكذب ، وقيل هو أشد أنواع الكذب يقال رجل أفاك : أي كذاب .
وقال البخاري رحمه الله تعالى: والأفك بمنـزلة النَّجْس والنَّجَس0
"أفكه" أي قلبه وصرفه عن الشيء ومنه قوله تعالى ]أجئتنا لتأفكنا عما وجدنا عليه آباءنا[.
[3]) ) قالت عائشة رضي الله عنها : والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقونني ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني فو الله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حين قال فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم أني حينئذ بريئة وإن الله مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن في شأني وحيا يتلى لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله e في النوم رؤيا يبرئني الله بها فو الله ما رام رسول الله e مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه من العرق مثل الجمان وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه قالت فسري عن رسول الله e وهو يضحك فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال : "يا عائشة أما الله فقد برأك"، قالت: فقالت لي أمي قومي إليه فقلت والله لا أقوم إليه فإني لا أحمد إلا الله عز وجل قالت وأنزل الله تعالى : ]إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [- إلى آخر العشر الآيات من سورة النور - ثم أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق ، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال ، فأنزل الله ]ولا يأتل أولوا الفضل منكم[إلى قوله]غفور رحيم[قال أبو بكر الصديق بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال والله لا أنزعها منه أبدا قالت عائشة وكان رسول الله e سأل زينب بنت جحش عن أمري ، فقال لزينب : ماذا علمت أو رأيت ، فقالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرا قالت عائشة وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي e فعصمها الله بالورع.
حادثة الإفك أخرجها البخاري في كتاب المغازي برقم (3910) .
[4]) ) انظر زاد المعاد للإمام ابن قيم الجوزية .
[5]) ) تفسير ابن كثير (3/269) .
[6]) ) النور الآية (16) .
[7]) ) النور الآية (26) .