رضيت بالله ربًا
رضيت بالله ربًا
كتبه/ أحمد كمال
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن رجل من الصحابة -رضي الله عنه- مرفوعًا: (مَنْ
قَالَ حِينَ يُصْبِحُ، وَحِينَ يُمْسِي: رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا،
وَبِالإسْلاَمِ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- نَبِيًّا،
كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة) (صححه لغيره محقق العمل للنسائي، ومحقق صحيح الأذكار وضعيفه).
وهذا الحديث جاء من حديث المُنيذر -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: (من
قال إذا أصبح: رضيتُ بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلَّى الله عليه
وسلَّم نبياً فأنا الزعيم لآخذنَّ بيده حتى أُدخِلَهُ الجنَّةَ) (رواه الطبراني، وحسَّنه الألباني).
معاني ألفاظ الحديث:
1- (رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا): يعني قنعت به واكتفيت، فهو ربي ومعبودي.
2- (وَبِالإسْلاَمِ دِينـًا): أي رضيت به دينـًا ألتزم بتعاليمه وأطبق شريعته، ولم أسعَ في غير طريقه.
3- (وَبِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- نَبِيًّا): أي رضيت به نبيًا رسولاً، ورضيت بطاعته والتزام شريعته.
الشرح:
الله
-تعالى- هو الإله الحق، والرب الحق الذي لا تنبغي الألوهية والربوبية إلا
له وحده لا شريك له، وما سواه من الآلهة والمعبودات فباطلٌ زائلٌ؛ فهو
المعبود بحق، وكل ما دونه باطل.
ولقد دلل الله -سبحانه وتعالى- على ذلك بالأدلة الواضحة والبراهين الظاهرة في أكثر من موضعٍ من القرآن الكريم كقوله -تعالى-: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ
وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا
تَتَّقُونَ . فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ
الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس:31- 32)، وقال -تعالى-: (قُلْ
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. قُلْ
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ
يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ
يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ) (يونس:34- 35).
وفي هذا الذكر المبارك من أذكار الصباح والمساء يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإسْلاَمِ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- نَبِيًّا).
والرب: هو الخالق الرازق القائم بكل شئون خلقه.
وهو الملك: لكل ما في الكون المُصَرِّفُ لكل شئونهم، والمُصلِحُ لأحوالهم.
وهو السيد: المطاع الذي لا تنبغي الطاعة المطلقة إلا له.
فربُنَا جلَّ ثناؤه:
هو السيد الذي لا شبه ولا مثل في سؤدده، والمصلح في أمر خلقه بما أسبغ
عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر، وهو المربي الذي رباهم
بنعمه.
يقول العلامة السعدي -رحمه الله-:
"الرب:
هو المربي جميع عباده بالتدبير وأصناف النعم، وأخص من هذا تربيته لأصفيائه
بإصلاح قلوبهم وأرواحهم وأخلاقهم؛ ولهذا كثر دعاؤهم له بهذا الاسم الجليل،
لأنهم يطلبون منه هذه التربية الخاصة... " انتهى.
وهذا خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وسلم- وأمته يدعون ربهم بهذا الاسم العظيم قائلين: (رَبَّنَا
لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ
عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ
عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286).
بل
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدعو الله -عز وجل- بهذا الاسم المبارك
كثيرًا؛ فمن ذلك: قوله -صلى الله عليه وسلم- في سيد الاستغفار: (اللَّهُمَّ
أَنْتَ رَبِّي، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ،
وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ
شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ وَأَبُوءُ
بِذَنْبِي، اغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ) (رواه البخاري)، وفي صلاة الليل كان يستفتح صلاته -صلى الله عليه وسلم- بهذا الاسم العظيم في دعائه فيقول: (اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) (رواه مسلم).
بل كان في أشد الظروف وأحلك المواقف يدعو الله -عز وجل- بهذا الاسم العظيم فها هو في دعاء الكرب يدعو ربه بقوله: (لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ
رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ
وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (متفق عليه).
والمتأمل لمعاني الربوبية:
يرى أن الله -سبحانه وتعالى- يرعى العباد ويُربِيهُم في أحوالهم وأطوارهم
المختلفة، فهو المُبَلِّغُ كلَّ ما أبدع حدَّ كمالِه الذي قدَّره له، ألم
تر كيف يسل النطفة من الصلب ويجعلها علقة، والعلقة مضغة، ثم يجعل المضغة
عظامًا، ثم يكسو العظام لحمًا ثم يخلق في البدن الروح ويخرجه خلقـًا آخر،
وهو صغير ضعيف، فلا يزال يُنَمِّيه ويُنشئه حتى يجعله رجلاً، ويكون في بدء
أمره شابًا ثم يجعله كهلاً ثم شيخاً؟!
وهكذا كل شيء خلقه فهو القائم عليه به، والمُبَلِّغ إياه الحدَّ الذي وصفه وجعله نهايةً ومقدارًا له فتبارك الله رب العالمين.
ومن
عرف ذلك لم يطلب غير الله -تعالى- ربًا وإلهًا، بل رضيَ به -سبحانه
وتعالى- ربًا وإلهًا، ومن كانت هذه صفته ذاق طعم الإيمان وحلاوته، وفاز
برضا الله، وجنته قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا رَسُولاً) (رواه مسلم).
والرضا
بالله ربًا يتضمن الرضا بألوهيته فمن رضيَ بالله ربًا على الحقيقة لا
بمجرد الادعاء؛ فإنه ولا شك لا يرضى بغيره إلهًا، ولأن من معاني الربوبية
السيادة، والأمر، والنهي، وحق الطاعة على جميع الخلق فلا يصح في الفِطَرِ
السليمة أن يُعبد غير الخالق -سبحانه وتعالى-، قال -تعالى-: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف:54)، فالألوهية مرتبطةٌ ارتباطٌ وثيقٌ بالربوبية، فمن خلق هو من يستحق أن يُعبد، وسبحان الله العظيم.
والرضا بالله رباً يعني:
ألا يتخذ العبدُ ربًا غير الله -تعالى- يسكنُ إلى تدبيره ويُنزِلُ به
حوائجه، وأن يُفرِدَه بالتوكل عليه والاستعانة به والثقة به والاعتماد
عليه، وأن يكون راضيًا بكل ما يفعل به، قال -تعالى-: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام:164)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يعني سيدًا وإلهًا فكيف أطلب ربًا غيره وهو رب كل شيء؟!
ولقد كان هذا هو حال النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ كان من دعائه قوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (اللَّهُمَّ
إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ
مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ
هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ
خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي
عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي
وَنُورَ صَدْرِي وَجَلاَءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي. إِلاَّ أَذْهَبَ
اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجاً) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وبالإسلام ديناً):
أي:
رضيتُ بالإسلام ديناً أدينُ به لله -تعالى- فلم أسلك في غير طريقه،
والإسلام هو دين الله الذي جاء به كل الأنبياء والرسل، ومنهم خاتم النبيين
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي الهاشمي الأمي -صلى الله عليه
وسلم-، وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد مهما كان غيره، قال الله
-تعالى-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85).
فمنذ أن خلق الله آدم -عليه السلام- لم يشرع للناس ولم يرض لهم دينـًا غير الإسلام؛ قال -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) (آل عمران:19).
والإسلام هو دين كل الأنبياء والرسل؛ قال -تعالى-: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 67)، وقال -تعالى- في إبراهيم ويعقوب وأبناءه -عليهم السلام-: (وَوَصَّى
بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة:132).
وقال -تعالى- حاكياً عن سليمان -عليه السلام- قوله: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) (النمل:42)، وقال عن يوسف -عليه السلام-: (رَبِّ
قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ
الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ) (يوسف:101)، وقال عن موسى -عليه السلام-: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) (يونس:84).
فالإسلام هو دين الله الذي ارتضاه لجميع خلقه، وأمرهم أن يرضوه لأنفسهم؛ قال -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة:3).
يقول ابن كثير -رحمه الله-: "أي فارضوه أنتم لأنفسكم؛ فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه، وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه".
والإسلام
هو الطاعة والاستسلام لله -تعالى- بفعل ما يأمر به وترك ما ينهى عنه، فإذا
قال أو حكم أو أمر أو نهي رضيَ العبدُ المؤمنُ كلَّ الرضا، ولم يبق في
قلبه من حكمه حرج، وسلَّم له تسليمًا تامًا كالميت بين يدي المُغَسِّل
يفعل فيه ما يشاء، ولو كان ذلك مخالفـًا لمراد نفسه أو هواها؛ قال
-تعالى-: (إِنَّمَا كَانَ
قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) (النور:51)،
فهذا هو حال المؤمن الصادق الراضي بدين الإسلام، يلتزم بشرع الله -تعالى-
ودينه؛ فهو عبدٌ لله -تعالى- يرضى ما ارتضاه له، وينتهي عما نهاه عنه.
وقوله -صلى الله عليه وسلم- وبمحمدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- نبيًا:
أي:
رضيت بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- نبيًا ورسولاً، وهذا الرضا يتضمن كمال
الانقياد، والطاعة، والتسليم المطلق إليه -صلى الله عليه وسلم- فلا يتلق
الهدى إلا من مواقع كلماته ولا يُحاكِم إلا إليه ولا يُحكِّم عليه غيره،
ولا يرضى بحكم غيره ألبته مهما كان لا في شيءٍ من أسماء الله وصفاته
وأفعاله، ولا في شيءٍ من حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيءٍ من أحكام
الدين ظاهرةً وباطنةً، لا يرضى في ذلك كله إلا بحكمه -صلى الله عليه وسلم-.
فهذا من تمام الرضا بالرسول -صلى الله عليه وسلم- كما قال -تعالى-: (فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65).
قال ابن كثير -رحمه الله-:
"يقسم -تعالى- بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكِّم
الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- في جميع الأمور فما حكم به، فهو الحق الذي
يجب اتِّباعه والانقياد له باطنـًا وظاهرًا؛ ولهذا قال -عز وجل-: (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)،
أي: إذا حَكَّمُوكَ يُطيعُونَكَ في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما
حكمت به، وينقادون في الظاهر والباطن فَيُسَلِِّمُون لذلك تسيلمًا كليًا
من غير ممانعةٍ ولا مدافعةٍ ولا منازعةٍ.
ومن
تمام الرضا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- طاعته فيما أمر ومتابعته فيما
جاء به وتطبيق سنته، والعمل بشريعته وذلك كله بغير زيادة ولا نقصان، فلقد
قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ) (متفق عليه)، أي: مردود باطل، كما أن اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- سبب لدخول الجنة؛ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ
أُمَّتِيِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، إِلاَّ مَنْ أَبَى. قَالُوا يَا
رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ
الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى) (رواه البخاري).
أما
من حاله الرفض والإباء وعدم الرضا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-
كاليهود، والنصارى، وجميع المشركين فهؤلاء من أهل النار والعياذ بالله،
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ
يهوديٌ وَلاَ نصرانيٌ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ
بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم).
وقوله -صلى الله عليه وسلم- (كان حقًاً على الله أن يُرضِيَه يوم القيامة):
يعني
أن من قال: رضيتُ بالله ربًا وبالإسلام دينـًا، وبمحمدٍ نبيًا، كان واجبًا
أوجبه الله على نفسه أن يُرضِي هذا القائل لهذه المذكورات بلسانه وقلبه
يوم القيامة، ورضا الله -تعالى- هو أعظم ما يتمناه المؤمن من ربه، فرضا
الله عن العبد فيه نجاته من النار وفوزه بالجنة، فمن رضيَ الله عنه أفلح
وأنجح، ومن سخط عليه ربُّه خاب وخسر -والعياذ بالله-.
ولقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في الوتر: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ) (رواه مسلم)، وما أجمل هذه اللفتة من موسى -عليه السلام- إذ يقول له ربه: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى) (طه:83)، فيجيب -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: (هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه:84)، فاللهم ارضى عنَّا آمين.
ورضا الله -عز وجل- عن العبد فيه الفوز بالجنة والنجاة من النار، قال -تعالى-: (قَالَ
اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (المائدة:119)،
كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بأن قائل هذا الذكر تُغفرُ له
ذنوبُه؛ فعن سعد بن أبي وقَّاصٍ -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال: (مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ
الْمُؤَذِّنَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ
شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاللَّهِ
رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا غُفِرَ لَهُ
ذَنْبُهُ) (رواه مسلم).
فالفوز
بالجنَّة والنجاة من النَّار ومغفرة الذنوب هو مما يفوز به العبد حينما
يرضى عنه ربه؛ أما الفوز الأكبر فهو رضا الله -عز وجل- ذاته فهو أكبر من
الجنة، وهو الفوز العظيم؛ قال -تعالى-: (وَعَدَ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:72).
يقول ابن كثير -رحمه الله-:
"أي: رضا الله عنهم أكبر وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم"، وهذا ما جاء
به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعينه، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-
عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ
اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ.
فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ.
فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا
رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟!
فَيَقُولُ: أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟! فَيَقُولُونَ: يَا
رَبِّ وأي شيء أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟! فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ
رضواني فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا) (متفق عليه).
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ يقولُ اللهُ هل تشتهون شيئًا فأزيدكم فيقولون ربنا وما فوق ما أعطيتنا فيقولُ رضواني أكبرُ) (رواه الطبراني والحاكم، وصححه الألباني)، فيا رب ارض عنا رضًا نستغني به عن رضا من سواك.
وصلِّ اللهم وسلِّم على محمدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.www.salafvoice.com
موقع صوت السلف