الهموم والهمم
الهموم والهمم
الداعية كثير التفكير
في أحوال أمته،وسبل إصلاحهاوأسباب قوتها،وهو دائماً يحمل هموم
الأمة،ويعاني من جراحاتها،ويحزن لآلامها،وتمتزج هذه الهموم مع إيمانه
بالله ويقينه بنصره،فيتولد في قلبه الإصرار على العمل،وتنبثق في نفسه همة
عالية لا ترضى بالدون،ولا تقنع بما دون البذل الكامل،والنصر التام ، لأنه
سائر في طريق الله،مجاهد في سبيل دعوة الله،ولسان حاله يقول:
إذا غامرت في شرفٍ مروم ****فلا تقنع بما دون النجوم
ومن هنا يتميز الداعية
الحق عن غيره في همومه وأحزانه،وطموحاته وآماله،وقد يعجب من حاله أهل
الهوى،وقد ينكر عليه أهل الدنيا وأتباع المصالح،وقد يتهم بأنه يعيش في
الدنيا الأحلام والأوهام،وأن آماله وطموحاته ضرب من المستحيل،ومع ذلك كله
يعظم الهم في قلبه،وتعلو الهمة في نفسه،ويظل متميزاً محلقاً،إذ من علامات
كمال العقل علو الهمة،والراضي بالدون دنيء،ويشعر الداعية بحلاوة
التفرد،وينهل من نبع الإيمان الذي لا ينفد؛لأن "لذة
كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه ، فأشرف الناس نفساً وأعلاهم همة
وأرفعهم قدراً من لذتهم في معرفة الله،ومحبته والشوق إلى لقائه".
وهذا زادٌ دائم التوقد
والتوهج ، يدفع للبذل والعمل،وبقدر العطاء والعناء ، تتولد اللذة والسرور
، وحسبنا مثلاً أنس بن النضر-رضي الله عنه-الذي قال يوم أحد:"واهاً لريح الجنة،والله إني لأجد ريحها من دون أحد" ثم ألقى بنفسه على الأعداء يعانق الموت،فاستشهد وبه نحواً من ثمانين ضربة وطعنة.
ولك -أيهاالداعية- قدوة السلف عندما قيل لأحدهم–لكثرة بذله وعمله-:حتى متى تتعب نفسك ؟ فقال :"راحتهاأريد"
، نعم إنها راحة ولذة لا يعرفها إلا من ذاقها،فرغم ما يراه الآخرون من
أسباب الشقاء،إلا أن الهمة العلية،والأشواق الإيمانية تقلب الميزان؛"فإن العزيمة تذهب المشقة وتطيب السير والتقدم ، والسبق إلى الله عز وجل إنما هو بالهمة وصدق الرغبة والعزيمة" وهكذا يكون بين جنبيك –أخي الداعية– نفسً تتوق إلى المعاليوتترجم كلمات ربيعة بن كعب لما قال له المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : سلني ما شئت!، فقال : أسألك مرافقتك في الجنة.
وأنت تعلم أن المصطفى - عليه الصلاة والسلام - قال :(ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله هي الجنة)،والثمن بذل في سبيل الله لا يستثنى منه شيء حتى الروح ..{إن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} وأنت –أيها الداعية-تعرف الحياة وغايتها،وقصرها ونهايتها،فلتكن عندك مطية الآخرة التي هي المطمع والمطمح.
ومن هنا فإن الهم يولد الهمة،والهمة تدفع للعمل وتظل أكبر منه دائماً
وإذا كانت النفوس كباراً****تعبت في مرادها الأجسام
وقد قيل لبعض الرجال الأفذاذ: لنا حويجة ، قال:"اطلبوا لها رجيلاً"،فلتكن أعمالك وآمالك دائماً عالية باستعلاء الإيمان المحرك..{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
فلا بد لك أن لا يمر
بك وقت دون همٍ وهمة وعمل،ممارسة بجوارحك،أو تفكيرا بعقلك،أو دعوة
بلسانك،أو هم وحزن في قلبك،فالداعية لا راحة عنده إلا في البذل،وهموم أمته
معه تؤرقه وتدفعه وشعاره قول الشاعر:
كلا رويدك ياطبيب وقد سألت أما استراح ؟
هل يستريح الحر يوقد صدره العبء الرزاح
نعم راحتنا في العمل في الدنيا ، والراحة الكبرى الجنة والرضوان.
د. علي بن عمر بادحدح