مفردات السادة الحنفيةلؤي الخليلي الحنفي
تقديم:الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت، والرقيب على كل جارحة بما جرحت، المطلع على ضمائر القلوب إذا هجست، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض تحركت أو سكنت، المتفضل بقبول الطاعات وإن صغرت، المتطول بالعفو عن معاصيهم وإن كثرت، والصلاة والسلام على محمد سيد الأنبياء وعلى آله سادة الأصفياء وعلى أصحابه قادة الأتقياء.
أما بعد:فأردت -خدمة لمذهبي الذي أعتنقه في الفقه- أن أذكر بعضًا من المسائل التي خالف فيها السادة الأحناف جمهور الفقهاء؛ وذلك بذكر صورة المسألة عندهم والأدلة على ما ذهبوا إليه، وإيراد بعض النصوص التي تدلل على ذلك من كتبهم، وأيضًا ذكر صورة المسألة عند الجمهور دون الدخول في نقاش للأدلة.
وقبل بيان الهدف من ذلك لا بد من الإشارة إلى أن نشأة الاختلاف في الأحكام الشرعية العملية ترجع إلى نشأة الاجتهاد الذي بدأ يسيرًا في عهد النبوة، إذ لم يحتج الناس إليه في زمنه -صلى الله عليه وسلم- استغناء بالوحي المنزل عليه عند كل حادثة، دون إغفال دوره -صلى الله عليه وسلم- في تفقيه أصحابه في الدين وتدريبهم على وجوه الاستنباط، حتى كان نحو ستة من الصحابة -رضوان الله عليهم- يفتون في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى استمر الصحابة في التفقه على هؤلاء، ولهم أصحاب معروفون بين الصحابة والتابعين في الفتيا، وتوسع الاختلاف في عهد الصحابة لانقطاع الوحي وتوزعهم في الأمصار، وبإمعان النظر في نشأة الاختلاف نجده يرجع في طبيعته إلى أصلين أساسيين:
أولهما: احتمال النصوص الشرعية لمعانٍ متعددة، بل إن اللفظ العربي ذاته معرض للاحتمالات، وهذه ميزة للغة العربية دون سائر اللغات.
وثانيهما: اختلاف المدارك والأفهام والعقول.
ولقد فهم جمهور الأمة حقيقة هذه الاختلافات فكتبوا ووضحوا وبيَّنُوا حقيقتها وأسبابها بما يدفع الملام فيما اختلفوا فيه من الأحكام.
يقول الإمام الدهلوي في الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف: وكان السلف لا يختلفون في أصل المشروعية، وإنما كان خلافهم في أول الأمرين، ونظيره اختلاف القراء في وجوه القراءات. ت: أبو غدة ص: 108.
والأئمة الفقهاء -كما يذكر الإمام الكوثري- على اتفاق في نحو ثلثي مسائل العلم، والثلث الباقي هو معترك أرائهم وحججهم ومداركهم.
ونحن لا نريد فيما نطرحه من مسائل للسادة الأحناف التي خالفوا فيها الجمهور التعصب والانتصار بل دعوة لأهل العلم باتباع مذاهب الأئمة الفقهاء، وفي هذا يقول الإمام الكوثري حول فكرة التقريب بين المذاهب: وأصبح هؤلاء الأئمة موضع ثقة الأمة على توالي القرون لما خبروا من سعة مداركهم وعظم يقظتهم وكبر أخلاقهم وتفانيهم في خدمة شرع الله؛ فترى أبا حنيفة على تقدم سنِّه لا يأنف أن يطلع على كتب مالك بن أنس كما ذكره ابن أبي حاتم في تقدمة معرفة الجرح والتعديل.
وكذلك مالك عالم دار الهجرة الذي ورث فقه الفقهاء السبعة من أهل المدينة بواسطة شيوخه يتحيَّن مجيء أبي حنيفة إلى الحج والزيارة فيتصل به ويدارسه العلم ويطالع كتبه، حتى اجتمع عنده نحو ستين ألف مسألة من مسائل أبي حنيفة؛ لذا ترى بعض أئمة المالكية يوصي بالأخذ بقول أبي حنيفة فيما لا رواية فيه عن مالك.
وكذلك الإمام الشافعي يرحل في نشأته إلى المدينة، ويسمع من مالك الموطأ، وعند وروده بغداد يتصل بمحمد بن الحسن ويتفقه عليه، ويأخذ عن يوسف بن خالد السمتي وغيره من أصحاب أبي حنيفة.
والإمام أحمد بن حنبل تلقى من أبي يوسف، واستفاد من كتب محمد بن الحسن دقائق المسائل، وأخذ عن أسد بن عمرو صاحب أبي حنيفة.
فهؤلاء الأئمة كانوا كأسرة واحدة في خدمة شرع الله تعالى كما سبق، يأخذ هذا من ذاك، وذاك من هذا، وردًّا على مَن يتزعم من أهل هذا العصر بنبذ التمذهب بها، وفي هذا يقول الشيخ المجاهد محمد الحامد في كتابه "لزوم اتباع مذاهب الأئمة حسمًا للفوضى الدينية": فيطيب لبعض الناس أن يشاغبوا على المذاهب المتبعة التي استنفذ أصحابها وسعهم في استنباط الأحكام من منابعها الأصلية وفي تركيز القواعد الشرعية العامة... لكن هذا الفريق من الناس يعمدون إلى زعزعة الثقة بها، ويدعون إلى اجتهاد جديد مماثل، ولو لم يكن لاستيفاء شروطه بإطلاقها مكان في الوجود الآن... بَيْدَ أن بعض الرقعاء طبَّلوا وزمروا، وقاموا ينعقون في الأوساط الساذجة بوجوب إعادة النظر في مقررات الأئمة، متمثلين بكلام هو في ذاته حق ولكن أردوا به باطلاً.
ويقول الإمام الكوثري في مقاله (اللامذهبية قنطرة اللادينية): بدأنا منذ فترة نسمع مثل هذه النعرة من أناس هم في حاجة شديدة على ما أرى إلى الكشف عن عقولهم بمعرفة الطبيب الشرعي قبل الالتفات إلى مزاعمهم في الاجتهاد الشرعي القاضي- في زعمهم - على اجتهادات المجتهدين، فعلى تقدير ثبوت أن عندهم بعض عقل فلا بد أن يكونوا من صنائع أعداء هذا الدين الحنيف ممن لهم غاية ملعونة ترمي إلى تشتيت اتجاه الأمة الإسلامية في شؤون دينهم ودنياهم تشتيتًا يؤدي إلى التناحر والتنابذ والتشاحن والتنابز يومًا بعد يوم، بعد إخاء مديد استمر بينهم منذ بزغت شمس الإسلام إلى اليوم، وهذه النعرة لا يصح أن تكون من مسلم صحيح درس العلوم الإسلامية حق الدراسة، بل إنما تكون من متمسلم مندس بين علماء المسلمين أخذ بعض رؤوس مسائل من علوم الإسلام بقدر ما يظن أنها تؤهله لخدمة صنائعه ومرشحيه.
ويقول أيضًا: وأما إذا كان ذلك الداعي إلى نبذ التمذهب يعتقد في الأئمة المتبوعين أنهم من أسباب وعوامل الفرقة والاختلاف بين المسلمين، وأن المجتهدين في الإسلام إلى اليوم كلهم على خطأ، وأنه يستدرك عليهم في آخر الزمن الصواب الذي خفي على الأمة منذ بزوغ شمس الإسلام إلى اليوم، فهذا من التهور والمجازفة البالِغَين حد النهاية.
وفي هذا القدر كفاية لكل ذي لُبٍّ لمعرفة الغاية والمقصد، والله أسأل أن يوفق ويعين على ما عزمنا على إتمامه، فإن أحسنت فمن الله، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، وحسبي أني كنت أبغي الحقيقة.