القدر: تعريفه - ومراتبه
بسم
الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، الموضوع الذي سنبدأ به
في هذه الحلقة -إن شاء الله- هو عن موضوع القدر، سنتحدث عن تعريف القدر،
وعن مراتبه ثم يتحدث أخونا الكريم عن كلام الطحاوي -رحمه الله- ثم نبدأ
التعليق على كلام الطحاوي -رحمة الله عليه-.
أقول
مستعينًا بالله -سبحانه وتعالى- القدر تعريفه بإيجاز: هو علم الله -تعالى-
وكتابته سبحانه ومشيئته وخلقه، هذا تعريف القدر بإيجاز: هو علم الله
-تعالى- وكتابته ومشيئته وخلقه، هذا تعريف مجمل، وإذا أردنا أن نفصل وأن
نبين فنقول: القدر هو تقدير الله الأشياء في القدم، وعلمه -سبحانه وتعالى-
بأنها تقع، أو بأنها ستقع في أوقات معلومة وعلى صفة مخصوصة وأنه كتب تلك
المقادير، وأنه -سبحانه وتعالى- شاءها على الوجه الذي أراد، وأيضًا هو
-سبحانه وتعالى- خلقها.
المقصود
-أيها الإخوة يا من يشاهد هذه الحلقة-: أن القدر تعريفه معلق بهذه الأمور
الأربعة: علم الله هذا أولًا، وكتابته، هذا ثانيًا، وثالثًا: مشيئته،
ورابعًا: خلفه، إذا تقرر ذلك سيتضح لنا أن مراتب القدر أربع مراتب:
المرتبة
الأولى: هي العلم. وهو أنه -سبحانه وتعالى- بكل شيء عليم، لا يخفى عليه
شيء لا في الأرض ولا في السماء، وهو -سبحانه وتعالى- يعلم ما كان وما يكون
وما سيكون بل هو -سبحانه وتعالى- يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، هذه
مرتبة العلم، والله -سبحانه وتعالى- قال عن نفسه: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾[الأنعام: 73] وقال تعالى: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ﴾ [الأنعام: 59]، وهو -سبحانه وتعالى- بكل شيء محيط لا يخفى عليه شيء لا في الأرض ولا في السماء، هذه هي المرتبة الأولى.
المرتبة
الثانية: مرتبة الكتابة. وهو أنه -سبحانه وتعالى- كتب المقادير، كتبها
عنده في اللوح المحفوظ، ما الدليل على ذلك؟ الدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ﴾والكتاب هنا اللوح المحفوظ ﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70]، وقال -سبحانه وتعالى- ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ﴾ [الحديد: 22] وقال -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال -عليه الصلاة والسلام-: (إن الله كتب المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) أخرجه مسلم، هذه المرتبة الثانية.
المرتبة
الثالثة: مرتبة المشيئة، وهي أن كل ما يقع في هذا الكون من صغير أو كبير
دقيق أو جليل كل ذلك تحت مشيئته -سبحانه وتعالى-، ما شاء الله كان وما لم
يشأ لم يكن، وهذه المرتبة جاءت في مثل قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَّشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 29].
ومن دعاء المصطفى -عليه الصلاة والسلام- كما جاء في مسلم أنه كان يقول: (يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)، كان -عليه الصلاة والسلام- يقول: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها حيث شاء)، ثم قال -عليه الصلاة والسلام- هذا الدعاء: (اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)، وفي لفظ: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك).
المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق، وهي: التي جاءت في قوله تعالى: ﴿ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الرعد: 16]، فهو -سبحانه وتعالى- هو الخالق لكل شيء، مهما دق ومهما صَغُرَ فهو الخالق لكل شيء، لا يستثنى من ذلك شيء من تلك الأشياء المخلوقة.
هذا بإيجاز، وهو مدخل لموضوعنا، ونبدأ الآن بعبارة الإمام الطحاوي -رحمه الله-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- قوله: (وأصل
القدر سر الله -تعالى- في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل،
والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر
كل الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسة، فإن الله -تعالى- طوى علم القدر عن
أنامه ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: ﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، فمن سأل لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.
فهذا
جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله -تعالى- وهي درجة
الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق
مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت
الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود).
)
)
نبدأ
في التعليق على هذه العبارة التي سمعناها من أخينا الكريم، فأقول مستعينًا
بالله -تعالى-: كلام الله الطحاوي -رحمة الله عليه- في هذه العبارات
خلاصته أنه -رحمه الله- يؤكد على أمرين مهمين، وعلى قاعدتين من القواعد
المهمة التي ينبغي لنا أن نستصحبها في هذا الموضوع الجليل، في هذا الموضوع
الخطير، موضوع القدر الذي هو موضع زلت فيه أقلام وأقدام وأفهام.
فالأمر
الأول الذي أكد عليه الإمام الطحاوي -رحمه الله- في هذه المسألة الجليلة
ألا وهو: التسليم لنصوص الوحيين في باب القدر، التسليم -أيها الإخوة
الكرام- هو أمر لابد منه في جميع أمور الدين، لاسيما في مثل موضوع القدر
الذي هو مذلة أقدام، ويقع فيه الاشتباه والالتباس، فأنتم تلحظون أن الإمام
الطحاوي -رحمه الله- أكد على هذا الأمر، لاحظوا لما قال -رحمه الله-: (فإن الله -تعالى- طوى علم القدر عن أنامه) إلى أن قال: (فمن سأل لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب)
فهنا السؤال بـ"لم" فيه اعتراض، وهذا الاعتراض ينافي التسليم، ينافي
الانقياد لما جاء عن الله وما صح عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، إذن
نؤكد على هذا الأمر الأول ألا وهو: التسليم، التسليم في باب القدر، وكما
قال ابن القيم -رحمه الله- في هذا المقام قال: " واعلم أن مبنى العبودية
على التسليم"، مبنى العبودية لله -سبحانه وتعالى- على التسليم لهذه النصوص
الشرعية من كتاب وسنة، هذا أمر ينبغي أن نؤكد عليه.
الأمر
الثاني الذي قرره الإمام الطحاوي -رحمه الله- في هذه العبارات المهمة: أن
باب القدر وأن موضوع القدر له جانبان له شقان: شق ينبغي الكف عنه، وعدم
الخوض فيه، وشق ينبغي البحث فيه وينبغي التفقه فيه، فما الشق الذي ينبغي
الكف عنه؟
الشق الذي ينبغي الكف عنه: هو ما سماه -رحمه الله- بقوله: (القدر سر الله -تعالى- في خلقه) وهو الذي جاء في الآثار والأحاديث بالإمساك عنه، جاء في بعض الأحاديث التي حسنها بعض أهل العلم أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: (إذا ذُكِرَ القدر فأمسكو)
وجاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: «القدر سر
الله فلا تكشفوا» وفي لفظ قال: «القدر سر الله فلا تتكلفه».
فإذن عندنا جانب ينبغي الإمساك عنه عدم الخوض فيه الذي عبر عنه الطحاوي بكلامه الذي سمعناه: (العلم المفقود)
فهذا الجانب الأول الذي هو الذي ينبغي الكف عنه وعدم الخوض فيه هو ما
يتعلق بالجانب الغيبي الجانب الخفي من هذا الموضوع ينبغي عدم الخوض فيه،
فلا يأتي شخص ويقول: لماذا هدى الله فلانًا؟ وأضل فلانًا؟ لماذا فلان عاش
ستين سنة؟ وفلان عاش عشرة سنوات؟ لماذا الله -تعالى- أغنى فلانًا؟ وأفقر
فلانًا؟ لا يجوز السؤال بـ"لم"، ولهذا قال الطحاوي -رحمه الله- قال: (فمن قال: لم، فقد رد حكم الكتاب، من رد حكم الكتاب كان من الكافرين) هكذا قال -رحمه الله-، ومقصوده أنه رد حكم الكتاب يعني أنه رد ما جاء في قوله تعالى: ﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﴾ الله -تعالى- لا يُسأل عما يفعل، قال تعالى: ﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾
لماذا لا يُسأل عما يفعل -سبحانه وتعالى-؟ لا يُسأل كما يتوهم البعض أنها
مشيئة محضة وقهر، لا.. وإنما لكمال حكمته وتمام عدله ورحمته أن أفعاله
-سبحانه وتعالى- كلها عدل وكلها فضل، كما مر بنا قديمًا لما قال -رحمه
الله- الطحاوي قال عن أفعال الله قال: (أفعاله بين العدل والفضل) قال: (وكلهم يتقلبون ببين عدله وفضله).
فالمقصود أن هذا الجانب ينبغي الكف عنه، الجانب الذي هو غيب واستأثر الله به ينبغي ألا نخوض فيه.
أما
الشق الآخر الذي ينبغي البحث فيه والتفقه فيه وتعلمه هو ما سمعناه من قضية
مراتب القدر الأربعة: العلم والكتابة والمشيئة والخلق، وأيضًا كذلك مما
ينبغي البحث فيه والتفقه فيه: أن القدر السابق لا يمنع العمل -كما مر بنا
بالأمس- لما قال سراقة بن مالك -رضي الله عنه- وبعض الصحابة: (أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: لا.. اعملوا فكل ميسر لما خُلِقَ له)
إذن: هذا الجانب الآخر الذي ينبغي البحث فيه والتفقه فيه هو ما يتعلق
بمراتب القدر الأربع وما يتعلق بأن القدر السابق لا يمنع العمل بل يوجب
الجد والاجتهاد كما ذكرنا ذلك بالأمس أن بعض الصحابة لما سمعوا أحاديث
القدر قال بعضهم: «ما كنت أشد اجتهادًا مني الآن».
فإذن ينبغي أن نبين الشق الذي ينبغي البحث فيه، والشق الذي ينبغي الإمساك عنه.
هذه
المسألة بينها الطحاوي بهذه العبارة الموجزة، وممن بسط الكلام فيها الإمام
ابن بطة -رحمه الله- في كتابه "الإبانة" فقد بين هذا، الإمام ابن بطة في
"الإبانة الكبرى" الجانب الذي ينبغي الكف عنه، والجانب الذي ينبغي التفقه
فيه، وبسط الحديث عنه، بين ذلك بشيء من الكلام المبسوط يمكن أن ترجعوا
إليه في هذا الكتاب النفيس "الإبانة" لابن بطة.
هذا خلاصة كلام الإمام الطحاوي -رحمه الله- في هذه المسألة.
تقول: ما الفرق بين القضاء والقدر؟.
من
أهل العلم من يرى التفريق بين القضاء والقدر، ومنهم من يرى عدم التفريق،
فبعضهم يقول: سواء قلنا: الإيمان بالقضاء أو قلنا: الإيمان بالقدر هما
بمعنًى متقارب أو هما مترادفان، والبعض يفرق بينهما فيجعل أحدهما أخص من
الآخر، والبعض يجعله العكس، فالبعض يقول: إن القضاء هو الحكم العام الكلي،
الحكم العام الإجمالي، كما نقل الحافظ ابن حجر -رحمه الله-، يقول: القضاء
هو الحكم العام الإجمالي، وأما التقدير فهو الأمور الجزئيات، ما تتعلق
بالجزئيات الأمور التفصيلية.
وبعضهم
يعكس القضية فيجعل التقدير هو أمر عام، والقضاء يتعلق بالأمور التفصيلية،
وعلى كل يبدو التفريق أن الأمر في ذلك يسير، سواءً أثبتنا الفرق أو لم
نثبته فالمعنى متقارب، سواءً عبرنا بقولنا: الإيمان بالقدر أو الإيمان
بالقضاء، فالمعنى في ذلك متقارب، والله أعلم.
هنا لما قال -رحمه الله-: (وأصل القدر سر الله -تعالى- في خلقه)
عرفنا أن مراده بذلك الجانب الغيبي الذي ينبغي عدم الخوض فيه، الذي ينبغي
ألا نخوض فيه، هذا شق ينبغي أن نكف عنه، فلا يجوز لإنسان أن يسأل هذا
السؤال: لم أضل الله فلانًا؟ أو لم هدى فلانًا؟ هذه الأمور التي استأثر
الله بها فينبغي الكف عنها؛ لأن الأمر الغيبي استأثر به -سبحانه وتعالى-
فعلينا أن نمسك وأن لا نخوض في هذه المغيبات.
قال بعدها: (والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان) إلى أن قال: (وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان)
الدخول في هذا الأمر الغيبي لا يزيد الإنسان إلا حسرة ولا يزيده إلا شكًا
وحيرة، فالسبب في حيرة كثير من الناس في باب القدر: أنهم اشتغلوا بما لا
ينفعهم، اشتغلوا بما ينبغي أن يمسكوا عنه، وتركوا الأمر الذي ينبغي أن
يتفقهوا فيه ويشتغلوا به.
قال هنا: (فإن الله -تعالى- طوى علم القدر عن أنامه) أي عن خلقه: (ونهاهم عن مرامه) يعني على طلبه، فهذا الجانب الذي ينبغي الكف عنه، ثم أورد الآية الكريمة: ﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾.
العلماء علماء السلف يقولون: لا يُقال كيف في صفاته -سبحانه- ولا يُقال لم في أفعاله، ما الدليل على هذا أو ذاك؟
أما لا يُقال كيف في صفاته: فجاء ذلك في مثل قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ ﴾ [آل عمران: 7]، فكيفية صفاته، حقيقة صفاته، هذه غيب استأثر الله بها -سبحانه وتعالى-.
أيضًا
لا يُقال: لم في أفعاله، فلا يُقال: لم هجا الله -تعالى- فلانًا؟ هذا
السؤال الذي فيه اعتراض فيه رعونة فيه سوء أدب هذا لا يجوز أن يُقال في حق
الله كما سمعنا الآية الكريمة: ﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾.
قال بعدها: (فمن سأل لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب) يعني رد حكم القرآن (ومن رد حكم الكتاب فهو من الكافرين)
لكن بين الشارح -رحمه الله-: إذا كان هذا الرد سببه التأويل، تأويل له وجه
فينبغي أن يُزال هذا التأويل وتُزال الشبهة، فلا يُكفر الشخص بعينه حتى
تجتمع فيه الشروط، وتنتفي عنه الموانع.
العبارة التي بعدها لا نقف عندها كثيرًا؛ لأنها تأكيد للكلام السابق، قال: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هم منور قلبه من أولياء الله، وهي درجة الراسخين في العلم).
نعم
درجة الراسخين في العلم هي قائمة على البصيرة، وهذه البصيرة نور يقذفه
الله -تعالى- في قلوب من يشاء من عباده عن حكمة ورحمة وفضل منه -سبحانه
وتعالى-.
ثم قال: (العلم علمان)
فالعلم المفقود: هو الجانب الغيبي في هذا الموضوع موضوع القدر، والعلم
الموجود هو علم الشريعة، ومن ذلك الإيمان بشرع الله، الإيمان بهذه المراتب
الأربعة، الإيمان بأن الله -تعالى- أمر بفعل الأسباب، يعني كون الأمور
قدرت علينا لا يعني ترك الأسباب، قال -عليه الصلاة والسلام-: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله) لاحظ (احرص على ما ينفعك) هذا يتعلق بفعل الأسباب (واستعن بالله) يتعلق بالقدر، نحن في كل ركعة نقول: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5] ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ هذا من باب فعل الأسباب، من باب اتباع الشرع، وعندما نقول: ﴿ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ هذا من باب الإيمان بالقدر والاعتماد على الله -سبحانه وتعالى-.
يقول: السؤال الأول: قوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [الإسراء: 15]، (.... من أمتي إلا خلا فيها نذير) هل يشمل يأجوج ومأجوج؟
السؤال
الثاني: بالنسبة للإحاطة، إحاطة لله -سبحانه وتعالى- بالمخلوقات؟ منهم من
يقول: إحاطة الله -سبحانه وتعالى- إحاطة تليق بجلاله، ومنهم من يفصل فيها
بعلمه و قهره؟.
كيف؟
يعني منهم من يؤول الإحاطة؟ ومنهم من يجعلها لائقة بالله -سبحانه وتعالى- هذا قصدك؟.
منهم من يقول.. من غير اللوازم يعني الله محيط بخلقه بعلمه بقهره وبقدرته وغير هذ.
تقصد التأويل هذا؟.
ومنهم من يقول: أنه محيط إحاطة تليق بجلاله، هل فيها فرق بين العبارتين؟.
تقول: هل الدعاء يرد القدر؟ وهل المصائب من القدر أيضًا؟
الأصل الذي جاءت به الأدلة كما أنت ذكرت في الآيات الله تعالى قال: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [الإسراء: 15] قال -سبحانه وتعالى-: ﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [فاطر: 24]؛ فهذا الأصل أنه لا تعذب أمة إلا وقد جاءها نذير أو قد جاءها رسول كما هو في هذه الآيات المذكورة.
أما
ما يأتي في قضية يأجوج ومأجوج فهذا يعني يكون ما عندي أنا جواب عنه الآن
لا يعني أن يعكر على هذه القاعدة، وإلا فالأصل أن الله تعالى لا يعذب
أحدًا إلا بعد أن تقوم الحجة وان تبلغه الرسالة: ﴿ وَأُوحِي إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19]. هكذا جاء في قوله تعالى على لسان النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الذي يبدو لي والله أعلم.
أما
مسألة الكلام عن الإحاطة أنا أقول لا تعارض بين هذا وذاك فنحن نثبت أن
الله تعالى بكل شيء عليم، وأنه أحاط بكل شيء علما، وهذه الإحاطة لها
لوازم، يعني هذا العلم المحيط بكل شيء يستلزم التهديد والتخويف كما في
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ﴾ [فصلت: 40]؛ وقد يكون هذا العلم مدعاة للمواساة والتسلية كما في قوله تعالى لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ﴾ [الأنعام: 33]؛ أو قد يكون للتهديد في مثل قوله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَإذن ﴾ [النور: 63].
فهذا أمر ينبغي أن يكون في الحسبان، وانظر إلى سياق الآية ومورد النص، وما يحتف به من القرائن والله أعلم.
أما ما ذكرته السائلة من الأسئلة فنعم ورد في الأحاديث والآثار أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: (لا يرد القدر إلا الدعاء)؛
وجاءت أحاديث أن الدعاء والبلاء يعتلجان بين السماء والأرض فإذا كان
الدعاء غالبًا وقويًا، فإنه يرد القدر وكونه يرد القدر لا يعني أن الدعاء
ليس مكتوبًا أو ليس مقدر، الكل مقدر، الله تعالى قدر هذا وهذا، المقصود أن
الدعاء يرد القدر كما جاءت في ذلك الأحاديث قضية المصائب أنها بقدر الله
قطعًا جزمًا سمعنا الآية الكريمة قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾ [الحديد: 22].
فالمصائب
التي تصيبنا والتي تصيب الناس في أموالهم وفي أولادهم وفي أجسادهم كل ذلك
بقدر الله والله -سبحانه وتعالى- عندما يقدر على العبد مصيبة، هو له
الحكمة في ذلك، وابن القيم -رحمه الله- لما تحدث عن المرض قال: «قد أحصيت
فوائد المرض فوجدتها تزيد على مائة فائدة»؛ هذا هو المرض الذي يتوجع منه
الإنسان ويتألم ويعتريه ما يعتريه من أنواع الآلام وربما لم يؤدي الصلاة
كما يجب، وربما ترك طاعات يؤديها وقت صحته مع هذا كله فابن القيم يقول قد
أحصيت هذا مجرد إحصاء بن القيم رحمة الله عليه وجدتها مائة فائدة ولكن كما
قال تعالى: ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ [البقرة: 216].
ما مدى صحة قول الكتابة سابقة وليست سائقة؟ هل لهذا صحة يا شيخ؟
والله
إذا قلت أن الكتابة سابقة وليست سائقة أما الكتابة السابقة نعم صحيحة ما
كتبه الله تعالى هذا مسبوق وقديم مر بنا في حديث عبد الله بن عمرو أن الله
كتب المقادير قبل أن السموات والأرض قبل خمسين ألف سنة، لكن كلمة لا سائقة
إذن أريد بكلمة لا سائقة أن الكتاب لا يعني أن الإنسان مجبور ومكره تكون
العبارة صحيحة، لكن أما كون يفهم من كلمة لا سائقة أنه يتوهم منها أن
العبد يخلق فعل نفسه فهذا كلام فاسد، فالله تعالى خالقنا وخالق أفعالنا
فنحن نحرر ماذا يريد بكلمة "لا سائقة" إن أراد بكلمة لا سائقة إن الكتابة
ليست إكراهًا ولا تكون جبرًا فنعم، نقول إذن الكتابة ليست سائقة، أما يريد
بكلمة ليست سائقة أراد بذلك أن ينفي أن الله تعالى يخلق أفعال العباد فلا
يسلم بهذا المعنى.
يقول: بالنسبة هل يجوز بعض عوام الناس إذا أصابتهم مصيبة لشخص يقول والله ما يستاهل؟ هل يكون فيه اعترض للقدر؟
هذه
العبارة نبه عليها بعض المعاصرين من العلماء أن هذه العبارة يعني لا تسوغ
وهذه عبارة أن فيها سوء أدب لما يصاب الإنسان بمرض أو مصيبة يقال ما
يستاهل فهذا فيها سوء أدب في حق الله، وأيضا فيها جهل بما يقدره الله،
عليه أن نوقن الإخوة الكرام يا من يشاهد هذه الحلقة علينا أن نوقف أن الله
-سبحانه وتعالى- بما يقدره فيه الخير فهو -سبحانه وتعالى- لا يخلق شرًا
محضًا، لا يخلق شرًا محضًا، ويكون هذا الشخص الذي يصاب بمرض يقول ما
يستاهل، هذا يكون فيه رعونة وسوء أدب مع حق الله، وأيضًا عدم معرفة بحكم
الله وأسراره، فالله -سبحانه وتعالى- حينما يقدر على العبد مصيبة فليوقن
العبد أن في ذلك خير سواء أدرك ذلك أو لم يدرك فهذه العبارة ينبغي أن
نتجنبها من سوء الأدب في حق الله؛ ولأنها تعارض ما يوصف به الرب -سبحانه
وتعالى- من الحكمة والرحمة والعدل والله أعلم.
يقول: بعض الناس إذا وقع في المصيبة أو في أي أمر، شاءت الأقدار أي يصيب هذا الأمر؟ فما مدى صحة هذا القول؟.
والله
بعض المشايخ المعاصرين منهم الشيخ ابن باز رحمة الله عليه يمنعون هذه
العبارة عبارة شاءت الأقدار باعتبار الأقدار أن هي صفة، ولا ينسب إليها
الفعل، وإنما يقول العبد شاء الله قدر الله، البعض من أهل العلم يتحرجون
من هذه العبارة فعلى الإنسان أن يقول شاء الله، قدر الله، وهذا جاءت به
السنة، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾ [السجدة: 13]؛ ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ ﴾ [الإنسان: 30].
وعلى كل الالتزام بالعبارات الشرعية الدينية هو الأتم والأكمل والله أعلم.
كنت تحدثت عن أمرين وذكرنا ما قاله الطحاوي في مسألتين مهمتين:
الأول: أن القدر مبني على التسليم.
والثاني: أن القدر له جانبان:
- جانب ينبغي الكف عنه.
- وجانب ينبغي البحث فيه والتفقه فيه.
-
الجانب الثالث الذي أشار إليه ابن أبي العز رحمة الله عليه الشارح وذكره
من قبل ابن القيم من في مدارج السالكين وهو مسألة مهمة جدًا، وهي مسألة:
ما منشأ الضلال في باب القدر؟
بإيجاز
شديد نقول: منشأ الضلال في باب القدر هو التسوية بين المشيئة وبين المحبة
والرضا. أن يسوى بين محبة الله وبين محبته ورضاه، ولما يسوى بين هذا وذاك
يحصل الضلال الذي وقع فيه القدرية والجبرية، أما نحن أهل السنة نفرق فنقول
ما يشاؤه الله وما يقدره فالله -سبحانه وتعالى- يقدر يعني كل شيء، كل شيء
يقع في هذا الكون وبتقديره الخير والشر والطاعة والمعصية والحسنة والسيئة،
كل ذلك بقدره قال تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]؛
فما يقدره ويشاؤه شيء، وما يحبه ويرضاه شيء أخر، أما ما يحبه فهو -سبحانه
وتعالى- يحب المحسنين، يحب المتقين، يحب الطاعات، قال تعالى: ﴿ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ [الزمر: 7]؛ وقال -عز وجل- ﴿ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ [البقرة: 205]؛
إذن أيها الإخوة يا من يشاهد هذه الحلقة عليك أن تفرق حيث فرقت النصوص،
فليس كل ما يشاؤه الله يحبه، فالكفر الآن الموجود في الأرض والمعاصي هذه
بتقديره ومشيئته -سبحانه وتعالى- لكنه لا يحبها ولا يرضاها، كما قال الله
تعالى: ﴿ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾.
أيضًا في الجانب الآخر هل كل ما يحبه الله ويرضاه يقع؟ ما جوابكم؟
يقع ولا ما يقع؟ نعم كل ما يحبه الله يقع في الدنيا؟!!
الله -سبحانه وتعالى- يحب أن الناس يكونوا مؤمنين كلهم آمنوا؟
الجواب؟ لا...
إذن
نخلص من هذا نقول: ليس كل ما يشاؤه الله يحبه، وليس كل ما يحبه يقع؛ فإذن
علينا أن نفرق بين مشيئته وبين محبته ورضاه، لاحظ الذين ضلوا في باب القدر
وانحرفوا سووا بين الأمرين، وحصل الضلال المبين، حصل الضلال والانحراف ومن
ذلك مثلًا القدرية.
القدرية الذين ينفون القدر لما جعلوا مشيئة الله تساوي محبته ورضاه، ماذا حصل عندهم؟
قالوا: المعاصي لا يحبها الله، إذن ما دام المعاصي لا يحبها الله، إذن المعاصي لم يشأها الله.
المقدمة
الأولى صحيحة، المعاصي نعم لا يحبها الله، لكنهم ظنوا لما قالوا أن هذه
المعاصي لم يشأها الله، فأخرجوا أفعال العباد عن ملك الله: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 43]
عندك
الجبرية العكس أن يكون الإنسان مجبور على فعله، وأنه يعني ماله اختيار،
وماله مشيئة، كالريشة في مهب الريح هؤلاء الجبرية ماذا حصل؟ قالوا المعاصي
بتقدير الله، المعاصي بمشيئة الله، وهذه المقدمة صحيحة ولا فاسدة؟ هذه
مقدمة صحيحة، المعاصي بمشيئة الله ثم قالوا بعدها قالوا مادام المعاصي
بمشيئة الله، إذن المعاصي يحبها الله، وهذا كلام في غاية البطلان؛ قال
تعالى: ﴿ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ [البقرة: 205]؛ وأعظم الفساد الشرك والمعاصي.
لكن
أهل السنة قالوا: لا.. المعاصي وإن قدرها الله وشاءها لحكم وأسرار نعلم
شيئًا منها ويخفى علينا الكثير، هذه المعاصي التي قدرها الله هو قدرها
وشاءها لكنه -سبحانه وتعالى- لا يحبها، فينبغي أن نفرق بين هذا وذاك.
هذه تقريبًا أهم القواعد والضوابط في باب القدر.
يعني:
أن القدر مبني على التسليم، وأن القدر له جانبان: جانب ينبغي الكف عنه
وجانب ينبغي البحث فيه، والثالث أن منشأ الظلال في باب القدر هو التسوية
بين مشيئة الله وبين محبته ورضاه.
(قوله:
ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رقم. قوله: فلو اجتمع الخلق كلهم
على شيء كتبه الله تعالى فيه إنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه،
ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه يجعله كائنًا لم يقدر
عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة).
هنا
قال -رحمه الله- ونؤمن باللوح المراد باللوح هنا هو اللوح المحفوظ الذي
كتب الله تعالى فيه مقادير الخلائق، كتب الله تعالى فيه جميع المقادير من
أفعال العباد وما يتعلق بخلقه من جميع أفعالهم، وما يحدث في هذا الكون
ويقع، وقوله والقلم المراد بالقلم هو القلم الذي كتبت به تلك المقادير،
وهو المذكور في حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- إذ يقول النبي -عليه
الصلاة والسلام- (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. قال وما أكتب؟ قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)؛ أخرج أبو داود وأحمد.
هذا
القلم هو الذي كتب الله أو كتبت به تلك المقادير جميعًا فبهذا نخلص إلى أن
ما يقع في الكون وما يقع من العباد من أفعال وتصرفات هذا أمر قد فرغ منه،
كما سمعنا في آخر العبارة، وكما جاء ذلك في حديث ابن عباس: (رفعت الأقلام وجفت الصحف).
الكلام
الذي بعده الذي ذكره الإمام الطحاوي هو مستفاد من حديث ابن عباس في الوصية
العظيمة لما أوصى النبي -عليه الصلاة والسلام- ابن عباس فقال له: (واعلم
أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلى بشيء قد كتبه الله
لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك،
رفعت الأقلام وجفت الصحف)؛ المقادير قد فرغ منها، وجف القلم فما
يعمله العباد وما يقع وما سيقع وما وقع في الماضي، كل ذلك قد كتبه الله
عنده في اللوح المحفوظ، كل ذلك مكتوب قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف
سنة، هذا ما يتعلق بهذه المسألة.
طيب نواصل.
(وعلى
العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديرًا
محكمًا مبرمًا، ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل، ولا مغير ولا ناقص ولا
زائد من خلقه، في سمواته وأرضه؛ وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة
والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته كما قال تعالى في كتابه: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]؛ وقال تعالى: ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ﴾ [الأحزاب: 38]).
إذن
العبارة التي سمعناها من كلام الإمام الطحاوي -رحمه الله- هو يقرر في هذا
المقطع في هذه العبارة المحررة: أن علم الله تعالى لا يتغير، قال: ليس فيه
ناقض ولا معقب، فعلم الله تعالى هذا العلم القديم الأزلي هذا لا يتغير،
وهو ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 29]؛
فهو بكل شيء عليم، وفي هذا رد على الطائفة الثلاثة التي مرت بنا سواء
الفلاسفة أو القدرية الغلاة أو الروافض الذين قالوا بعقيدة البداء.
الأمر
الآخر: أنه قال بعدها: "وذلك من عقد الإيمان" ذلك: اسم إشارة ترجع إلى
الإيمان بالقدر، الإيمان بالقدر لما قال من عقد الإيمان يعني: مما ينبغي
اعتقاده والاعتقاد فيه، معنى الاستيثاق والتأكيد، قال: من عقد الإيمان
وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله وربوبيته، أيضًا أشار -رحمه الله-
إلى مسألة مهمة هو أن الإيمان بالقدر هو اعتراف بتوحيد الله وربوبيته.
وجه
ذلك: أن العبد إذا لم يقر بالقدر وأنكره وزعم أن الإنسان يخلق فعل نفسه
أنه بذلك أشرك؛ ولهذا جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهم- وجاء عن غيرهم أن
أول شرك وقع في هذه الأمة هو شرك القدرية، ماذا قالت القدرية النفاة؟
القدرية النفاة قالوا: إن الإنسان يخلق فعل نفسه، وجعلوا الإنسان خالق؛
ولهذا سموا مجوس هذه الأمة، وجاءت في ذلك أثار موقوفة ومرفوعة عن النبي
-عليه الصلاة والسلام- أن القدرية هم مجوس هذه الأمة؛ لأنهم أثبتوا خالقين
مع الله تعالى الله عن ذلك ﴿عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 43].
فإذن
أيها الإخوة الكرام: إن الذي لا يقر بالقدر هو في الواقع لم يحقق توحيد
الربوبية؛ لأنه إذا أثبت أن الإنسان يخلق فعل نفسه فعندئذ نقض توحيد
الربوبية، وهذا ما أشار إليه حبر هذه الأمة ابن عباس -رضي الله تعالى
عنهم- «إذ يقول: القدر نظام التوحيد»؛ لماذا نظام التوحيد؟ يعني أن العبد
لا ينتظم ولا يتحقق له التوحيد إلا بالقدر، قال ابن عباس: «القدر نظام
التوحيد فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده»؛ هذا ما يتعلق بهذه
المسألة.
طيب نواصل.
يقول: ما الفرق بين مشيئة الله وإرادته؟
الفرق
بين مشيئة الله وإرادته يعني الذي يعرف أن الإرادة كما صريح النصوص أن
الإرادة تنقسم هناك إرادة كونية قدرية وهناك إرادة شرعية دينية الإرادة
الكونية القدرية هي المشيئة، فالإرادة الكونية القدرية هي مذكورة في قوله
تعالى ﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ [هود: 107] أما الإرادة الشرعية الدينية فهي المذكورة في مثل قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]؛
يعني يحب، فالإرادة تنقسم، أما مشيئة لا المشيئة لا تنقسم، يعني ما نقول:
إن هناك مشيئة شرعية وإنما المشيئة إذا أطلقت فهي بمعنى الإرادة الكونية
القدرية، وهذا الذي نبه عليه الشيخ العلامة محمد إبراهيم -رحمه الله- أن
المشيئة لا تنقسم، فإذا قلنا المشيئة فتشمل كل ما شاءه الله من الطاعات
والمعاصي؛ لكن الإرادة لا تنقسم، هناك إرادة كونية فهذه بمعنى المشيئة أما
الإرادة الشرعية الدينية وهي ما يحبه الله ويرضاه فهذه تختص بما يحبه الله
من الطاعات والحسنات. واضح الفرق الآن.
هل من سؤال آخر يا شباب.
يقول: بعض الناس إذا فعل فعلًا مثلا يقول لو أني فعلت كذا لكان أفضل؟ فما مدى صحة هذه العبارة يا شيخ.
يعني الكلام عنه لو أني إذا كان قال على سبيل الحسرة، التحسر على شيء قضي وانتهى، هذا جاء فيه الذم في قوله -عليه الصلاة والسلام-: (وإن أصابك شيء فلا تقل له أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قدر الله وما شاء فعل)؛
فالمقصود الشخص لو قال لو على سبيل الحسرة على شيء قد وقع وانتهى فهذه
التي تفتح عمل الشيطان، وفيها ما فيها من التسخط على قدر الله؛ أما إذا
قال الشخص لو على سبيل تمني الخير، لو أني اغتنمت هذه الأيام وذهبت إلى
بيت الله الحرام نعم فإذا كان قالها على سبيل تمني الخير فلا إشكال فيه،
ومن ذلك يحمل قول -عليه الصلاة والسلام- لما قال: (لو استقبلت من أمري لما سقت الهدي)؛
-عليه الصلاة والسلام- لكن إذا كان على سبيل التحسر على أمر قد قضي وقد
فرغ منه فهذا الذي جاء فيه الوعيد إن لو تفتح عمل الشيطان.
(فويل
لمن صار لله تعالى في القدر خصيمًا، وأحضر للنظر فيه قلبًا سقيمًا لقد
التمس بوهمه في فحص الغيب سرًا كتيمًا وعاد بما قال أفاكًا أثيمً).
عندنا
هنا في هذه العبارة الطحاوي -رحمه الله- يحذر أيما تحذير فيقول: "فويل لمن
صار لله تعالى في القدر خصيمًا" لعله يريد بهذا الذين خاصموا القدر هم
النفاة والعلماء يقولون: ما جاء في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]؛
فالذين أنكروا القدر هم يعتبروه خصماء أنهم خاصموا الله تعالى في تقديره
وفي فعله، وأيضا هذا أشار إليه شيخ الإسلام -رحمه الله- في قصيدته التائية
في القدر، ثم قال: "وأحضر للنظر فيه قلبًا سقيمًا" أيضًا الإمام الطحاوي
يحذر من أن يكون الشخص يتلبس بقلب سقيم في القدر، والقلب السقيم هو القلب
المريض والقلب المريض إما بمرض الشبهة أو الشهوة، وغالب الذين ذلوا في باب
القدر إما بشهوة أو شبهة، بعض الناس أحيانًا إذا فعل المعاصي فيقول فلان
اتق الله! لماذا تفعل ذلك؟ فيقول قدر الله، فتجد أحيانًا أن هذه شهوته
تجعله يفعل المعاصي ويحتج بالقدر، وحينئذ قد تكون عنده شبهة عنده اشتباه
عنده لبس، فعادة هذا الداء إما يكون عن شبهة أو شهوة، وكما قال أحد
العلماء عبارة طريفة قالها ابن الجوزي -رحمه الله- عن بعض هؤلاء القوم
يقول: " أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت
به" فبعض الناس حاله كذلك، فهؤلاء شر الأقسام إذا فعل طاعة أي نعم إذا فعل
طاعة قال أنا فعلتها والفضل لي وينسى فضل الله -سبحانه وتعالى- والتيسير
لهذه الطاعة، وإذا فعلوا معصية قال الله -تعالى- قدر عليه معصية أنا
مجبور، أنا...، ونحو ذلك، وهؤلاء شر الأقسام الذين إذا فعلوا طاعة أسندوها
إلى أنفسهم ونسوا فضل الله، وإذا فعلوا معصية احتجوا بالقدر، وقال الله
-تعالى- هو مقدرها علينا، هؤلاء شر الأقسام، وهناك قوم إذا فعلوا طاعة أو
معصية قالوا هذه نحن خلقناها وفعلناها، هؤلاء القدرية الذين يزعمون أن
الإنسان يخلق فعل نفسه، وبعضهم إذا وقعت طاعة أو معصية يقول أن العبد
مجبور على الطاعة أو مجبور على المعصية هؤلاء هم من الجبرية.
يبقى
عندنا خير الأقسام: خير الأقسام الذين إذا فعلوا طاعة قالوا: إن الله
تعالى هو الذي وفقنا، وقالوا كما قال الإمام الحمد لله الذي هدانا لهذا
وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله؛ وإذا فعلوا معصية قالوا بسبب تقصير
تفريطنا، أنظر ماذا نقول في سيد الاستغفار الذي يقال في أذكار الصباح
والمساء تقول: أبوء لك بنعمتك على ثم تقول أبوء بذنبي إن كان هناك نعمة من
طاعة أو حسنة فعلتها تعترف أو تسندها إلى الله وإذا جاءت ذنب تقول وأبوء
بذنبي تسند الذنب إلى نفسك؛ لأن النفس هي من الجهل والظلم ما فيها فهذا
أمر يجب أن نتنبه له إذا فعلنا طاعة فهذا فضل من الله وإذا فعلنا معصية
فهذه بتقصير وتفريطنا والله -سبحانه وتعالى- منزه عن الظلم: ﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49].
هنا
قال عندك بعدها لقد التمس أي طلب بوهمه بفحص الغيب سرا كتيمًا، هؤلاء
الذين خاضوا في القدر التمسوا يعني طلبوا سرًا كتيمًا، طلبوا سرًا مكتومًا
ولا يمكن أن نصل إليه، وهذا خوض بالباطل، ولن ينالوا من ذلك إلا الإفك،
قالوا وعاد لما قال فيه أفاكًا أثيمًا، أفاكًا أي كذابًا أثيمًا.
أنا
أختم هذا الموضوع بمسألتين مهمتين أن المسألة الأولى أؤكد عليها وهي شبهة
يعني يقولها الناس بألسنتهم، وربما لو لم يقولها بألسنتهم ربما تجد أنها
موجودة في بعض أفئدتهم، فهذه الشبهة التي دائمًا تتكرر وتسمع في القديم
والحديث، أن بعض الناس إذا فعل معصية يعني:
كيف
الله تعالى يقدر على المعصية ثم يعذبني على ذلك؟ كيف يقدر على الله
-سبحانه وتعالى- أن أترك الصلاة ثم يعاقبني على هذا الترك؟ هذه شبهة كبيرة
ما تسمع في أوقات مختلفة وفي أماكن متعددة؟
أجب
عن هذه الشبهة بإجابة أقول: هؤلاء الذين يحتجون بالقدر عندما يفعلون
السيئان أو يتركون الطاعات نقول: إذا كان قدر حجة لك هو أيضًا سيكون
لغيرك؛ لأن الجميع كلهم تحت قدر الله، الجميع كلهم خاضعون لقدر الله، وإذا
كان القدر حجة لك وصار حجة لغيرك فعلى هذا لو جاء شخص وضربك أو أخذ مالك
أو اعتدى عليك ولا تعدى عليك، فعليك أن تستسلم وألا تلومه، وألا تطالب
بحقك؛ لأنه فعل ذلك ماذا وهو مجبور على ذلك لقدر الله -سبحانه وتعالى-.
مجرد
هذا الكلام يا أخوان مجرد تصور هذا الكلام يؤدي إلى فساد الحياة، كل إنسان
يقتل ويعتدي وينتهك ويفسد الحرث والنسل ثم يقول والله هذا قدر الله علي
هذا أمر.
الأمر
الأخر: أن الاحتجاج بالقدر في فعل المعاصي وترك الواجبات هذا يؤدي إلى
تعطيل الشرائع، معناه أن الذي يصلي مثل الذي لا يصلي؛ لأن الذي يصلي
مجبور، وان الذي ترك الصلاة مجبور، والذي يشرب الخمر مجبور، والذي يشرب
اللبن مجبور فعندئذ لا فرق بين المؤمن والكافر، ولا البر والفاجر، الكل
على حد سواء، ولا فرق بين النكاح والزنا، ولا فرق بين البيع والربا؛ لأن
الكل بقدر الله -سبحانه وتعالى- فهذا يفضي إلى إبطال الشرائع، فالمقصود أن
هذا القول إذا نظرت إليه في غاية الفساد؛ ولهذا تجد أن هؤلاء الجبرية أن
الذين يحتجون بالقدر لمذهبهم هؤلاء يحتجون مجرد هوى في أنفسهم، وانظر إلى
مشركو العرب، مشركو العرب كانوا يقولوا لو شاء الله ما أشركنا، احتجاج
بالقدر، يعني لكن لو جئت للعربي في الجاهلية، لو جئت أخذت ناقته لأقام
الدنيا ولم يقعدها، وهي مجرد هوى تجدها في بعض النفوس في القديم والحديث.
أيضا
أؤكد على مسألة مهمة لما نقول يا إخوان جبرية قالوا بأن الإنسان مجبور على
فعله وقدرية يقولوا بأن الإنسان يخلق فعل نفسه أنا أعرف أن بعض الناس أنا
أعرف أن بعض الذين يشاهدون هذه الحلقة يقولون هؤلاء بعض مدرسي العقيدة
يتحدثون عن فرق أكل عليها الدهر وشرب وصارت في متحف التاريخ وهذه الفرق
انقرضت، الكلام هذا غير صحيح الجهم بن صفوان، ولا وبعض رؤوس الفرق هؤلاء
ماتوا من مئات السنين، لكن الفكر لا يزال موجودًا لا يزال القول بالجبر
ونفي القدر لا يزال موجودًا إما عند بعض الفرق الإسلامية، وإما موجودة في
المذاهب المعاصرة في بعض المذاهب الأدبية والفكرية وجملة من الروايات الآن
التي يقرأها الأجيال نجد أن في هذه الرواية ما يقرر عقيدة الجبر، يعني أنا
أذكر في بعض الروايات كما ذكر بعض الباحثين بعض روايات نجيب محفوظ التي
يعني يتلقفها كثير من الناشئة، الأسف ضعف هذه الرواية تقرر عقيدة الجبر،
وتقرر بطريقة في غاية الخبث يعني ليست بطريقة كلامية، وإنما بطريقة روائية
جذابة ينخدع بها هؤلاء الأجيال المقصود بأن هؤلاء الأفكار لا تموت نعم
يموت أصحابها، لكن لا يزال مذهب الجبر ونفي القدر لا يزال موجودًا إما في
بلاد مسلمين أو حتى في بلاد أوروبية.
نفي
القدر معروف عند النصارى القول بالجبر معروف النصارى الجبر ونفي القدر كان
عند اليهود وعند النصارى، فهذه الأفكار لا تزال موجودة، والحمد لله الذي
هدانا لهذا فسلبنا من الجبر الذي عند هؤلاء الجبرية أو هؤلاء القدرية
الذين نفوا القدر وقالوا إن الإنسان يخلق فعل نفسه.