أخي أين زادك للرحيل
نبذة :
أخي
الكريم: ما أحوجنا إلى وقفة متأملة.. مع حقيقة الموت.. تلك الحقيقة المرة
التي يرحل بها الإنسان من حياة إلى أخرى.. ومن دار إلى دار.
إن
الحمدلله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. أما بعد:
أخي الكريم: ما أحوجنا إلى وقفة متأملة.. مع حقيقة الموت.. تلك الحقيقة المرة التي يرحل بها الإنسان من حياة إلى أخرى.. ومن دار إلى دار.
تلك الحقيقة التي حيرت العقول.. وحطمت أماني الخلود.. وأجبرت الناس على
اختلاف منازلهم أن يروا الحياة محطة عابرة.. لا خلود فيها ولا قرار.
ففريق منهم أدرك الحياة.. فآمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً
ورسولا، وعلم من دينه أن الحياة رحلة ابتلاء، يعبرها المؤمن مسافراً إلى
ربه، يرجو زاداً يبلغه إليه سالماً غانماً.
وفريق منهم أدرك تفاهة الحياة، وقصرها، واندثارها، بيد أنه ضل الطريق،
فاتخذها قراراً، ورضي بها منزلاً، ولم يعمل لزاد رحلته حساب! فهو في تناقض
واضطراب، وتضاد وعذاب.
أخي الكريم: فمن أي الفريقين أنت؟
وهل أعددت زاداً للرحيل؟
أنت عابر سبيل
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيك أن تكون كذلك، ويقول: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» [رواه البخاري]
وابن عمر رضي الله عنهما الذي وجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الوصية يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك» [رواه البخاري]
أخي: وسواء أعددت نفسك من العابرين لسبيل
الحياة أم أعددت نفسك من الخالدين المقيمين.. فأنت في النهاية سترحل وفي
سائر الحالات أنت عابرها!
فمُنى الخلود.. كالظل الزائل.. {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34]
هكذا خلق الله الحياة.. وهكذا أرادها.. {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26]
الكل وإن طالت الأعمار راحل، وبريق الدنيا مهما لمع زائل، وعمودها مهما استقام مائل.
نسير إلى الآجال في كل لحظة *** وأيامنا تطـوى وهــــــنَّ مـــراحل
ولم أر مثل الموت حقــــاً كأنـــه *** إذا مـا تختطئه الأمانــي باطــل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا *** فكيف به والشيب للرأس شامل
ترحل من الدنيـا براد من التقى *** فعمـــرك أيــام وهـــــنَّ قــــلائـــل
وكتب بعض السلف إلى أخ له: "يا أخي
يُخيل لك أنك مقيم، بل أنت دائب السير، تُساق مع ذلك سوقاً حثيثاً، الموت
موجه إليك، والدنيا تُطوى من ورائك، وما مضى من عمرك، فليس بكار عليك حتى
يكر عليك يوم التغابن"
زادك في هذا الرحيل
أخي.. يا من أيقن قلبك بطول السفر، وعلمت
أنك إلى الله عائد ومحتضر، لا تناقض بأعمالك يقينك، ولا تدع الغفلة تنخره
وتضعفه، حتى تنسيك زادك ومعادك.
فإن أقواماً أنستهم الغفلة زاد الرحل فقال الله لهم عند القدوم عليه: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]
قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟
قال: ستون سنة، فقال الرجل: إنا لله، وإنا إليه راجعون.
فقال الفضيل: أتعرف تفسيره! تقول: أنا لله عبد وإليه راجع، فمن علم أنه
لله عبد وأنه لله راجع فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف، فليعلم أنه
مسؤول، ومن علم أنه مسؤول، فليعد للسؤال جواباً.
فقال الرجل: فما الحيلة؟
قال: يسيرة
قال: ما هي؟
قال: تحس فيما بقي لك يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي، أخذت بما مضى وبما بقي.
وأنت أخي أيضاً عبدلله.. وعائد إليه.. {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]
أحسن فيما بقي يغفر الله لك ما مضى.. ربك حليم غفور.. تواب كريم.. يحب التائبين.. ويبدل سيئاتهم حسنات.. ويعفو عن الخطايا والزلات..
فبادر أخي.. بتوبة صادقة مع الله.. أظهر له
فيها عزمك على طاعته.. وندمك على معصيته.. وحبك لدينه.. واسأله برحمته
فإنه لا أحد أرحم منه.. وبإحسانه ونعمه.. وبين له ضعف حيلتك.. وشدة
افتقارك إليه..
واعلم أنه مهما كانت ذنوبك.. فهو يغفر الذنوب جميعاً..
أسرع أخي بالتوبة.. فإنه زاد الرحيل الأول.. وبدونها لن تظفر بزاد..
بادر قبل بغتة المنية.. وحلول الحسرة والعذاب!
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{53} وَأَنِيبُوا
إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ
الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ{54} وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ
بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ{55} أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى
علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ{56} أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ{57} أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي
كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 53-58]
أخي.. الإنابة الإنابة.. قبل غلق باب الإجابة..
الإفاقة الإفاقة فقد قرب وقت الفاقة.. ما أحسن قلق التواب.. ما أحلى قدوم الغياب! ما أجمل وقوفهم بالباب!
يا غافل القلب عن ذكر المنيات *** عمـا قليل ستشوى بيـن أموات
فاذكر محلك من قبل الحلول به *** وتـب إلى الله مــــن لهــو ولذات
إن الحمام له وقــت إلى أجـــل *** فاذكـــر مصــــائب أيـام وسـاعات
لا تطمئن إلى الــدنيـا وزينتــهـا *** قد حان للموت يا ذا اللب أن يأت
يقول ابن القيم رحمه الله: "إن الغافل عن
الاستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بمنزلة النائم بل أسوأ حالاً منه، فإن
العاقل يعلم وعد الله ووعيده.. لكن يحجبه عن حقيقة الإدراك.. ويقعده عن
الاستدراك سنة القلب وهي غفلته التي رقد فيها فطال رقوده.. وانغمس في غمار
الشهوات، واستولت عليه العادات، ومخالطة أهل البطالات.. ورضي بالتشبه بأهل
إضاعة الأوقات.. فهو في رقاده مع النائمين.. فمتى انكشف عن قلبه سنة
الغفلة بزجره من زواجر الحق في قلبه، استجاب فيها لواعظ الله في قلب
المؤمن.. ورأى سرعة انقضاء الدنيا.. فنهض في ذلك الضوء على ساق عزمه
قائلاً: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]
فاستقبل بقية عمره مستدركاً بها ما فات، محيياً بها ما أمات، مستقبلاً بها ما تقدم له من العثرات.
فاجعل أخي التقوى زادك.. واحذر الغفلة فإنها تُنسيك حقيقة سفرك.. وتغريك بزخرف الدنيا وتمنيك بالإقامة الزائفة..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أبو الحسن بن محمد الفقيه